تواصل أنقرة حشد قواتها على الحدود التركية السورية للمشاركة في توجيه ضربة لنظام الأسد تأمل ألا تكون عقابية انما تضع حداً لنهاية حكمه. يواجه هذا القرار معارضة داخلية وذلك أمر طبيعي يعكس حيوية المشهد الديمقراطي كما يواجه قراءات متجزئة من مناهضي الدور التركي الذين التقطوا الفرصة لصب جام غضبهم على حكومة العدالة والتنمية عبر تقديم تصورات مشوهة للقرار لاتقف على خلفية المشهد السوري وتداعياته الاقليمية والدولية.
أبرمت أنقرة عشرات الاتفاقيات مع النظام السوري تعددت وتزايدت مصالحها يوماً بعد آخر وحاول الأسد الاتكاء عليها في تلطيف الموقف التركي من تعاطيه مع ثورة الشعب السوري غير أنها قررت الوقوف الى جانب السوريين لأنه لم يكن من اللائق بدولة ديمقراطية محترمة التمسك بمصالحها المادية في ظل التعاطي الوحشي مع مطالب الحرية.
خسرت أنقرة مصالحها مع الأسد وتملكها الصبر في مواجهة استفزازاته المستندة الى الانتهازيين الناقمين على تركيا وقوفها الى جانب الشعوب كالتزام ديمقراطي فرض احترامها وعزز مكانتها ويُراد النيل منها باستخدام الأسد.
امتد عنف نظام الأسد في مواجهة الثوار الذين شرعوا في الدفاع عن أنفسهم وأفرز المشهد السوري تحالفات مناهضة للأسد وأخرى مؤيدة لجرائمه كإيران وروسيا وكانت أنقرة في طليعة مؤيدي مطالب الشعب السوري كونها أحد أكثر المتضررين من تداعيات جرائم الأسد لكنها لم تتمسك بضرورة أن تكون في الواجهة عندما صرح حليفها باراك أوباما مطلع 2012 بأن على روسيا أن ترعى مرحلة انتقالية في سوريا كما حدث في اليمن، مع أن ذلك كان يعني وفقاً للكاتب "سلامة كيلة" "أن أميركا تتنازل عن سوريا لروسيا، أو تقدم سوريا لروسيا في ظل البحث عن تقاسم عالمي جديد".
لم تُبد أنقرة أي رفض لتوجهات واشنطن نحو التسليم لحل روسي وهذا يُوضح حجم تداعيات المشكلة السورية على أمن تركيا القومي وبالتالي تسليمها المبدئي لأي طرف يمكنه حلحلة الموقف وانهاء دوامة الصراع الذي كلّفها الكثير ، غير أن روسياوايران تمسكت بالمواقف المتعنتة بل الذهاب في اتجاه التحول الى شركاء فعليين للأسد في قتل السوريين ناهيك عن الشروع غير المسئول في تحويل المنطقة الى بؤرة صراع مذهبي بإعطاء الضوء الأخضر لمليشيات "حزب الله" بالتدخل المباشر في جرائم التطهير العرقي وافراز تكتلات مذهبية متصارعة على مقربة من الجغرافية التركية ذات الحضور العلوي وللقارئ أن يتخيل حجم المشكلة بالنسبة لأنقرة واقتصادها الصاعد بقوة واستقرارها السياسي لُيدرك خلفية موقفها.
لم يشهد الوضع السوري أي حلحلة وجاءت التطورات الأخيرة ل"تُظهر بأن روسيا هي بالفعل إمبريالية غبية" وفقاً ل"كيلة" وهو ما يسري على ايران، فقد عادت الأمور لتصب في مصلحة مناهضي الأسد وتفتح لأنقرة أملاً في التخلص من أعباء المشهد السوري فجاء سقف مطلبها مرتفعاً عبر الدعوة لضربة تُنهي حكم الأسد لا تأديبية فحسب.
عندما نشاهد تحفز أنقرة للمشاركة في ضربة عسكرية لنظام الأسد ينبغي اضافة إلى الاعتبارات السابقة ألا نحكم على هذا الموقف بشكل منفصل عن موقفها من حرب العراق التي يجري تصوير ضرب الأسد على شاكلتها مع أنها على النقيض، ففي حرب العراق التي ذهب اليها بوش الابن بإيحاء من أباطرة المال الراغبين في السيطرة على ثروات الشعوب جرى استهداف قدرة المؤسسات العراقية التي تمكنت من الصمود في مواجهة الحصار الدولي للتمكن من توسيع الشرخ المذهبي في المنطقة وشغل الناس بأوهام الصراعات التأريخية عبر اخضاع العراقيين لنفوذ ملالي ايران ذوي المقدرات المالية الهائلة التائقين لاقتسام ثروات البلد مع الغزاة.
يومها اتخذت تركيا قراراً قضى بمنع استخدام القواعد الأمريكية لديها في هذا العدوان مع أنها كانت ستمثل حليفا استراتيجيا لواشنطن لاغنى عنه في غزو العراق كون حدودها التي تطل على الشمال العراقي هي جزء لا يتجزأ من الخطة الحربية.
هذا الغزو الذي رفضه يومها معظم العرب والمسلمين على النقيض من ضرب الأسد وأفضى الى تدمير بلاد الرافدين وأفقد العراقيين القدرة على الخلاص حتى يوم قرروا ذلك عبر خيار ديمقراطي منح القائمة العراقية تفويضاً شعبياً بالتصدر لحكم البلاد رفضه حرّاس الطائفية وأصروا على اخضاعهم مجددا للمالكي ، بينما اليوم يستغيث معظم السوريين طلباً للنجدة من ديكتاتور دمّر بلادهم وقتل أطفالهم ونسائهم رغبة في اخضاعهم لاعتبارات مذهبية بمشاركة أولئك الذين حرسوا مشروع اخضاع العراقيين.
لاشك أن كافة الحاضرين في المشهد السوري يودون حماية مصالحهم غير أن مراعاة أنقرة لتطلعات الشعب السوري كالتزام ديمقراطي يحكم تحركها في هذا الاتجاه قد جلب عليها نقمة الانتهازيين والقتلة الذين واصلوا وضع أيديهم في يد الأسد وأرادوا حماية مصالحهم عبر اخضاع السوريين له على حساب دمائهم، كما جلب عليها معارضة غير العابئين بالمخاطر المحدقة ببلدهم ونقمة انتهازيي الداخل الغير مدركين لكون حكومتهم عندما تُضحي بمصالحها الآنية مع الديكتاتوريات وتتمسك بالتزاماتها الانسانية والديمقراطية انما تُرسي مصالحها الاستراتيجية على أسس معتبرة تبقى ما بقيت الشعوب.