القصة التالية سمعتها من صاحبها الذي رافق «الفندم» في إحدى سفرياته، كانت الرحلة بالطائرة طويلة، وأراد صالح أن يشغل الوقت بإحدى هواياته، طلب من صاحبنا لعب الورقة، والرهان أن تذهب ساعة الخاسر إلى جيب المنتصر. بالنسبة لصالح بدا الأمر مسلياً وممتعاً، هذه لعبة تكتيكية سريعة، تحتاج إلى الحيلة والخداع، وهو بارع في ذلك ولديه سنوات من الخبرة، والنتيجة أن صالح كسب الساعة. في الواقع لم تذهب الساعة إلى صالح تماماً، لقد تناولها من صاحبنا، ورماها إلى أحد مرافقيه الذي ظل واقفاً طوال اللعبة خلف صاحبنا يحمل بيده مرآة كبيرة كانت خلال اللعب تكشف لصالح كل أوراق خصمه. انتهت اللعبة، وبدأ صالح بالضحك، وأخذ الذين من حوله يمتدحون حيل الرئيس وذكاءه، وبأنه «جني جني» لا أحد ينتصر عليه، كان كعادته يستمع مزهواً لما تعود أن يسمعه، ولم يكن من بين كل الحضور شخص واحد يلفت انتباه الرئيس إلى أنه يغش. لا أحد يجرؤ على التقليل من دهاء الرئيس المغالط، ولو أن هناك شخصاً تنحنح في أقصى المكان: وقال «يا سيادة الرئيس هذا الفوز غير مشروع» لانفجر الجميع بالضحك. من يطرح مثل هذه الملاحظة سيعد على أحسن الأحوال «رجل أخجف»، لا يفهم في قواعد اللعبة، ولا ينفع أن يكون رجل دولة، أو من خبرة الرئيس، وربما يسأل هذا الأخير من إلى جواره: «منين جاء هذا الأهبل؟». كل القصص تقريباً التي نسمعها عن صالح لا تخرج عن كونه «رجل حيلة ومكر»، وليس «رجل دولة ومؤسسات»، وهذا التوصيف لا يغضب الرئيس بحسب ظني، بل ربما يشعره بالزهو، هو في نهاية الأمر لا يريد أن «يزيد» عليه أحد، حتى لو كان الشعب نفسه، وإن أراد أحد التقرب منه فعليه أن يشبع غرور الرئيس بقصص من هذا النوع، مثل امتداح طريقته في ابتزاز الأمريكان في الحرب على الإرهاب: «حتى الأمريكيين زدت عليهم يا فندم»! وكنت قد سمعت في الأيام الماضية من مصدر على علاقة جيدة بالأمريكيين أن الرئيس يستلم 25 مليون دولار مقابل كل طلعة جوية أمريكية لقصف مواقع يشتبه بوجود القاعدة فيها داخل اليمن. يذهب المال مباشرة لجيب الرئيس، حتى أن الأمريكان اضطروا إلى ترشيد هذه الطلعات، وحصرها في نطاق المهمات المُلحة والخطيرة. في حوار شامل لصحيفة «الحياة» يصف عبد السلام جلود الذي كان الرجل الثاني في الثورة الليبية أن «العقيد القائد» تحول بعد سنوات قليلة من قيام ثورة الفاتح إلى رجل يدير البلاد على هواه، حين انكفأ القذافي إلى قبيلته و«جوقة من العبيد والمزمرين والمطبلين»، وبسبب من ذلك تحول قائد الثورة إلى قاتل لبعض رفاق دربه، وبعض أهله الذين تدلت جثثهم على الأشجار حين حاولوا إيقافه عن غيه، بسبب من ذلك أيضاً يحدث أن يتحول الرؤساء إلى طغاة ومجرمين. إن رجالاً يظلون ينفخون في أذن الرئيس أنه «جني وخطير»، وداهية و«أحمر عين» حتى لو خادع وغالط كل الناس من حوله، لا يمكن له أن يكون صالحاً. مثل هذا الحديث يفسد أي رجل، ويجعله يعتقد أنه نصف إله، لا يرى مع توفر السلطة المطلقة، وضعف المحيطين من حوله واستقوائه عليهم إلا نفسه، ويظل ينظر في أي فعل يقدم عليه أو قرار يتخذه فعل صواب لا يمكن الجدال حوله أبداً. يروي بعض الذين يصادف وجودهم في مقيل الرئيس، كيف أن كبار رجال الدولة يسعون خانعين إلى تملق «الفندم» بشكل يجعل الآخرين في المكان يشعرون بالحرج والتقزز، وبعض الوزراء يهرعون لتلبية ما يشير إليه الرئيس قبل أن تنتهي جملته. مجموعة من اللصوص والأفاكين والعبيد لا يجدون حرجاً في أن يصفعهم الرئيس على وجوههم، أو يشتمهم، بل يجدون في ذلك مؤشراً على مدى قربهم منه، ويباهون بما يحدث لهم. هذه العلاقة بين الرئيس وخبرته أنتجت أسوأ مراحل النظام في السنوات الأخيرة، لقد وضعت الرئيس في منزلة الأولياء الذين يتناسل منهم الخيرون والصالحون، لا تُرد لهم كلمة ولا يُجادل لهم رأي، وجعلت من الفاسدين والانتهازيين من حوله رجال دولة. هذا المزيج المقيت أحال حياة اليمنيين إلى جحيم، وأرسل هذه البلاد إلى ذيل قائمة التنمية في أغلب المجالات على مستوى العالم. وعندما خرج الشباب إلى الساحات أخرج الرئيس من جرابه كل الحيل والمغالطات، ولم يتوقف عن الخطابة وتقديم المبادرات طوال الشهر الأول من الثورة، ولا ينسى أثناء ذلك أن يوجه المعارضة وينصحهم «كيف يصبحون رجال دولة، وأن عليهم أن يتعلموا منه». كان يفعل كل شيء تقريباً عدا أن يُقدِم على الشيء الذي يطالبه به الجميع وهو الرحيل. جرّب كل ما يمكن عمله، أراد أن يحول اهتمام الناس من الساحات إلى الحصبة والفرقة، وأراد أن يقنع المجتمع الدولي أن القصة أزمة مع المعارضة وتمرد مع الفرقة، نجح لبعض الوقت، واشترى وقتاً طويلاً بالمبادرة الخليجية، لكن المد الثوري لم يتوقف، لقد توقفت كل حيل الرجل ولم يتبقَّ معه غير السلاح وهو يقصف الآن في صنعاء وتعز وأرحب، لكن دون جدوى. القلق يأكل الرجل وهو لا يصدق كيف أنه، وهو الداهية والخطير، قد أصبح محشوراً في الزاوية، وبتعبير أكثر وضوحاً متخفياً مطارداً في مخبأ سري لا يجرؤ على الخروج منه، وحيداً وعاجزاً ومريضاً، ومخذولاً من الداخل والخارج على السواء، وهواجس مبارك والقذافي تقض مضجعه كل لحظة، لذلك يتحسس كل ليلة السلاح بجواره ويطلق القذائف والصواريخ. يعرف تماماً أن الذين بقوا من حوله يرددون على مسامعه ما ظل يسمعه دائماً هم أسوأ من يمكن أن يبقى إلى جواره، هو يعرفهم ولذلك لا يصدقهم. وتلك الهالة العظيمة التي كان يشعر بها حوله سقطت وبدا مكانها أجواء مكهربة ومتوترة تجعل الفندم يرزح باستمرار في آخر أيامه في السلطة تحت وطأة الضغط والتوتر الرهيب. لقد فعلت الثورة فعلها العظيم، وعندي يقين مطلق أن هذا الرجل ذاهب إلى نهايته، ولست قلقاً من المستقبل. إن من يراجع ما حدث في الشهور الأخيرة يدرك أننا قطعنا شوطاً طويلاً فيه، واقتربنا كثيراً من مشارف اليمن الجديد، غير أننا لم نصل بعد. خطوة أو خطوتين ربما، لا غير.