عاد الفلول أو ما نسميهم في اليمن: بقايا النظام إلى كراسي الحكم في بلدان الربيع العربي بطرق شتى؛ تراوحت ما بين الانقلاب العسكري (مصر)، والفوز في الانتخابات بالمركز الأول في الانتخابات النيابية (تونس).. وفي ليبيا يحقق التمرد العسكري المدعوم من الخارج انتصارات أحياناً وينتكس أخرى، لكن هناك تصميم إقليمي كما يبدو على إسقاط ثورة الليبيين ضد نظام القذافي نهائياً على الطريقة المصرية ومبرراتها.. وفي اليمن تكاد صفحة الثورة الشبابية الشعبية تطوى مع التطورات الأخيرة التي كان للنظام السابق وبقاياه دور أساسي في التخطيط والتنفيذ لها! العودة الجديدة لفلول نظام زين العابدين بن علي؛ الذين فاز حزبهم بالمركز الأول في الانتخابات التشريعية؛ ليست هزيمة بالمرة لثورة الربيع العربي الأم؛ طالما أنها تمت وفق المسار الديمقراطي الذي كان الهدف الأول الأساس لها، بل هو انتصار تاريخي للثورة وللثوار أن تتكرس حقيقة أن الانتخابات الحرة والنزيهة والرضا بإرادة الشعب هو السبيل الوحيد للوصول إلى السلطة أو الخروج منها.. لكن ما حدث في مصر، ويحدث في ليبيا واليمن من انقلابات عسكرية وتمردات مليشاوية مسلحة هو الذي يشكل الردة الحقيقية عن زمن الحرية، وهنا مكمن الخطورة أن تعود الأحوال إلى ما كان عليه الأمر من قبل (الأنموذج المصري).. أو تنجرف الأوضاع إلى ما هو أسوأ مما كانت عليها في الماضي كما تلوح المؤشرات في ليبيا واليمن!
**** لا يجمع بين ما حدث في دول الربيع العربي المذكورة إلا أن قصر النظر والحسابات الأنانية وخيار أبي فراس الحمداني الشهير "إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطر!" لدى كثير من قوى الثورات الشعبية؛ هو الذي سمح للفلول والبقايا أن تستعيد زمام الأمور بالتحالف مع بعض قوى الثورة نفسها، وأن تحول هزيمتها إلى انتصارات، وأفراح وليال ملاح! ودون أن نقلل من التآمر الخارجي الذي كان قاسماً مشتركاً؛ إلا أن الخذلان الداخلي وتفكك روابط قوى الثورة والأوهام القديمة كانت السبب الأكثر خطورة وأهمية في هذا المصير والانتكاسة المحزنة.. وهل هناك أبشع انتكاسة من أن ترى بعض قوى الثورة وهي تصطف وراء الفلول والبقايا، وتكون أكثر حقداً وتصميماً على إسقاط الثورات الوليدة، بمبررات واهية تكشف تفاهة فهمها لمعاني التغيير المنشود، وضبابية مفاهيم الحرية والديمقراطية ومقتضياتها في قاموسها! ورغم ظلام الردة عن الحرية الذي تزحف سحبه السوداء من هنا وهناك؛ إلا أن التشبث بالأمل والعض بالنواجذ على أهداف ثورة الربيع العربي يجب أن يكون ديدن المؤمنين بضرورة التغيير وانتصار شعوب الأمة في معركتها الطويلة ضد الطغيان والاستبداد.. والوعي بأن الطريق ما تزال طويلة وتحفها المؤامرات والخيانات (!) من كل جانب.. لكن في الأخير (وبإذن الله تعالى) فلا بد أن يستقيم الأمر للأمة، ويعود إليها حقها الطبيعي في حكم نفسها بنفسها دون وصاية من حاكم فرد أو حزب أو أسرة أو سلالة أو قبيلة! ثورة.. العافية! كما استعانت الثورات المضادة ببعض القوى قصيرة النظر، واتخذتها حصان طروادة لتحقيق أهدافها؛ فسيأتي يوم قريب تذوق فيها ثمرة خيانتها المرة فهؤلاء لن ينسوا لها أبداً إنها شاركت في الإطاحة بأنظمتهم التي حرصوا على تصويرها بأنها نهاية التاريخ ومستعصية عن السقوط والفناء! وهؤلاء الثوار المتورطون في الثورة المضادة سيجدون أنفسهم؛ في يوم قريب؛ يعضون أصابع الندم على تفريطهم بربيع الحرية الذي كان يضمن لهم العزة والكرامة ولو كانوا في صفوف.. المعارضة! وسيعلمون يقيناً أنهم مثل قوم صالح عليه السلام الذين عقروا الناقة فباءوا بالخسران والندم.. وإلى أن يعوا ذلك ويستعيدوا نضالهم من أجل الحرية فليس أمامهم من تسلية إلا يرددوا "الثورة ثورة.. العافية!" على وزن "العيد عيد العافية"! وزارة.. للشهداء! مقدار الدمار وأعداد الضحايا والقتلى من أبناء الشعب اليمني في مختلف الثورات والحركات التصحيحية (الأصلية والتايوان منها) تفرض أن تكون هناك وزارة خاصة للشهداء والمصابين! فلم تعد الهيئات والمؤسسات التقليدية تكفي للقيام بالواجب، ولاسيما أن الشهادة والشهيد ستكون لها معايير خاصة بكل جهة منتصرة.. وسيأتي يوم نرى فيه تجسيداً هزلياً لها على نمط النكتة المشهورة عن المشير السلال وذلك المواطن الذي جاءه يطلب منه التعامل معه شهيداً أسوة بالآخرين! وحتى الثورات سنجد كل جهة تصر على وصف ما قامت به بأنه ثورة.. وشعبية كمان! وسيكون من تبعات ذلك المطالبة بكل حقوق الثورات من الاعتراف بها، وزعاماتها وبمناضليها، وشهدائها، وإقرار يوم إجازة وطنية في ذكراها، وتسمية عدد من الشوارع والميادين والمدارس والمستشفيات باسمها.. وسيكون من حق المؤمنين بها إطلاق اسمها على المحلات بدءاً من السوبر ماركت إلى محلات البنشر ومطاعم الفحسة وفتة الموز! مضحكات.. مصرية! أثناء موسم الحج الأخير؛ تم إيقاف حاج مصري بتهمة أنه دعا على الحكام العرب بوصفهم أضاعوا الإسلام والمسلمين! ووفق النظام والقانون تم إحالة الحاج إلى المستشفى للكشف على قواه العقلية قبل إنزال العقوبة به.. ومن جهتهم لم يقصر المسؤولون المصريون في بعثة الحج في التصدي لهذا المنكر الأكبر؛ فوزير الأوقاف المصري ورئيس بعثة الحج طالب بتوقيف الرجل وترحيله إن لم يكن.. مجنوناً! مسألة الحرص على التأكد من أن الحاج المتمرد كان مجنوناً أو عاقلاً قبل إنزال العقوبة مهم جداً في هذه الحالة، ولكل واحدة منهما عواقب خاصة بها.. فلو ثبت أنه عاقل فهي حالة فردية لا تقلق كثيراً؛ فقليل من النصح وربما الترحيل الفوري (إن أصر على موقفه) تكفي للعلاج أو العقوبة.. لكن المشكلة تكبر إن ثبت طبياً أنه مجنون.. فهنا تكون الطآمة الكبرى، والفجيعة الداهية، والمؤامرة.. الدولية! لأن معنى أن مجنوناً عربياً مقتنع أن الحكام العرب أضاعوا الإسلام والمسلمين أن الرفض الشعبي للحكام العرب صار شاملاً كاملاً يعم العقلاء والمجانين على حد سواء، وصار إحدى حقائق الحياة، وإحدى المسلمات الطبيعية كالغرائز البشرية التي تكون في كل إنسان دون استثناء كغرائز حب الطعام والشراب والمال والبنون.. مما يؤكد صحتها وصوابها! ومع أن الدعاء (بصرف النظر عن هوية المستهدف منه!) هو قلب العبادة في الإسلام، ودليل على إيمان وارتباط بالله تعالى؛ إلا أن موقف وزير الأوقاف المصري الشديد ضده يتناقض مع الحملة القومية التي دشنها وزير الأوقاف نفسه – بالاشتراك مع زميله وزير الشباب والرياضة- قبل الحج بأسابيع لما أسموه مكافحة ظاهرة انتشار الإلحاد بين الشباب المصري! المؤكد أن الإلحاد لن يحقق انتصاراته الكبرى في بلاد الإسلام إلا بدعم من الأنظمة الحاكمة؛ فهي وحدها القادرة على توفير كل أسباب الكفر بكل شيء ولو لم يكن له علاقة بالدين.. فهي الأكثر براعة في جعل الناس يكفرون بأوطانهم حتى أنهم يفضلون الهجرة والعيش في أي بلد ولو كان إسرائيل نفسها التي رضعوا كراهيتها! وهي وحدها القادرة على أن تجعلهم يكرهون ويكفرون بكل المبادىء العظيمة مثل الحرية، والديمقراطية، والثورات الشعبية من كثرة النكوص عنها والتلاعب بها، والانقلاب عليها.. والأنكى: استمرار التمحك بها والتغني بها في كل حين حتى يكفر بها المؤمنون بها وأصحاب المصلحة الحقيقية فيها! فكيف مثلاً من الغريب والمستنكر أن يكفر المصريون بالديمقراطية بعد رأوا أن العسكر والليبراليين واليسار بكل فصائله؛ الذين طالما تغنوا بالديمقراطية و"تقرّصوا" منها سفريات، ومؤتمرات، وندوات، وشهرة، وجوائز عالمية؛ وهم ينقضون عليها انقضاض الضباع على الفرائس.. ويخونون قيم الحرية والإرادة الشعبية الحاكمة كما خان يهوذا المسيح عليه لسلام بدراهم قليلة.. ويغدرون بها كما غدر إخوة يوسف بأخيهم البريء؟ هل بعد كل ما حصل في مصر من خيانة وغدر، وتبريرات علماء السوء لها؛ يستنكر الحكام أن تنتشر ظاهرة الإلحاد والكفر؟ ليس هناك جديد في الأمر؛ في أيام المخلوع حسني مبارك أطلق المصريون نكتة تقول: إن أحد المواطنين في أحد المهرجانات التي حضرها مبارك كان يقف كل عدة دقائق وهو يهتف بقوة: "عاش مبارك موحد الأديان.. عاش مبارك موحد الأديان!".. ولما تكرر منه الهتاف الغريب هجم عليه الأمن وأخذوه إلى غرفة جانبية لاستجوابه عن سر هتافه رغم أن مصر معروف عنها أن فيها الأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية.. فرد عليهم المواطن ببساطة أن سياسات مبارك الكارثية جعلت كل المصريين على اختلاف أديانهم يكفرون، وبذلك توحدت ديانتهم وصاروا على.. ملة واحدة! افهم يا فهيم! "انتهت الزفة والدفوف وجات الهبلة تقول: عايزة أشوف!".