لعلَّها اللغة حينَ تخبئ الخذلان في جيوب معاطفها؛ وتعتزمُ تربيةَ خيبة غير متوقعةٍ إيحاءً وتوريةً؛ الأمر الذي يعززُ سطوة المفارقات الظالمة وجبروتها؛ على سياقِ اللحظة / المفردة؛ أو اللحظة / الحدث؛ ولعل تمهيداً تُعّدُّهُ توسعاتُ اللغة؛ وانفتاح شهيتها إقناعاً وتغريةً؛ قد يغدو مجدياً أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى للاقترابِ من إيحاء المفردتين "التفويض، الفوضى" واستكشاف مدى تباينهما؛ فالتفويض الذي لا يعني الفوضى حسب كلِّ الدلالات المعجميةِ واللهجات المشاعةِ؛ له شروطُهُ ومحدداته وآدابُهُ. وأجزمُ أنَّهُ لا يعني الفوضى مهما تطابقت حروف المفردتين؛ وإنما التفويضُ يعني تهيئة الأجواء؛ وتهدئة القلق المتصاعدِ جراء تنوِّع الآراء واختلاف المقاصد؛ وتضارب الرؤى في توقيتٍ عصيبٍ إلى حدٍ ما؛ فالتفويضُ هنا يأتي ترجمةً لتوجهاتِ وحرص المفوِّض على تقاربِ وجهاتِ النظر ورأب الصدع والخلاص من صداع المرحلة. فحين تعني الفوضى تفاقم الأمورِ باتجاهِ الأسوأ وتصادم المصالح واضطرابها؛ فإنَّ التفويضَ ينأى صوب اتجاهات أخرى لا تَشفُّ إلا عن بوادر حسن نوايا بالصلح والصلح خير؛ ورغبةٍ حقيقيةٍ لتجاوزِ كل الكوابحِ والعراقيل ؛ومنحِ الآخر مطلق الثقةِ والصلاحيةِ بما في ذلك تطمينُهُ لتجاوزِ ألغام اللحظة والقفز إلى فضاءات التعايشِ الحر؛ أي أنَّ التفويض لا يعني الهشاشةَ أو منحَ المفوَّضِ امتيازاتٍ ديكتاتوريةٍ خارقةٍ تُجمِّلُ في عينيهِ إقصاء الآخر وإيلامهِ وتهديدِ وجودِهِ؛ بل تجعلُهُ أمام مواثيقَ وأعرافٍ تضمن للآخرِ تجلياتِ حضورهِ المتكامل معه كتعاطٍ متبادلٍ للفرصِ المتكافئة فيما بينهما؛ أمَّا حينَ لا يرادُ إنجاح التوافقِ والشراكةِ وتعاضدِ الجهودِ نحو البناءِ؛ فإنَّ التفويضَ يتقوَّضُ وحينئذٍ لن يكون بمنأى عن فعلِ الفوضى؛ فليس من التفويض في شيء أن يغتصب المفوَّض إرادة المفوِّض أو أن يستغفلَهُ نظيرَ ثقتِهِ؛ ولعلَّ هذا الإجمالُ تنظيراً يتوازى مع ما تشهده الساحة السياسية الآن؛ فالأحزابُ السياسيةُ اليمنيةُ التي أجمعت أمرها على تفويض الرجل العجوز/ الهادئ جداً ورئيس وزرائهِ المتوافق عليهِ مبدئياً لتشكيل حكومةٍ ظاهرها الكفاءة وباطنها السفهُ والركاكة؛ إنَّ فعلًاِ كهذا يدلُّ على التنكُّرِ ومقايضةِ حسن نوايا الآخر؛ بنوايا المكرِ والترصدِ وتغذيةِ فعل الإقصاءِ؛ دونَ أيِّ اعتبارٍ لمضاعفات هذا التصرفِ عديم الجدوى ؛ فالعجوز الذي تنقصه الحكمة والخبرة في الآن ذاته لم يؤمن بأهمية احتواء الآخر ومحاولة الاقتراب منه كفعل يردُّ من خلاله الوفاء بوفاءٍ أحسن منه أو مثله على أقل تقدير؛ ولو أنَّه أبدى حسن نواياهُ لأدركَ أن الحكمة كانت تقتضي عليهِ احتواء كل الأطراف السياسية التي منحتهُ الفرصةَ والثقةَ ؛ ليضعَ بصمةً تُراعي حرج المرحلةِ الراهنةِ؛ باذلاً الجهدَ كرتين في ردم كلِّ قنوات الصراع ؛ دون أن يتركَ فرصة لتصيُّدِ الأخطاءِ؛ ولكن هيهات للمنتقم أن يفكر أبعدَ من موضعِ قدميهِ الغارقتين في الوحلِ .. إنَّ المهزلةَ كامنةٌ في تشكيل الحكومة الحالية؛ لأنَّها ارتضت آليةَ الإقصاء؛ وردودِ الأفعال العدوانيةِ ؛ وقفزت على كل اتفاقياتِ السلم والشراكة؛ وهنا بيتُ الداء؛ وليسَ بعدَ الإقصاءِ إلا تعميق الهوةِ واتساعِ الخرقِ على الراقع.. ولات حين مناص. رفعت الأقلام وجفت الصُحف. * المنتصف