رئيس الوزراء البريطاني جوردن براون رجل "أخجف"، فقد ذهب ليعتذر من امرأة عجوز قال عنها كلاماً بدا لمن يسمع خطب رئيس بلادنا أو رئيس وزرائه عادياً جداً، بل قد يكون عذباً بالمقارنة. مع ذلك بدت المرأة الستينية المتقاعدة غير مصدقة، لقد فغرت فاها بذهول وهي تقول لمن نقلت لها ما قاله براون: "أنت تمزحين"! ثم أضافت بألم "إنه شخص متعلم، لماذا استخدم هذا النوع من الكلمات؟". تبدأ الحكاية لمن لم يسمعها من عند رئيس الوزراء البريطاني وهو يتجول بأحد الشوارع في شمال غربي انجلترا لحشد التأييد له ولحزبه في الانتخابات العامة، يتبعه جيش من الصحافيين وأسطول من المعدات والوسائل الإعلامية، أثناء ذلك يلتقي بامرأة مسنة مطلقة ومتقاعدة عبرت له عن قلقها من ديون البلاد وعدم كفاية المعاش لتنفق على حفيديها في الجامعة، ثم تطرقت إلى ازدياد أعداد المهاجرين القادمين من أوروبا الشرقية، فأجاب براون على أسئلتها بلباقة ثم وضع ذراعة حول كتفيها وصافحها مودعاً ومبتسماً.. قبل ذلك كان المكتب الصحافي لرئيس الوزراء قد اعترض على تدلية مهندسي الصوت في محطات التلفزيون للميكرفون فوق رؤوس الناس الذين يحادثهم براون في الشوارع والأسواق واتفقوا مع المهندسين على وضع ميكرفون صغير في ياقة الجاكيت لرئيس الوزراء، وقد نسي هذا الأخير بعد مقابلته مع تلك المرأة إغلاق الميكرفون، دخل إلى سيارته ثم بدأ يتحدث إلى أحد معاونيه قائلاً: " كان الامر كارثياً، كان عليهم ألا ينظموا لقائي مع تلك المرأة. فكرة من هذه؟ الأمر سخيف للغاية". وتابع "ليست سوى امراة شديدة التعصب". قتلها بهذه الجملة! تحول الموقف بعد ذلك إلى مشهد درامي بامتياز، لقد جاء الإعلاميون بالمرأة وأسمعوها ما قاله براون في حقها، فعبرت عن امتعاضها وقالت ما قالت، وبدا رئيس الوزراء البريطاني وهو يضع رأسه بين يديه في الاستوديو بعد ذلك مهموماً مغموماً ويقول بأسى: "لقد ارتكبت ذنباً لا يغتفر، وفعلاً قبيحاً سأظل أندم عليه دائماً". براون لم يكتف بالاعتذار هاتفياً بل ذهب إلى منزل المرأة وجلس معها ما يزيد عن نصف ساعة معتذراً، وهو وقت أطول من الذي استغرقه اجتماعه بالرئيس الأمريكي قبل ذلك ولم يزد عن 20 دقيقة.. قلت إن المستر براون "أخجف" وهو التعبير الذي قفز إلى ذهني عندما سمعت بالقصة أول مرة، فالرجل لم يقتل المرأة ولم ينهب أرضها، هو لم يقل سوى أنها متعصبة بس فقط لا غير، ولو أن الرجل التفت إلى ما تكتبه الصحافة اليمنية الرسمية لخرج بألف فكرة تنقذه على الطريقة اليمنية من الحرج الذي أوقع نفسه فيه، وربما طور فكرته و ذهب مباشرة لمستشاري رئيس بلادنا ليستفيد من خبرتهم، فهم من ذلك النوع القادر على اكتشاف "المنحة في المحنة" أقلها استغلال مثل هذه الحادثة لشن الهجوم على حزب المحافظين المعارض أو التنكيل بإحدى الصحف اللندنية التي لا تسير وفق هوى المستر براون. أعرف تصريحات "المصدر الرسمي" التي تقفز بين فترة وأخرى إلى صدر الصحف الرسمية، وأقرأ أحياناً افتتاحية صحيفة الثورة، لذلك أستطيع أن أتصور ما يمكن أن يقوله المستشارون في بلادنا لإنقاذ رئيس الوزراء البريطاني من ورطته، بدلاً من اعتذاره السخيف، الذي بلا شك جعل الذين في القصر الجمهوري يضحكون عليه! كتب أحدهم معلقاً على الخبر: "لماذا لا يطلق عليها الرصاص وحسب"، وظننته أحد الذين يشيرون على رئيس الدولة في بلادنا، غير أن هذه الفكرة لم تعد مجدية، خصوصاً بعد حادثة الدكتور عبد الوهاب محمود، ولذلك استبعدت هذا الاحتمال، الأجدر أنهم سيصفون المرأة بأنها عميلة مدسوسة من العناصر المرتزقة في حزب المحافظين أو الديمقراطيين الأحرار، أرادت أن تشوه صورة «القائد الرمز»، أو الادعاء بالقول إنها من أحد الحزبين المنافسين، وقد أرادت بالتعاون مع وسائل الإعلام الإساءة إلى التجربة الديمقراطية في بريطانيا والتحريض على الكراهية والعنف ، وقد تذهب نصيحة المستشارين اليمنيين للمستر براون إلى الادعاء بأن الكلام الذي سجلته وسائل الإعلام ليس لبراون أصلاً، ويجب محاكمة وسائل الإعلام التي لجأت لهذه الحيل القذرة التي لا تخدم سواء أعداء الوحدة والوطن. وبطريقة أخرى كان يمكن لهذه المسألة أن تنتهي بسيارتين ورتبة عسكرية وتنتهي القصة كلها. كلام سخيف، أليس كذلك؟ هو فعلاً كلام سخيف، حتى أن مجرد تكراره يثير الغثيان، مع ذلك: "من يقولوا لأبوها" حتى يذهب إلى منزلها ويقدم لها الاعتذار. أقول هذا الكلام وأتذكر مستشارين ومعاونين للرئيس أعرفهم جيداً، وأعرف كيف باستطاعتهم تحويل الكوارث إلى مهرجانات للاحتفالات يشتمون فيها مواطنيهم ويهينونهم بدعوى الوطنية والثورة والمنجزات، وأشياء أخرى كان يجب أن تكون جيدة لكنها لفرط ما تبجحوا بها كرهناها. أشفقت على الرجل النصراني براون، واحتقرت العديد من أبناء بلدي وإخواني الذين يهينون المرأة ويشتمونها دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الاعتذار لها، أما مثل هذه الأخطاء البسيطة فهي لا تذكر أصلاً، ويدرك القارئ أن الشتم على لسان رجال الحكم في هذه البلاد تعدى المرأة إلى الرجل وأشياء أخرى. أسهل ما يمكن أن يقوله أحدهم: هذه دعاية انتخابية، والناس هناك يخشون ناخبيهم، ولا يحترمونهم، شخصياً لا توجد لدي مشكلة في ذلك إطلاقا، مشكلتنا أن من هم في مكان براون لا يحترمون أحداً أبداً، إنهم يعتقدون على الدوام أن إهانة الناس و"دحسهم" هو جزء من شروط ممارسة الوظائف العليا، والظهور عند المسؤول الأكبر على أنهم جدورين بالوظيفة لأنهم "رجال وحمران عيون" ولا يقدمون الاعتذار أبداً. بالمقابل هناك فئة من الناس تطرب فرحاً لمجرد أن مسؤولاً كبيراً جاء على ذكر اسمه، ولو شتماً أو سباً، وبودي لو أن كل هؤلاء الرجال تأملوا في وجه المرأة وهي تسمع ما قاله براون عنها، لقد بدت مصدومة ومندهشة حقاً، لأنها لم تتعود أن تسمع كلاماً يسيء لها من رجل تعرف مسبقاً أنه وجد لخدمتها أصلاً. يقول براون إنه يشعر بالخزي مما حصل، وأنا أشعر بالخزي من تصرفات بعض المسؤولين والسياسيين في بلدي، ولا أشعر ناحيتهم سوى بالتشاؤم كلما هموا بإلقاء تصريح أو خطاب. أما التفاؤل فيشبه: رجل يسقط من مكان مرتفع ويصيح في منتصف الطريق "إنني لم أصب بعد".