كم أذهلني كثرة المتابعين والمهتمين بفيلم (الطريق إلى صنعاء) الذي عرضته شاشة الجزيرة في برنامجها الأسبوعي (الصندوق الأسود) ، وبالرغم من الأحداث اليومية للمقاومة إلا أن أحداث الفيلم الوثائقي استولت على اهتمام الجمهور وتعليقاتهم ، مما شوقني إلى بذل الجهد لمتابعة الفيلم رغم الانقطاع الدائم للكهرباء ، وإذا كان الفيلم قد لقي بعض النقد فيما يتعلق بزمن العرض وبعض الجوانب الفنية الدقيقة ، إلا أنه حظي من المهتمين وعامة الجمهور بترحاب ورضى واسع فاق التوقعات . وبعيداً عن القصور البشري الذي لا ينفك عنه أي إنتاج إعلامي مهما بلغت مهارة منتجيه ، إلا أن هذا الفيلم بكل مشاهده يأبي إلا أن يمنحنا الكثير مما ينبغي الإشادة به والثناء عليه ، ويكفيه على كثرة مزاياه التي سنشير إليها أن أعظمها ما بُذل فيه من جهد توثيقي سيشكره الأحياء اليوم وستحمده الأجيال القادمة غداً ، فقد وثق مُعدوه كثير من الأحداث والوقائع التي تناولتها وسائل الإعلام حول مؤامرة مقتل القشيبي وسقوط عمران ، خاصة إذا علمنا أن هذه الأحداث ظلت محل شك وقبول للإنكار كونها تفتقر للدلائل والبراهين على ثبوتها لدى الجمهور ، حتى نقلها الفيلم في نفوسنا من الشك إلى اليقين ومن الإنكار إلى التسليم ، وهذا ما لمسته بوضوح عند كل متابع للفيلم من المهتمين وعامة الجمهور ، بل أفادني بعض الإعلاميين المعروفين من خلال متابعته بأن كثير ممن عادوا القشيبي بسبب التضليل الإعلامي لأنصار صالح والمخلوع كان الفيلم طريقاً لتغيير قناعاتهم ومواقفهم . غير أن الأمر لم يقتصر على ذلك فقط ، بل إنه قدم معلومات مهمة وخطيرة عن تفاصيل المؤامرة ، ربما لم يكن أكثرها مجهولاً لدى الشريحة المتابعة لمستجدات الشأن السياسي في اليمن ، لكنها وبلا ريب غائبة عن الجمهور الواسع من الشعب اليمني الذي يعاني فضلاَ عن أمية أغلبهم بالانشغال بهموم معيشته اليومية ، فقد قدم له الفيلم في أقل من ساعة ملخص مركز وموثق عن خيوط مؤامرة جرت في شهور طويلة كان عاجزاً عن متابعتها والبحث عنها والتأكد منها ، مع شديد حاجته لمعرفتها ، ومع التضليل الإعلامي المحيط به . كما أن الفيلم تمكن من تصحيح كثير من المعلومات الخاطئة ، وتنقية الأحداث من بعض المبالغات والأكاذيب ومنها على سبيل المثال الافتراءات التي مست شخصية ثورية وطنية مثل القشيبي ومنها ماصوره به إعلام المخلوع والحوثي كقائد متمرد على السلطة الشرعية ، وأن الحرب كانت بين فصيلين وليست بين الجيش اليمني ومليشيا متمردة. واستطاع الفيلم من خلال عامل الزمن أن يكون له دور في تقوية جبهة المقاومة اليوم في معركتها ضد الإنقلابيين بالكشف عن مدى قبح الحوثيين ، وبشاعة جرائمهم وعمق تحالفهم مع المخلوع ، وحجم المؤامرة على ثورة فبراير وعلى الجيش اليمني والقوى الموالية للثورة . وبالرغم من انتقاد البعض لتعرض الفيلم لبعض الشخصيات المتورطة في سقوط عمران ومقتل القشيبي كونها محسوبة على الشرعية حالياً لظروف سياسية فرضها الواقع ، إلا أن هذا النقد كما ذكر البعض يحمل في أحشاءه مزية تذكير الجمهور -قصير الذاكرة- بأن صمتنا عن هؤلاء اليوم ليس لأنهم قد صاروا أطهاراً بل لأن مصلحة الوطن اقتضت أن نغض الطرف مكرهين حتى لا تغرق السفينة بنا جميعاً ، إلا أن غض الطرف لا يعني تحويل الخائن إلى بطل أو خداع الجمهور بل تزويدهم بالحذر حتى لا تتكرر الخديعة . وربما يرى البعض أن الفيلم لم يكشف كل خيوط المؤامرة ، وهذا لا ينتقص الفيلم عند آخرين بل يستدعي مزيداً من الجهود لاستكمال الخطوات القوية التي بدأها المبدعين - جمال المليكي وصفاء كرمان - وكانت فاتحة لكشف الغموض عن السر الكبير وراء الإنقلاب على ثورة فبراير وأحلام الدولة المدنية واغتيال الشرفاء من قادة الجيش وأنصار الثورة . ولا بد أن أشير هنا لما نبهني إليه الصحفي الرائع رشاد الشرعبي حين أردت اكتشاف انطباعه عن الفيلم ، فذكر لي أن اليمن تمر بها الكثير من الأحداث الكُبرى والمنعطفات التاريخية ، ثم تفتقد لمثل هذا الأفلام الوثائقية التي تحفظ الحاضر وتكشف حقائقه لتنير المستقبل قبل أن تدفنه الأيام فلا تدري الأجيال من ضحى لها ومن ضحى بها ، فالتاريخ يكتبه المتغلب . لقد مثل الفيلم انتصاراً لجبهة المقاومة وربيع الثورات ومسيرة الحرية ، كما أنه بث الأمل في نفوس الجماهير المحبطة من الخيانات المتكررة للجيش العائلي وجرائمه ضد الشعب أنه ما زال في اليمن قادة عسكريين يمكن الركون إليهم والوثوق بهم في حماية الوطن أرضاً وإنساناً لأن ولاءهم خالص ودماءهم نقية ونبضهم يمني .