أنا مسئول كبير في الدولة وصلت إلى هذا المنصب الرفيع عبر المحسوبية والرشوة والمداراة والتخلي عن بعض القيم التي كنت أمتلكها قبل أن أصل لهذا المنصب الرفيع, لكنني لم أستطع أن أصل عبر القنوات المشروعة, وأنا أشاهد زملاء لي مكثوا في مناصبهم سنوات لأنهم كانوا ملتزمين بمعايير النزاهة والشرف هذه المعايير التي ليس لها أي قبول في سلم الترقيات الوظيفي. أعترف لكم أنني كنت أود أن أعمل بشكل مهني وصادق لكنني حدت عن هذا المبدأ عندما ألتقفتني حاشية فاسدة وغير نزيهة, وكل شيء أمامي متاح فبدأت أخذ الاعتماد الخاص بالمكتب ولا أصرف لباقي المكاتب التابعة لي أي قرش واحد .. لم يتكلم الجميع بل على العكس كانوا يجاملونني لكي يرتكبوا هم بدورهم مخالفات وأنا أغظ الطرف عنها, بل هم بعد ذلك يعطونني من الرشاوى التي يتقاضونها من المواطنين وفي البداية كان ضميري يؤرقني, لكن بعد ذلك أصبح الأمر عاديا وأصبح المدراء من حولي يتحدثون عن الخارج وعن بريق الدول الخارجية ففكرت أن أجرب ذلك البريق الأخاذ, وأن أرتب لي سفرية إلى الخارج مع بعض زملائي وقد كنت مهتم بالفلوس التي سأصرفها في الخارج فاتصلت بأحد المسئولين الكبار الذي رتب لي زيارة عمل في الظاهر ونزهة في الأصل, وتم صرف مبالغ التذاكر والمصروفات الخاصة بالسفر. ذهبت وراقت لي الفكرة فقد استمتعت كثيراً حلالا وحراما وأخذتني الدنيا وانغمست في الموبقات. وعند عودتي كنت مكتئبا فدخل علي مدير مكتبي وقد لاحظ علامات الاكتئاب على وجهي فقال لي: لماذا لا تشتري مزرعة بحيث تذهب عندما تشعر بهكذا ضيق، فقلت وكيف أشتري وليس لي المبلغ المطلوب فقال لي يمكن أن تقوم بمشروع وهمي في المؤسسة ولن يشعر بذلك أحد وسوف آخذ شيء بسيط وما عليك إلا التوقيع وأضاف:كل المدراء يعملون هكذا. فقلت: و ماهو ذلك المشروع؟ قال: ترمم المصلحة .. فقط قم بطلاء الجدران وأنا سأتكفل بالباقي فقلت: وإذا حضر الجهاز المركزي للرقابة ؟ قال: لا تخاف أنا أسوي لهم الرد والكل عارفين هذا. فوافقت وأحسست بشيء من التوجس. وفعل ما كان قد وعدني به, وأتاني بمبلغ لم أكن أتصور فذهبت على الفور لشراء مزرعة في منطقة تهامة وساعدني أناس هناك على شراء المزرعة وسهلوا لي كل شيء كي يحظوا بمبلغ زهيد فهم طيبون ويقنعون بأي شيء، وبعد ذلك كنت كلما شعرت بالضيق, ذهبت إلى المزرعة كي آخذ قسطا من الراحة, لكنني بعد أيام سئمت من المزرعة ومن السفر للخارج فاتصل لي صديق لي يعمل مديراً في إحدى الإدارات، وقال لي إن لديه مشروع بناء مصنع ويريدني شريكاً له فقلت له: لا يمكن أن نمارس عمل آخر ونحن نعتلي هذه المناصب فطمأنني، وقال: كل المسئولين يعملوا هكذا من أكبرهم إلى أصغرهم وأوعز لي أنه بمقدورنا أن نتهرب من الضرائب والجمارك وأن نسجل المشروع بإسم واحد من الأولاد أو شخص آخر وأن الأمر عادي ولا يوجد من يحاسب أحد وأن الأمور ستكون مفروشة بالورد، وأن المنصب سيخدمنا كثيراً ويسهل لنا كل شيء. فوافقت وطلبت مهلة حتى يرتب لي مدير مكتبي هذا المبلغ بطريقته الخاصة. وما هي إلا أيام ومدير مكتبي قد جهز المبلغ وأخذ نصيبه من المبلغ المختلس ورتب كافة الأوراق وشرعنا في تنفيذ المشروع .. لم أكن أعرف أن الأمور ستكون سهلة بهذا الشكل فالآلات دخلت دون أن ندفع فلس واحداً وكذلك الضرائب لم ندفع أي شيء ناهيك عن الأرض التي أخذناها بتراب الفلوس لأنها كانت تتبع الأوقاف, فقمنا بإخراجها من سجلات الأوقاف ولم ندفع سوى بعض الرشوة هنا وهناك وساعدنا في ذلك مدراء المديرية ومدير الأمن ولم يتحدث أحد ولم يحاسبنا أحد فجهزنا المصنع وانشغلنا كثيراً حتى أن مدير المكتب كان يدير المؤسسة بدلاً عني فلم تعد المؤسسة تهمني إلا عندما أتصل لمديري أن يرسل الاعتماد والمبالغ التي أحصلها وبعض المبالغ التي أتقاضاها جراء تسهيلات للعملاء .. بدت لي الفلوس كل همي وانشغلت كثيراً بين السفر والمزرعة والمصنع والعقارات والبيوت، فكانت الفلوس تزداد وتتكدس حتى أولادي لم أعد أعيرهم أي اهتمام، فكانت علاقتي بهم علاقة فلوس، وبينما أن كنت في غمرة مشواري للبحث عن المجد والفلوس والتنافس المحموم الذي كان بيني وبين المدراء والمسئولين وكأننا في سباق مارثون إذ أطل علينا أبو عزيزي وما تبع ذلك من تداعيات حتى وصلت النيران إلى بلادنا اليمن ومن حينها لم نعد ننام، ولم نعد نشرب كما كنا، ولا نأكل كما عهدنا فالهم والخوف سيطر علينا وكأن لسان حالنا يقول ستخرجوا كل النعم التي هنئتم بها وكل تفكيرنا كيف نستطيع أن نحافظ على مصالحنا من خلال هذا النظام فلا يهمنا حزب ولا من يحكم ولايهمنا رئيس بل تهمنا مصلحتنا. وصرنا نسأل أنفسنا هل إذا نجحت الثورة سنحاكم وسيذهب كل ما بنيناه؟ وهل سنودع في السجن بعد كل ذلك العز والهيلمان ونصبح مطاردين؟. يا للهول .. لو أننا لم نختلس ولم ننهب حقا من أحد لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من الخوف والرعب والهوان والذلة التي نعيشها اليوم فأين المخرج وأين المفر؟. لكن لا قلق كان كل ما سبق مجرد كابوس مسئول فاسد، وجد نفسه أمام ثورة شعبية غايتها التخلص من هذا الفساد الجاثم على صدورنا ثلاثون عاما، وقريبا إنشاء الله يتحقق هذا الكابوس على الفاسدين وينزاح فسادهم عن صدور اليمنيين.