الثامنة صباحاً أفقت كعادتي، تسللت نحو الصالة لأرتشف فنجان القهوة، وخرجت كالعادة ودعوات آمي تقتحم خلايا دماغي بقوة ، لتكون دافع قوي ومحرك يجعلني أمشي بحماس لأيام دون تعب أو ملل. ظللت أمشي في الشوارع وكأني لا اعرف هدفي مع انه كان محدد مسبقا، ورائحة الغازات المختلطة بتلك الدماء لشهداء الكرامة تخترق انفي ، لأغير الشارع مرات عدة، غير أني كنت أراهم أمامي في كل شارع ،حتى الوجوه كانت اليوم كئيبة ومخيفة وحزينة وقد سلبت منها الكرامة.
العاشرة صباحاً كان الموعد !!! فجأة شعرت بأني دخلت إلى مسرح الكل يمثل ويصرخ بصوت لا يشبهه، ونبره ليست له، وكأننا أجساداً مسكونة، لم استطع التمثيل ولا الرقص على تلك الدماء ولم أستطع الخروج وغيري كثير على نفس الوتيرة ،نقف في ذلك المسرح الذي يفتقد حتى للبطل والبطولة، لم يكن هناك أي أبطال سوى أولئك الأبطال الذين غادرونا لأنهم لا يشبهونا ، صادقون كانوا، فغادروا بهدوء نحو الكرامة، وبقينا نحن في دائرة المهانة.
لم التفت إلى شيء بعدها ولم ادقق بأي تفاصيل، فالشوارع معهودة بتلك المسيرات وكل ما فيها أصبح عاده لا يثير دهشتي أبداً.
توقفت لأن أقدامي رفضت المسير كأفراد القطيع يسيرون ويختفون أمامي، يوقفون السيارات والمارة ،لابد وان أوامر الساسة كان همهم الأوحد فلابد لمخازن الخذلان أن تكتظ بالوعود الكاذبة، وبين ملامح هؤلاء السائقين والمارة كان هناك اختلاف كبير.
كانت هناك امرأة الوحيدة الصادقة بيننا ، أحسست بضغط الأسئلة على نفسي ولمحت بين ثناياها جملة تنتظر ان تستقر في أعماقنا ،شعرت بغصة عميقة تضرب حلقي تداخلت صور الشهداء ، ضحكاتهم ، بسماتهم ، حزنهم ، أملهم ، أحلامهم ، غضبهم ، ورودهم والثورة.
فهذا الرصيف يذكرني بهم وذاك الشارع كان ممرهم ، تنهدت بعد أن أيقنت أني لا أقوى على النظر إلى تلك المرأة فعيونها تقتلني وصمودها يبهرني ، كيف لا وهي زوجه الشهيد (عادل الحميقاني).
منذ أول أسبوع لجمعة الكرامة وهي في الساحة بتلك الصورة، ولسان حالها يقول ماضون على العهد وعهداً منا يا شهيد أن لا نتخلى عن مطلبكم.
سنوات مرت ولازالت على ذلك العهد بتلك الصورة، إنها امرأة بألف رجل، فقد تذكرت زيارتي لها بعد جمعة الكرامة في ذلك المنزل الذي لن أنسى رائحة الحب والسعادة المتبقي في تلك الأسرة.
قالت لي يومها "ودعني عادل قبل ان يذهب لصلاه الجمعة كالعادة ولكن وداعه لي في هذه الجمعة كان مختلفاً ،فقبل أن يخرج من الباب ليخرج من حياتي ودعني بقبلة ونظرة لن أنساها ما حييت ،ثم يعود مره أخرى لوداعي وكان الوداع الأخير طلبت منه أن لا يذهب واني اليوم لا أريد مفارقته رفض وعزم التوجه إلى الساحة هرولت مسرعه إلى النافذة لأكحل عيني بنظرة أخيره، استشهد عادل وما يحزنني انه لم يترك لي منه طفل ولم يتبقى معي سوى الذكرى وتلفونه الأبيض الغارق بالدماء وأنفاسه الساكنة في أعماقي".
أمام كلماتها لم استطع الكلام لان مفرداتي وقاموسي اللغوي لا يوجد فيه ما قد يواسيها، وقبل أن أودعها يومها قالت لي سأذهب إلى الساحة كل يوم، وسنقتص من القاتل وسأكمل ثورة العدل.، ولقد صدقت. ومر عامان على مجزرة الكرامة ولا زالت صامدة تطلب القصاص من قاتل زوجها.