مع إعلان التعديل الوزاري الأخير عاد الحديث عن حكومة الكفاءات والنزاهة ورفض المحاصصة الحزبية وإعادة البلاد للارتهان للقوى القديمة.. إلخ الإكليشة المملة من الانتقادات التي صارت متلازمة في بيانات بعض الأحزاب والجهات والأفراد كلما صدر قرار بتعيينات وزارية أو في أي مرفق من المرافق الحكومية! وابتداءً؛ فإن تلك الانتقادات ليست محرمة ولا ممنوعة.. ولكن عيبها أنها تصدر عن أحزاب وجهات وشخصيات مستقلة (!) يتقلبون في نعيم المحاصصة بكل أنواعها منذ بداية الفترة الانتقالية! ولولا هذه المحاصصة لما عرف بعضهم رائحة بوابة مجلس الوزراء ولو بعد مائة عام.. ولما غرق آخرون في دولارات مؤتمر الحوار الوطني! ولا عرف سفريات ونزهات إلى هنا وهناك! ولا حلموا أصلاً أن يرتادوا فندق موفمبيك شهوراً طويلة أو يظهروا على شاشات التلفاز ليمارسوا دور المنظرين عن الدميقراطية والفيدرالية والدولة المدنية والتنمية المستدامة وغيرها من مواضيع المؤتمر! ومع ذلك فها هم أكثر الأصوات تنديداً بالمحاصصة حزبية كانت أو جهوية أو قبلية أو طائفية! حكاية تعيين الكفاءات في وزارة جديدة أو في أي تعديل وزاري أو في قرارات التعيين تنسحب عليها أيضاً الملاحظة السابقة، وأسوأ ما فيها أنها تصدر عن أحزاب مشاركة في الحكومة بممثلين رسميين.. ومنذ بدء الفترة الانتقالية حصل أعضاؤها على عدد من المناصب الحكومية، والمنح العلاجية، والمساعدات المالية، والوظائف بما يصعب عدُّه.. ومع ذلك فهي أكثر الجهات التي تطالب باعتماد الكفاءة والنزاهة عند تعيين مسؤولين.. وهو مطلب وجيه وصحيح لكن عندما يصدر من الجهات نفسها التي كان لها نصيب في التعيينات والقرارات على أساس الزمالة والرفاقية وليس الكفاءة.. فالأمر يصير استغباء للرأي العام الذي يظنونه غافلاً عما يفعلونه في قرارات التعيين في وزاراتهم والمرافق التابعة لها دون النظر إلى الكفاءة؛ أو إن أحسنا الظن فهم لا يرون الكفاءة إلا في أعضاء أحزابهم! وبالمناسبة فهم أكثر من ولى الشباب في المناصب الكبيرة الدسمة.. ولا عيب في ذلك إلا أن هؤلاء الشباب كانوا- صدفة- من أبناء القيادات والزعامات! دعونا نركز الحديث على الحكومة القائمة أو الجديدة المقترحة التي تنالها أغلب المطالبات الحزبية (!) باعتماد الكفاءة والنزاهة معياراً للتعيين فيها.. أفلا يعني هذا أن الأحزاب المشار إليها لم تلتزم عندما قدمت ممثليها ليكونوا أعضاء في حكومة الوفاق بأن يكونوا من ذوي الكفاءة والنزاهة؟ هل الوزير الفلاني، والذي جنبه، والتي أمامه الممثلون للحزب العلاني في الحكومة ليسوا كفاءات ولا نزيهين؟ لا تقولوا: نحن نقصد ممثلي الأحزاب الأخرى.. فهذا قول باطل، ولا يحق لطرف ما في ائتلاف حكومي أن يجعل من نفسه قاضياً يحدد من هو الكفء ومن هو النزيه لدى الآخرين، ومن بيته من زجاج فعليه الحذر من رمي بيوت الآخرين بالحجارة! وعليه فقط أن يلتزم هو بهذه المعايير إن صدق أنه يؤمن بها! السؤال الآن: ما الذي منع هذه الأحزاب الشاكية، الباكية، التي تذكرت الآن الكفاءة والنزاهة؛ وترفع عقيرتها في كل مناسبة بالحديث عنها؛ من أن ترشح كفاءات نزيهة لحكومة الوفاق منذ الوهلة الأولى؟ لو فعلت أحزاب الجعير هذه ذلك فقط لكانت الأغلبية في الحكومة من الكفاءات النزيهة (بإضافة 17 وزيراً من الممثلين للمؤتمر وحلفائه إلى جانب عدد آخر من الوزراء الممثلين لبعض أحزاب اللقاء المشترك!) وهذه نسبة عالمية غير متوقعة في أي حكومة سويسرية! وسؤال ثانٍ: وما الذي يضمن في حال تشكيل حكومة كفاءات أن يكون أعضاؤها وممثلو الأحزاب من ذوي الكفاءة والنزاهة المتفق عليهم؟ الحق أننا نخشى أن يكون أعضاء حكومات الكفاءات هم أنفسهم أعضاء الحكومة القائمة إلا.. قليلاً! وسؤال ثالث: حزب المخلوع وحلفاؤه أكثر الصارخين الباكين المطالبين بحكومة كفاءات.. وهم لديهم 17وزيراً يفترض أنهم كلهم ناجحون ونزيهون (باستثناء أربعة فاشلين على ذمة البركاني.. أيوه ذمة؟ إيش يعني.. ما فيش قطع غيار تايوان يستر بها الإنسان نفسه؟).... والمؤكد أنهم كلهم أو معظمهم كانوا وزراء سابقين في حكومات ودولة المخلوع القديمة.. فهل هم كفاءات أم لا؟ وهل هم نزيهون أم لا؟ فلنستبعد الوزراء الأربعة الذين صار ولاؤهم للمخلوع مشكوكاً فيه كما يفهم.. فما الذي يمنع المخلوع إن كان ممثلوه في الحكومة غير كفاءات أن يغيرهم بكفاءات فقط وليس بالضرورة نزيهين (خلوا الطبق مستور).. ومثله الأحزاب الأخرى المشاركة في الحكومة الشاكية الباكية التي تتحدث عن ضرورة تشكيل حكومة كفاءات بدلاً عن القائمة.. ما الذي يمنعها من تغيير ممثليها هي الأخرى بكفاءات؟ وسؤال أخير: من أين جاءت حكاية اشتراط الكفاءة هذه إلى قاموس جماعة المخلوع؟ ألم يكن هو الذي يولي الوزراء والمسؤولين والقادة وفق معايير ليس لها علاقة بالكفاءة: فوزير الأوقاف يصير وزيراً للرياضة! والطبيب يصير وزيراً للخارجية أو نائباً لوزير التربية والتعليم! ونائب وزير النفط يصير نائباً لوزير الخارجية؟ ورئيس اتحاد وكالات السفريات والحج العمرة يصير أركان حرب الأمن المركزي؟ والمختص دراسياً بتاريخ وأعراف القبيلة يصير وزيراً للتعليم! ووزير الصحة يصير وزيراً للشباب والرياضة (هذه معقولة لو كان المخلوع فعلها على أساس ارتباط الصحة بالرياضة!).. ونصف المعينين في مؤسسات مكافحة الفساد من أصحاب الملفات المشبوهة! مسألة الدندنة الناقدة عن المحاصصة في أي قرار صارت نكتة على طريقة عادل إمام في مسرحية "شاهد ما شافش حاجة" عندما كان في المحكمة يستمع لممثل النيابة وهو يقرأ التحقيقات عن جريمة القتل؛ فقد كان همه فقط هو أن يسأل: "اسمي موجود؟".. وكذلك أحزاب الكفاءة والنزاهة المشاركة في الحكومة؛ فاهتمامها فقط في كل تعديل وزاري أو في أي تعيينات جديدة في مؤسسات الدولة هو أن تدقق في الأسماء لتعرف: "اسمي موجود.. أو حزبي موجود؟".. فإذا كان لها نصيب أو حصة ولو على الريحة فأهلاً ومرحباً.. والمحاصصة معقولة، ومش بطالة، والضرورات تبيح المحظورات، وعلى الجميع الالتزام بروح المرحلة والتوافق.. وإذا لم يكن لها نصيب في التعيينات فلا كان التوافق ولا كانت المرحلة، وأبو المحاصصة بنت الكلب! في بعض الأحيان يحدث أن يندد حزب ما أو جهة بقرارات جديدة بحجة استنكار المحاصصة الحزبية؛ ثم بعد قليل يتبين أن هناك واحداً من المعينين ذي نسب أو صهر أو صنو أو معرفة حزبية قديمة؛ فيتغير الموقف ويصير: المحاصصة لا تهمنا.. المهم هو المشاركة السياسية في إعداد الدستور والانتخابات!