لا زلت أتذكر اندهاشاتي المتوالية في قاعات قسم العلوم السياسية وأنا أحملق في وجه أستاذي الجليل د. محمد عبدالملك المتوكل وهو يلتمع بتجليات بدت لي متفردة بوضوحها ونضوجها بين كل محاولات مد جسور الاتصال بين الديمقراطية والتراث الديني الإسلامي، ومحاولة تأصيل مفاهيم الاجتماع والدولة الحديثين ضمن سياقات تجربة عربية يراد لها انتشال شعوب هذه المنطقة من براثن الاستبداد والاحتراب المجتمعي الطويل. كان فرحي عظيماً بوجود فكر كهذا، وأنا المهتم بوجوده، وكان الدافع الأساسي لي لدراسة السياسة؛ لأكون على تماس مع رجالاته وربّما لأكون أحدهم يوماً ما بحكم قراءاتي السابقة في هذا المجال (هكذا كان الطموح يومها)!.
أتذكر أنني في أحد الأيام وقد بلغ بي الاعجاب مبلغاً عظيماً بفكرة عرضها الدكتور وربطها بنصوص دينية كانت من الوضوح بحيث بدا لي أنها لا تقبل أي تأويل آخر غير ذلك التأويل الحديث الذي أورده أستاذي المتوكل لدعم فكرته الحديثة والمتقدِّمة.. لحظتها قلت لأستاذي: أنت متأكد يا دكتور أن هذا النص الذي أوردته موجود بالفعل لدينا، وأن هذا التفسير قد قدّمه فقهاء العصور القديمة؟!! قال لي: نعم يا ابني وإلا من فين جبته؟ من بيتنا؟!! هذا موجود ويحتاج إلى اشتغال... الخ.
تحقق لي مناقشة بعض القضايا الفكرية والسياسية التي كانت تشغل بالي مع الدكتور محمد، وفي كل مرّة كان يزداد إعجابي به، وبعد تخرجي وخلال العامين الأخيرين اختلفت معه في بعض القضايا السياسية، وانتقدت كثيراً من آرائه السياسية، ومع ذلك بقي إعجابي الكبير بفكره لم ينتقص، وكنت لازلت أشعر بشيء من الاطمئنان كونه يعتبر شخصاً قريباً من الحركة الحوثية لما يمكن أن يحدثه رجل بفكره وتاريخه السياسي من أثر ايجابي في ترشيد سلوكها، وجعلها أنضج وأقرب إلى العمل السياسي والتخلّي عن مشروعها العنفي الذي يهدد المجتمع والدولة.
أشعر الآن بخسارة كبيرة برحيل شخصية بحجم أستاذي محمد المتوكل، أشعر بصدمة وخيبة أمل عميقة.
أشعر بالخوف.. من الذي يريد أن يفرغ البلد والمكوّنات السياسية والاجتماعية من عقلائها ورموزها الفكرية والسياسية ليبقى رجالات القتل والانتهازيون المقامرون بوجودنا على هذا الوطن لتفوز نزواتهم الطفولية الاجرامية؟!!
رحم الله أستاذي الكبير محمد عبدالملك المتوكل وأسكنه الجنة وألهم أهله وتلامذته ومحبيه الصبر والسلوان..