[1] عندما كتبنا عشية الاستفتاء في مصر على الدستور/ التعديلات الدستورية (على اختلاف الرواية لما حدث في جنة الخمسين برئاسة عمرو موسى) أن المسيرة في أرض الكنانة صار يتقدمها طائفة: رقصني يا جدع. عندما كتبنا ذلك لم يكن ببالنا أن الوصف سيكون قاصرا عن وصف ما سيحدث هناك. فمن التغطية الإعلامية الرسمية لمجريات الاستفتاء تأكد أن الرقص: رجالا ونساء هو أقوى رد وجدت السلطة الانقلابية في مصر أنه ينفع في الرد على دعاوى مقاطعة الدستور. وانتشرت في الفضاء الإعلامي: مصريا وعربيا وعالميا مقاطع عديدة للراقصات غير المحترفات (المحترفات؛ الله وحده يعلم ماذا صنعن دعما لمسيرة الدستور واستعادة الوجه القومي لمصر؟) اللاتي أقمن حفلات سفري أمام لجان الاستفتاء للتعبير عن فرحتهنّ بما يجري في مصر منذ الانقلاب حتى الاستفتاء، ولأن الوعي هو انعكاس للواقع كما يقول الماديون في تفسيرهم للتاريخ فقد كانت وصلات الرقص الشرقي أمام آلات التصوير انعكاسا للتعبير عن وعي الراقصات بأن ما يجري في مصر هو رقصة سياسية قبل أن تكون رقصة فنية! لا مجال للجدال ولوم النساء الراقصات الديمقراطيات (غالبا هنّ يبحثن عن مصروف اليوم.. ويجرين على أيتام أو أبوهم مريض!) فمنذ وقع الانقلاب شهدت مصر أكبر رقصة جماعية شارك فيها العسكر وممثلو الكهنوت الديني المسيحي والأزهري، وسياسيون من كل نوع؛ رقصوا كلهم على أنغام الانقلاب العسكري بقيادة حسب الله السيسي، ولم يقتصر رقصهم داخل البلد فذهبوا في رحلات جماعية (شارتر) إلى مشيخات الخليج الثورية؛ ليس فقط لتطمينهم أن مصر استعادت دورها القومي ووجهها العربي، والإسلام المعتدل، وعادت إلى التاريخ والجغرافيا بعد عام من حكم الإخوان، ولكن الأكثر أهمية تطمين السياح العرب في عرينهم أن مصر المعادية للإخوان لم تغيّر ولم تبدّل.. وأن الجميع يرقص: فنيا وسياسيا وفكريا لجذب السياح تمهيدا لحدوث التلاحم بين الرقص المصري والمال العربي!
[2] سوف يحتاج غير العارفين بالتراث الشعبي المصري في تاريخ الانتخابات والاستفتاءات المصرية ؛وخاصة في ظل ستين سنة من الحكم العسكري؛ إلى وقت للإلمام بعلاقة الرقص بالسياسة والديمقراطية المصرية، وما الذي يدفع نساء (بعضهنّ محجبات، وواحدة منقبة وزعت محشي وفراخ على أفراد الجيش الذين يحرسون سيناء في لجان الاستفتاء.. مما ينفي الأكاذيب التي تقول إن الحجاب والنقاب يغطي عقل المرأة، ويعيق مشاركتها في العمل السياسي؛ ناهيكم عن الفن والحياة العادية!) إلى تقديم وصلة رقص شرقي.. ساخنة على الهواء مباشرة؟ أو فعل مثل تلك المرأة التي حاولت اقتحام موكب عمرو موسى - بابا دستور العسكر!- لتقبيله وهي تصرخ: [ هبوسه.. عايزه أبوسه.. هو اللي عمل لنا الدستور!]. الغريبة أن عمرو موسى لم يغضب مما حدث: امرأة تردد: هبوسه.. وهتتباس يا عباس يعني هتتباس رغم أن الأمر سياسة! ولم يقول للست: [عيب يا ست.. إحنا ناقصين.. قرف! سيبي الحاجات دي لليلى علوي وإلا يسرا وإلا رغده وإلا إلهام شاهين.. وإلا إن شاء الله حتى لميس.. يعني التوجيه المعنوي ما لقيوش ست غيرك.. جتكوا البلاوي كلكم!].. وسر الغرابة هنا أنه هو الذي استنكر الدعوة لقول: لا للدستور. مع أن معنى الاستفتاء هو تخيير بين: نعم.. أو: لا. ومفتيا أن: لا.. نوع من التهريج أو كما قال وهو يحرك رأسه ويديه بطريقته المسرحية: [بلاش تهريج وقول: لا.. مصر مش ناقصة تهريج] وهذا فهم بابا الدستور. فحاولوا تخيل مستوى فهم الأقل مستوى! ومع ذلك فالبركة فيكم يا عم الحاج! هو أنتم خليتم واحد في مصر محتاج للتهريج! والحق أن الرجل لديه حق في وصف المعارضة للدستور بأنه تهريج. فالإعلام المصري نشر أن الرئيس المخلوع/ حسني مبارك نفسه قرأ الدستور (أخيرا.. وجد متحمس للدستور يقول إنه قرأه!) وأعجبه، ودعا للتصويت ب(نعم) عليه، والمطربون والمطربات والممثلون والممثلات هبوا على كعب داير يؤيدون الدستور حتى كادت الأرض من حركتهم تهتز.. وخشي الناس: ليكون زلزال! بعد كل هذا يأتي مصري ليقول: لا للدستور؟
[3] لأن العرق دساس والطبع يغلب التطبع فدعوة المخلوع مبارك لقول: نعم للدستور، والنتيجة النهائية للاستفتاء التي ستكون فوق 95% كما بشرت دوائر مصرية، فهذا دليل جديد على أن التقاليد العسكرية الديمقراطية المصرية لم تمت، واستعادت عملها بعد إجازة إجبارية لمدة سنتين ونصف فقط، وكل شيء عاد لأصله! والبيروقراطية المصرية مشهورة منذ أيام المماليك في إجادة تنظيم مهرجانات الاحتفالات في أيام المناسبات الدينية، واستقبال الولاة الجدد وترحيل المعزولين، وقد ترسخت هذه التقاليد حتى في العهود الجمهورية.. والذي يتمكن من الحصول على أعداد قديمة من الصحف المصرية فسوف يجد أن كل رؤساء الجمهورية، بدءاً من اللواء محمد نجيب كان يحظى بمثل هذه الاستقبالات الحاشدة، وبالمقارنة بين صور العهود المختلفة المتناقضة إلى حد العداء فسوف يكتشف أن الصورة واحدة والمتغير الوحيد هو.. شخص الرئيس! ظاهرة حالة الرقص الساخن على الماشي التي شهدتها لجان الاستفتاء ليست هي الدليل الوحيد على الالتفاف التاريخي حول الدستور والذين جابوا الدستور، ففي يومي الاستفتاء فقط سجلنا عددا من المشاهد الديمقراطية المماثلة المشهورة في السياسة المصرية، وقراءتها فقط تؤكد: عودة تراث الشمولية الفرعونية العريقة، فقد تكررت تقريبا نفس الممارسات؛ ومنها قيام التوجيه المعنوي للجيش بتسيير دورياته التقليدية في الشوارع لحث المواطنين للمشاركة وقول: نعم للدستور! [أذكر في العام 1989 أنني وصلت القاهرة قبيل وصول زعماء مجلس التعاون العربي ؛بمن فيهم الرئيس السابق لبلادنا؛ لحضور إحدى القمم. وفي أثناء سيرنا في الطريق خارج المطار كنا نسمع مكبرات صوت تذيع أغاني وطنية، وشعارات عن العمل العربي المشترك، والمارد العربي.. إلخ.. ولحظتها ضرب السائق عجلة القيادة بحنق (وكان في يونيو) وهو يقول لنا ما معناه: نفس الكلام والشعارات التي كانوا يرددونها ونحن نعود من سيناء عام 1967 مهزومين جائعين!.. للعلم؛ ثلث الجيش المصري شارك في حماية الاستفتاء بقوات نوعية منها قوات التدخل السريع! والطائرات الحربية كانت تصول وتجول في أجواء بعض المناطق!].
[4] الملهاة الدستورية المصرية كللت بمواقف مصورة أسوأ من الرقص، ودون طلب: بوسة من عمرو موسى.. فأحد المواطنين (أكيد من الناس اللي ما يتسموش!) رقص أيضا أمام إحدى اللجان وهو يضع على رأسه: جزمة أو بيادة عسكرية! وقيل إنه يقلد بذلك إحدى الراقصات المصريات الشهيرات التي كانت ترقص (بدون دستور!) وهي تضع على رأسها: شمعدان شمع مولعة. وصورة ثانية لرجل وامرأة يقبلان..جزمة عسكرية! امرأة جاءت هي وأبناؤها بعد أن ألبستهم ثيابا عسكرية تأكيدا لرفض الدولة الدينية وتأييدا للدولة المدنية! وطفل جاء وقد حلق رأسه بطريقة: نعم للدستور! ومريض جاء وأسلاك الأكسجين مربوطة بأنفه وابنه وراءه يحمل أنبوبة الأكسجين! الشاعر الشعبي/ عبد الرحمن الأبنودي جاء ليصوت وهو يلبس قميصا عليه صورة السيسي! [ المرأة طلعت أشرف من المثقف!].
الصحف تنشر أن إخوانيا طلق زوجته لأنها قالت: نعم للدستور! مذيع يصرخ مشجعا الناس على الاستفتاء: عايزين نضرب أمريكا! أما مصطفى بكري (أكثر السياسيين والصحفيين سفالة) فعنده أن الذي لا يشارك في الاستفتاء يطعن في مصر، مؤكدا أن طوابير الاستفتاء تصل إلى خارج اللجان بالمئات! وهو الذي قاد حملة: مصر بلدنا لإجبار السيسي على الترشح لانتخابات الرئاسة! الشفافية المصرية التقليدية في أداء الواجب الديمقراطي استعادت بريقها.. فنشرت صور لطفل يشارك في الاستفتاء ويضع الورقة في الصندوق! وظهر مشهد لرجل وهو راح جاي داخل اللجنة ليضع أرواق استفتاء في الصندوق! وفي محافظة الشرقية كانت سيارة بمكبرات الصوت تتجول في الشوارع تدعو: نعم للدستور.. نعم للسيسي.. لا لأمريكا وآشتون! وعندما سئل أحد الصارخين عمن تكون آشتون هذه؟ رد قائلا: دي بلد جنب أمريكا! كل هذا يحدث والبعض لا يريد أن يصدق أن أيام العزة القومية عادت من جديد!