في مشوار الحياة عرفت رجالا تعددت طبقاتهم ومذاهبهم الفكرية، و عرفت عنهم و تعلمت منهم ما تعلمت، ولم أزل على هذا النهج الذي بدأته على يد سيدي الوالد رحمه الله سالكاً ومجتهداً ما استطعت , حتى أصبح ذلك ربما سمة و متعة شخصية حاولت أن أغلفها بلباقة وإلحاح طالب المعرفة و المتعطش لها على الرغم من مشقة ذلك على بعض المقصودين أحياناً لكبر سن أو لضعف صحة وذاكرة أو غير ذلك , وقد حققت لي هذه الصفة بفضل الله رصيد وافر نسبياً من المعرفة بأحوال الرجال و طبقاتهم و أصنافهم وسجاياهم , حاولت أوظف ذلك ما أمكن في تهذيب نفسي والتشبه بهم و محاكاة هؤلاء الرجال منهم الأفذاذ ومنهم بين ذلك ولكنهم في الإجمال مدارس متجددة وفضيلة تسعى بهم أقدام تشرفت بحملهم فشاركتهم الأجر والمثوبة في سائر أعمالهم وحركاتهم ( يوم تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ). اليوم فقدت بل فقدنا- نحن عموم أهل حضرموت- أحد هؤلاء الرجال الأجلاء وأقربهم إلى قلبي ووجداني الأديب الشيخ الجليل/ سالم بن زين باحميد، و لمن عرف هذا الشيخ الجليل لن يلومني أن تجاوزت هنا حد الإعجاب بهذا الرجل الذي تعددت فيه الشمائل و المناقب والسجايا التي كانت من أسباب قيام فكرة تكريم رجالات حضرموت ( الأحياء ) في مركز ابن عبيدالله السقاف لخدمة التراث والمجتمع , فكان هو من أوائل الذين تشرف المركز بتكريمهم عام 2007 ,كما كان من أوائل المتحمسين و المساهمين في رفد هذا المركز بمساهماتهم التوجيهية و الفكرية والأدبية المتعددة التي أثرت لاحقاً ذخيرة مكتبة المركز الصوتية والمرئية . الشيخ/ سالم بن زين باحميد أحد مخضرمي حضرموت؛ فقد عرف جدي رحمه الله مفتي حضرموت السيد عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف ( 1300 1376 ) وتشرف بمجالسته والرواية عنه , كما ربطته بوالدي ( 1330 1406 ) صداقة وثيقة مزجت بعناصر الألفة و وحدة القلوب والضمير والفكر وهي أوثق أواصر الديمومة في قالب من الوفاء الذي عز نظيره اليوم, و قد أكرمني الله وشرفني بمجالسة هذا الأديب و الراوي و الحكيم والمربي المتواضع الذي يعلمك بعفوية وتلقائية أهل الرسوخ والسمو في كل كلمة وحركة شيئاً لم تعرفه من قبل مهما بلغت من العلم , وقد حرصت -و وفقني الله- أن يكون معي في آخر زيارة للأب والوالد سالم بن زين باحميد نجلي الحسن إذا قد عرف جدي وأبي وأنا عرفته وكذا نجلي , كان ذلك بعد صلاة الجمعة 30 ربيع الثاني المنصرم في منزله بمدودة , و كنا جميعاً في تلك الجلسة كطلاب أمام إمام مقبل على الله يعلمنا ما لم نعرفه عن بلدة (مدودة) التي أنطفأ سراجها وفنارها الذي يهتدي إليه من له ضالة أو طالب معرفة و أدب وحكمة , وتوقف القلب الذي أحب الجميع واحترمه الجميع و توقفت عن السير أقدام جابت كل مكان في حضرموت ليس لسياحة ورفاهية؛ إنما إجابة لدعوة داع أو جبر لخاطر أو مواساة لمكلوم أو اقتسام من خير في مجلس خير . الشيخ/ سالم بن زين باحميد هو علم و معلم و رسول من أهل الوفاء لعصر جفت فيه شجرة الوفاء وتكاد تتساقط أوراقها, وأسأل الله أن لا تموت المروءة في قوم هم أهلها و مهدها , كما نسأله تعالى أن يلطف بهذا الشيخ اللطيف ويتغمده بواسع رحمته و أن يسكنه فسيح جناته وأن يخلفه بالخلف الصالح في أبناءه الأفاضل الذين هم على ذلك النهج امتداد لهذه الأسرة المعطاءة و هذه الشجرة الأنصارية المباركة . *رئيس مركز ابن عبيدالله السقاف لخدمة التراث والمجتمع