خاضت المرأة اليمنية في ثورة فبراير تجربة فريدة، كان لها حضورها المؤثر الذي جعل للثورة مذاقا خاصا، فقد أشعلت ميادين الساحات، وظلت ترنيمتها الأبدية. في 2011 كان لتجربتي الإعلامية والصحفية لون آخر وانا أنقل تجربة المرأة اليمنية بكل إسهاماتها في الثورة والتي كان لها الدور الفاعل في استمرارها وان أخفتها الايدي الآثمة وحاولت تشويهها كما حاول من قبل "المخلوع" في إعطاء المجتمع صورة مشوهة عن دور المرأة في الثورة وإلصاق العار بها لالتحاقها بالساحات. ففي تنقلاتي الميدانية بين مديريات أرحب ونهم وبنى جرموز، رأيت صمودا نسائيا منقطع النظير، فبينما كانت المرأة تتعرض لقذائف النظام وتقتل داخل منزلها وتتعرض للتشريد والنزوح وقتل أو اختطاف زوجها وأبنائها وأقاربها، ظلت صامدة تدعم الساحات وجبهات القتال بالمال والطعام وتشجع أبناءها للالتحاق بالساحات والنضال السلمي. هناك بمديريه أرحب بقرى الشعب والجنادبة وبيت الحنق وغيرها من القرى التي زرتها وقابلت العديد من الناس هناك. كان أحد لقاءاتي بزوجة الشهيد "محسن الخدري"، زرتها وهي تصنع الكعك وبنت الصحن "للمقاومين مع نسوة أخريات، ورغم أنها فقدت زوجها وأخاها في جبهات الدفاع عن أرحب، كانت تردد الأدعية بهدوء وسكينة.. زوجة الشهيد حملت وسامين فهي زوجة شهيد وأخت الشهيد أسامه الخدري.. وجدت الرضى يملأ وجهها كما في وجوه الأخريات بالقدر المشرف. كانت تذكر النسوة حولها بفضل الشهادة والدفاع عن الوطن والحرية. تقول: الحمد لله هذا رضى الله علينا فقدنا اثنين ولكن إن شاء الله في الجنة. سألتها إن كانت خائفة لو فقدت بقية أسرتها "فأجابت بهدوء: نحن نموت موتة واحدة ولكن هناك فرق بين موتة الكرام وموتة خونة الوطن والإنسانية، فلو استشهدت كل أسرتي لما غير ذلك شيئا من حبنا للوطن لأننا اخترنا طريق الحرية والكرامة. موقف آخر "نقلته للقارئ عن صورة أخرى لذلك الصمود كان لأخت الشهيد عمر يحيي وهي تتحدث بفخر عن أخيها الشهيد"، كان يتمنى الشهادة دائما وعندما قامت الثورة كان من أوائل المنضمين والمدافعين عنها لذا اختاره الله لصدق نيته وحبه للخير.. ودعت زوجة الشهيد والأخريات وهن يجهزن قافلة لساحات الحرية بصنعاء كعمل يومي يشاركن فيه. حكاية نضال أخرى للمرأة اليمنية في إحدى قرى نهم "كنت أجرى مقابلة مع سكانها المتبقين فيها فقد نزح أغلبهم بسبب القذائف التي لا تتوقف.. قادني مجموعة من الأطفال إلى أمهاتهم اللائي يصنعن الطعام في أحد الجروف المظلمة.. دخلت إلى جرف فيه مجموعة من النساء لفهن دخان الحطب والنار تلفح وجوههن الطرية.. كان العرق يتصبب من جباههن، البعض كن يخبزن وأخريات يعجن الطحين والبعض يطبخن الطعام كان هناك تناغم بين ترانيمهن بأناشيد الثورة وبين حركتهن بالعمل.. توقفن للحظات كي يتحدثن معي فأقسمت أكبرهن سنا انهن سوف يناضلن إلى آخر نفس، ولو استدعى الأمر حملهن السلاح والدفاع عن حلمهن وثورة التغيير.. انهالت علينا القذائف في تلك اللحظات وكانت الانفجارات عنيفة، فواصلن عملهن بثبات غير عابئات بكل ما حولهن من مخاطر وموت قريب. وفي صنعاء حيث المكان الأكثر اختلافا وجدت المرأة اليمنية الثورية تساند شقيقها الرجل، وتقدم الغالي والنفيس في سبيل الحرية، فقد كانت مشاركة المرأة في المسيرات تجعل الصورة لوحة مميزة. وكانت ألوان العلم الوطني أكثر بريقاً وأعمق دلالة، وهو مرفوع على رؤوس الحرائر، ومرسوم على أكفهن ووجوههن. لقد رسمن خلال الثورة أزهى الصور السلمية والحضارية لمجتمع طالما تعرض للظلم في وسائل الإعلام التي تربطه بالتخلّف والعنف. اختزلت ذاكرتي من عام 2011 مشهدا فريدا وقع ثاني يوم لمجزرة الكرامة وأنا أمام بوابة المشفى الميداني كانت هناك وفود من الناس تتبرع للجرحى وأسر الشهداء... وقفت عجوز في زاوية بعيدة عن أعين الناس وأنا أراقبها.. أخرجت مبلغا من المال نصف أوراقه مقطعة ومن العملة المعدنية اخفته في كيس ولفته بقوة وتقدمت إلى أحد الأطباء لتتبرع بمالها لشراء أدوية للمصابين، تأملت منظرها قليلا بدى لي من هيئتها أنها محتاجة فالملابس الرثة والأوراق المالية المقطعة تدل على ذلك. تبعتها وسألتها "ما الذي دفعها للتبرع بالمال وهي أكثر احتياجا له؟ قالت بصوت رصين "ليست حياتي أو مالي أغلى من أبنائي الذين ضحوا بأرواحهم كي لا يعيش غيري يتسول اللقمة والمال"، وغادرت مستندة على عصاها تمشي بوهن. في كل مرة كنت أزور فيها المشفى الميداني أرى الطبيبات والمتطوعات والممرضات يتسابقن على تقديم الخدمات والمعالجات للجرحى والمستفيدين من المشفى بروح عالية لا تعرف الخوف والضعف. ففي المستشفى الميداني أسرعت كل طبيبة وكل بنت لديها خبرة في التمريض لأداء دورها في هذا المستشفى، حتى من لم تمارس الطب كانت تعرض خدماتها وتتوسل إليهم أن يسندوا إليها أي عمل حتى لو كان الإطعام أو سقي الماء للمرضى، تعرفت هناك على نجلاء يحيى أبو أصبع والتي كانت من الطبيبات اللآتي سجلن حضورا فعالا منذ الأيام الأولى لانطلاق الثورة.. حدثتني جميلة يعقوب إحدى الطبيبات والمشرفات على المشفى الميداني أنه خلال الثورة ونتيجة لازدياد حوادث الاعتداء على الشباب وكثره الانتهاكات التي مارسها النظام السابق على شباب الساحات؛ زاد عدد الخيم الطبية، حيث صارت تتراوح ما بين 8 و12 خيمة. وزاد عدد المتطوعات من الطبيبات والمسعفات والممرضات عن المائة. والكل كان يقدم أفضل ما لديه لخدمة الثورة. وعند مغادرتي للمشفى الميداني أتذكر صورة لن تمحى من ذاكرتي وأنا أغادر المستشفى الميداني... إذ رأيت إحداهن تدخل المستشفى وقد بدا عليها التعب والوهن (يبدو أنها في أشهرها الأخيرة من الحمل) .... اقتربت منها ..سألتها : ماذا بك؟ قالت: كنت في الميدان فلما شعرت ببعض الآلام جئت إلى الطبيبة. ثم قالت: أريد أبني محررا لأن حرية المرء تبدأ قبل مولده عندما تعزم أمه أن تلده حرا أريد أن يتعلم الحرية؛ أن ينشأ حرا في التعبير عن نفسه؛ حرا في إبداء مشاعره؛ حرا في الدفاع عن حقه؛ دون أن يتعدّى بذلك على حرية الآخرين. في الجانب الآخر وأثناء بحثي عن المرأة اليمنية في جوانبها الثورية التقيت بأم البراء وهي على تخوم أحد مداخل الساحة، توزع مهام العمل لفتيات أخريات. كانت لا تقف ثانية واحدة وهي تتفقد الخيام وتوزع الطعام للآخرين. وإذا استجدت أي مشكلة تقوم بحلها فورا. رأيت حرصها الشديد على أمن الساحة وزوارها وعدم حدوث أي مخاطر تهددهم حتى لو تعرضت حياتها للخطر، وقد حدثت لها مواقف كثيرة منها التعرض للاعتداء من قبل نساء يتبعن النظام السابق وكذلك للملاحقات والمضايقات أثناء خروجها من الساحة. كانت تؤكد لي بأن سعادتها المطلقة في كونها تقدم شيئا بسيطا مقابل بناء وطن وحرية لليمن وأبنائها حاضرا ومستقبلا. وكلما مررت بصحبتها بشارع الدائري من أمام الجامعة القديمة حتى سور الكرامة تذكر لي كل خيمة ومواقف وحكايات لأبطال الذين ضحوا بحياتهم هنا على الأرصفة وسالت دماؤهم في الشوارع والطرقات وبين الازقة.. شخوص المكان والزمان لازالت باقيه تبدأ حكايتها من الثورة وتستمر بنضالها المرأة، لتظل ذكرى فبراير مستمرة ... وتستمر الحكاية..