كعادتي كل يوم جمعة، ذهبت مبكراً إلى الجامع القريب من منزلنا في إحدى المدن التهامية، وعند صعود الخطيب على المنبر، سكن المكان الطاهر من أصوات القرّاء، واشرأبت الأعناق لسماع خطبتي الجمعة في مشهد روحاني مهيب. كانت الخطبة جميلة وهادفة تحكي قصصاً من قصص الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وكان الخطيب متمكناً وجيداً في الإلقاء فانهمكت في الإستماع والإنصات ملتزماً بآداب الخطبة ومتلذذاً بالقصص الرائعة التي كان يقصها الخطيب بأسلوب جميلٍ وجذاب. في بداية الخطبة الثانية، ربتت يدٌ صغيرة على كتفي فأفسحت قليلاً دون أن ألتفت لصاحبها وعندما وضعت يده الصغيرة سلاحاً رشاشاً بجانبي إلتفت بفضول لرؤية صاخبها فوجدته طفلاً كأني قد رأيته من قبل، في الرابعة عشرة من عمرة تقريباً يحمل على وسطة جعبة بها عدد من مخازن الرصاص والقنابل!! شرد عقلي عن الإستماع للخطبة الثانية، كنت أقلّب ذاكرتي كي أتذكر أين رأيت هذا الغلام من قبل؟؟ وإلتفتُ نحوه مجدداً أتأمل ملامحه التي لم يستطع مظهرة الخارجي المدجج بالسلاح أن يمحوا البراءة التي مازالت تطل من وجهه الطفولي وعيناه البنيتان. فجأةً تذكرته.. ياللهول إنه "حسام" أحد طلابي في الصف السابع العام الماضي، والذي لم يسجل عندنا هذا العام!! ترى لماذا يحمل هذا السلاح ؟؟ لم أستطع التركيز مع الخطيب مجدداً، إسترقت نظرة ثانية لسلاحه الآلي فرأيت شعار الصرخة الحوثية مطبوعاً عليه!! كيف ولماذا انضم معهم رغم صغر سنه؟؟ ظلت هذه الأسئلة تدور بعقلي حتى أكملنا الصلاة. بعد أن أتممنا الصلاة، مد حسام يده الصغيرة مصافحاً قائلاً لي وابتسامة عريضة تكسو وجهه الطفولي: "جمعة مباركة يا أستاذ" رددت مبتسماً وأنا أتطلع لهيئته الخارجية الغريبة وأتفرّس في ملامحة البريئة؛ علينا وعليك يا حسام، وجلست أستغفر وأسبح الله ومازالت في عقلي الكثير من التساؤلات، ظلت معلقة دون إجابة!! عدتُ أدراجي إلى المنزل، وعند تناولي وجبة الغداء مع أسرتي خطر في بالي أن أسأل أخي الصغير، إلتفتُ قائلاً أحمد: أين حسام إبن فلان الفلاني؟ الساكن في الحارة المجاورة؟ منذ مدة لم أره؟؟ فردّ قائلاً: "لقد ذهب هو وفلان مع الحوثيين وأعطوه سلاحاً آلياً".. قاطعته قائلاً: وكيف سمحوا له أهله بالذهاب وهو صغير وحرموه من الدراسه؟ رد قائلاً: لقد سجله معهم أخوه الأكبر ليتدرب ويتعسكر معهم.. لحظتها حزنت عليه كثيراً!! لقد كان حسام طالباً نجيباً سلاحه القلم فكيف إرتضى أن يستبدله برشاشٍ يداه النحيلتان لاتقويان حمله إلا بصعوبه!! لقد كان حسام طالباً نجيباً يحب الدراسة ويعمل واجباته المدرسية بإنتظام ويحوز على أعلى المراتب متفوقاً على أقرانه!! لقد غُررّ بحسام والآلاف غيره من أطفال وشباب هذا الوطن في حروب عبثية لهذه الجماعة التي تحمل شعار الموت وأُلقي بهم في محارق الهلاك في حرب يجهلون أسبابها ويجهلون أصلاً من يقاتلون مستغلين فقر بعض الأسر ليجندون أطفالهم ويستغلون برائتهم في انتهاك صارخ لحقوق الأطفال!!