رغم الاتفاق الذي بدا ظاهراً في رؤيتي كل من المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح اللتين أعداهما عن جذور القضية الجنوبية وقدماهما خلال اليومين الماضيين لمؤتمر الحوار الوطني الشامل، رغم الاتفاق على البداية التاريخية والزمنية لظهور القضية الجنوبية، وتشديدهما في الرؤيتين على أن الحديث عن جذور القضية الجنوبية لا يعني بحال إدانة طرف سياسي أو اجتماعي وتبرئة طرف آخر أو محاكمة فترة تاريخية بعينها، وأن العبرة والدرس يجب أن ينصب على عدم تكرار دورات العنف والإقصاء، إلا أن نظرة سريعة وفاحصة في الرؤيتين معاً تكشف مدى التناقض الكبير في رؤية كلٍ منهما لجذور القضية الجنوبية، وما تعكسه كل رؤية لأفكار الحزب الذي أعدها بداهة. فبينما تنطلق كلا الرؤيتين في تحديد جذور القضية الجنوبية زمنياً إلى قيام الثورة اليمنية، سبتمبر واكتوبر، وإلى عام 67 كتأريخٍ مفصلي، إلا انهما لم يستطيعا ان يغفلا ان حرب صيف 94 شكلت البذرة الحقيقية والبداية الفعلية للقضية الجنوبية بمفهومها السياسي المعاصر.
بدت رؤية المؤتمر ضبابية ومواربة فيما يخص المسؤولية عن توتير الأوضاع عقب الوحدة مع شريكه فيها (الحزب الاشتراكي) محاولاً إلقاء اللوم على طرفٍ أو أطراف سياسية لم يسمها: كما جاء في نص الرؤية: "شاءت بعض الأطراف والقوى السياسية كالعادة أن لا تحل ما يشكل بينها بالطرق السلمية، فلجأت إلى العنف والاغتيالات والتآمر على بعضها وأخذت نخب سياسية ترتب للاستئثار بالقرار بعيداً عن أي استشعار للمصلحة الوطنية العليا للوطن".
كما واصل المؤتمر في رؤيته هذه محاولة النأي بنفسه عن توتير الأجواء السياسية بعد انتخابات 93، فعزا أسباب الأزمة السياسية الناشبة حينها إلى نتاج هذه الانتخابات كون نتائجها لم ترضِ طرفاً سياسياً معيناً (يقصد الحزب الاشتراكي) جراء صعود تجمع الإصلاح إلى المركز الثاني من حيث نتائج انتخابات 93، مذكراً أن الأخير – بالتلميح الأشد وضوحاً من التصريح – كان معارضاً للوحدة ودستورها، كما لم ينسَ اتهام بعض المحسوبين على الإصلاح بالضلوع في أعمال عنف واغتيالات، ولم يغفل الدور الإقليمي نتيجة موقف اليمن من احتلال العراق للكويت كمؤثر ساهم في تنامي الشقاق بين شريكي الوحدة، وهو ما أدى بحسب زعمه إلى اندلاع حرب 94 الذي خاضها (أي المؤتمر) بحكم الأمر الواقع دفاعاً عن الوحدة، بعد أن "فشلت مساعي الصلح وأفرغت وثيقة العهد والاتفاق من فحواها قبل أن يجف حبرها لعدم نية بعض الأطراف الموقعة عليها العمل بها"، كما ورد في رؤية المؤتمر.
لم تنسَ رؤية المؤتمر في استعراضها ما ولدته الحرب في الجنوب من مشاعر الأسى وما تركته في نفوس الجنوبيين بالغبن والظلم، أن ترد أسباب ذلك إلى أن الحرب اقترنت ببعض "الفتاوى المثيرة" مشيرة ً إلى الاستيلاء على بعض المقرات والممتلكات العامة "وبعض بيوت القادة"، وهو تعريضٌ لا يخفى ولا تخفى أسبابه.
وتواصل الرؤية الهروب مجدداً من الممارسات الإقصائية التي اتبعتها السلطة فحين تتحدث عن عملية الإقصاء التي تلت الحرب، تنكر انها من قامت بذلك وتعزوها إلى أطرافٍ أخرى، وتنكر الإقصاء "إن الفئة التي اعتادت التفرد بالأمر وجدت نفسها بعد الحرب في تزاحم مع كوادر كانت مقصية أو جديدة فسمت ذلك إقصاءً أو إبعاداً"، مستطردة ً: "وأياً كان الأمر فإن ما جرى لم يكن بمنظور مناطقي (شمال جنوب) أبداً".
بل تتمادى في إنكار الإقصاء للطرف الجنوبي وتشبههُ بما تقول "أنه يجري الآن في بعض أجهزة الدولة إلى حدٍ معين بشأن كوادر تم إقصاؤها أو مهددة بالإقصاء"، نص رؤية المؤتمر.
وهو تفسير غير واقعي على الإطلاق وتواصل الرؤية المؤتمرية هذا التبرير غير المنطقي فيما يخص التباطؤ مع بعض المطالب الحقوقية كقضايا المتقاعدين مرجعة أسباب ذلك إلى إستراتيجية الأجور الصادرة عام 2006 كما جاء في نص الرؤية ص9.
وتواصل ذلك السرد اللاواقعي متحدثة عن شراكة بالقرار السياسي: "إن الميل الواضح لدى القوى الشريكة والمؤثرة في صنع القرار بالاستئثار للقرار السياسي دون المراعاة للشراكة والمصلحة الوطنية العليا"، لا أدري عن أي شراكة تتحدث ورقة المؤتمر وعن أي قرار سياسي كانت تتخذه المعارضة حينها.
وتواصل رؤية المؤتمر سردها للأزمة قبيل ثورة 11 فبراير قائلةً: "لاحت بوادر خلافاتها (المعارضة) في أزمة صامته في البدء ثم تطورت حتى صادفت ما يعرف بالربيع العربي"، بحسب رؤية المؤتمر، موضحةً: "وهكذا خلت أزمة 2011 لتجد القضية الجنوبية مكاناً هاماً فيها".
بينما اختار التجمع اليمني للإصلاح في رؤيته النأي بنفسه عن الحديث المفصل عن موضوع الوحدة والحزب، مفضلاً القفز إلى تفاصيل ما جرى بعد حرب 94 من ممارسات اقصائية من قبل شريكه في الحرب والسلطة بعدها (المؤتمر الشعبي العام): "أدارت السلطة ظهرها لأسس التعددية السياسية والحزبية ومرتكزات الشراكة الوطنية التي قامت عليها الوحدة عام 90 وأصرت على التعامل بخفة وتعالٍ ومع أوضاع وتحديات ما بعد حرب 94 خاصة مطلب إزالة آثارها وبلسمة جراحات الجنوب وأغفلت الدعوات التي نادت بها عددُ من القوى السياسية والشعبية، بما فيها التجمع اليمني للإصلاح في مؤتمره العام الأول في بيانه الختامي الصادر في 24/9/1994"، بحسب رؤية الإصلاح.
ثم يستفيضُ بيان الإصلاح مستطرداً ممارسات المؤتمر الإقصائية واستفراده بالحكم:" سياساته التدميرية التي انتهجها بصورة أفضت إلى تكريس نزعة الهيمنة والإقصاء، وإعادة قولبة الأوضاع في الجنوب كأنه مجرد جغرافيا بلا تاريخ وبلا خصائص سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية". ويواصل الإصلاح في رؤيته سرد الممارسات الخاطئة التي انتهجتها السلطة ضد الجنوب وعدم التفاتها لرؤى ومقترحات اللقاء المشترك؛ ما أفضى لحالة غليان غير مسبوق في الشارع الجنوبي، بدأت باحتجاجات المتقاعدين في 2007 وبروز الحراك الجنوبي وتنامي الدعوات المطالبة بالانفصال وفك الارتباط.
ويمكن القول عموماً إن المؤتمر الشعبي يؤكد في رؤيته أن حل القضية الجنوبية يجب ان يكون ضمن قضايا الوطن عامة ويجب أن ينبع من منطلق حواري سلمي، وإيقاف عجلة الإقصاء تحت أي ظرف كان، بينما تستقرئ رؤية تجمع الاصلاح القضية الجنوبية من بعدين أساسيين: بعد سياسي وبعد اقتصادي.