في بداية هذا العام الهجري الجديد 1442 نسلط الضوء على مفهوم الهجرة النبوية الشريفة على النبي المهاجر عليه الصلاة والسلام، في مثل هذا اليوم قبل أربعة عشر قرناً هاجر النبي من مكة إلى المدينة، تاركاً قريشاً خلفه، ووجه متجها ًصوب أهل اليمن في المدينةالمنورة المنتظرين لبعثته بكل شوق منذ أن أوصى الملك التبع اليماني ولديه أوس وخزرج بانتظاره في هذا المكان المعلوم بين "حرتين" واستقبلوه بكل ترحاب تزخر بوصفه كتب تاريخ السيرة وكتاب التاريخ الإسلامي. إن مفهوم الهجرة لا يعني فقط التحول المكاني كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه بانتقالهما من مكة إلى المدينة فقط، هناك هجرة معنوية تشمل التحول الذهني وهجر ما فسد من القيم والأخلاق إلى ما هو أرفق بالنفس وأرضى للرب وأصلح للفرد والمجتمع. وذلك مع الحفاظ على مفهوم الانتقال المكاني كفعل نبوي وحركة مجتمعية بحثاً عن وطن بديل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما هاجر وهجر قريش.
كان قبح وفجور وخصومة وعناد قريش المُتألِّهة على الله والمتسلطة على قلوب وعقول الناس ادعى للنبي لترك هذا المجتمع الآسن، وهذا المعني الصريح للترك والهجر والهجرة يدعونا اليوم حرفياً إلى هجر خرفات قريش المتنقلة عبر الزمان والمكان في مختلف العصور. مثلت قريش أسوأ العادات وأرذل التقاليد والإيمان بالموروث القبلي البدائي الأبوي، ويكفي رفضها للحق لتوضع في أسوأ موضع في التاريخ، فرفض الرسول والرسالة عمل همجي لا يفعله إلا أسوأ البشر وأضلهم، لم يأت النبي بمنكر، ولا بما لا يفهمه العقل، أو ما يخالف فطرة البشر، بل جاء بالقيم السماوية التي جاء بها نوح وهود وإبراهيم وموسى وعيسى، إخوته السابقين عليه وعليهم السلام. إن عملية رفض القيم لا تحدث في مجتمع سليم ومتعافي، بل تحدث عند مجتمع آيل للسقوط والتلاشي. وهذا ما حدث لمجتمع قريش الذي لم يستطع أن يستوعب وجود إله في السماء يرسل إليهم رسولاً منهم، لقد منعوا أنفسهم من سماع قوله الذي تنجذب إليه الأنفس وتنشرح له القلوب.
تأتي هذه الذكرى وأبناء شعبنا مهجرين في الداخل والخارج، بفعل الهاشمية السياسية التي أوغلت في الحقد واستدعت الخطيئة القرشية في إيذاء وتهجير الرسول الرسالة بكل ما فيها من القيم التي جاء بها نبي الإنسانية. ما فعلته الهاشمية السياسية بشعبنا منذ أن توالت في مراحل هروبها إلى أقاليم اليمن الثلاثة صنعاء، وحضرموت وتهامة، لا يعد ولا يحصى، أبسط ما يفعلونه اليوم في حضرموت عبر نسختهم الصوفية -أهل الطريق- في أنه يمنع أن يقبر اليمني في المقابر الهاشمية هناك، وهذا تمايز في الحياة وفي الممات - مع أن هاشمية حضرموت أخذت الخصائص الاجتماعية والدينية من مجموع خصائص التميز الهاشمي، ولم تتحول بعد إلى خصائص البعد السياسي- وأبشع يفعلونه اليوم في صنعاء يأتي عبر نسختهم الحوثية كجزء من هذا الموروث القرشي الإرهابي الرجعي الرافض للتسامح والتعايش والانصياع لصوت العقل والضمير والفكر القائم على القتل والتفجير والتدمير. لا تعليم نفع معهم ولا الديمقراطية ولا قيم المواطنة ولا الجمهورية، فقط يريدون العودة إلى قرشيتهم البشعة.
إن هذا الموروث السيء الذي تعاني منه اليمن يدعونا في ذكرى الهجرة إلى هجر مخلفات قريش، وليس شرطاً أن يصح نسبها أو ادعاءاتها في هذا المجال، فيكفي أن يؤمن البعض بالفكرة الاستعلائية لقريش والمتمثلة بالهاشمية السياسية والتي تشبه بوجه أو بآخر الصهيونية التي تنسب نفسها للدين اليهودي، وهي مجرد حركة سياسية عنصرية، يجمعهما الشبه في التمسك بالموروث الديني كستار للحصول على مكاسب سياسية واجتماعية واقتصادية بلا كلفة بدَعَاوَى القربى والنسب. ومن يدعي اليوم نسبة الصهيونية للدين اليهودي أو نسبة الهاشمية السياسية للدين الإسلامي فهو مجرد مخادع. فلا الهاشمية السياسية تمثل الإسلام ولا الصهيونية تمثل اليهودية، من يمثل الإسلام هو محمد، ومن يمثل اليهودية هو موسى، وقد رحلا بعد تأدية مهمتهما في نشر القيم والحرية والعدالة والمساواة ومجمل ما جاءوا به لا يتفق مع طبيعة الأفكار العنصرية التي جاءت بها الصهيونية والهاشمية، فلا محمد جاء ليقيم الدولة الهاشمية ولا موسى جاء ليقيم الدولة الإسرائيلية، وكل الرسالات جاءت لنشر القيم ومكارم الأخلاق.
نستمع هذه الأيام لبعض مغفلي العلمانية الذين يدعون للتطبيع مع إسرائيل وهم يستدلون بتطبيع النبي محمد مع يهود المدينة، وهذا قول سفيه وحق يراد به باطل، أولاً أن تسدل العلمانية بسنة نبي فهذا قول عجاب لم يسمع به أحد من قبل، ثانياً وهو الأهم يهود المدينة هم قبائل يمنية عربية اعتنقت اليهودية كمثل بقية أهل اليمن، ولا شك في دينهم ولا في عروبتهم ، بينما صهاينة اليوم هم حثالة البشرية وقمامة كل الشعوب تجمعت على أرض فلسطين العربية وهذا تاريخ لا يمكن تزييفه، وهذا يبطل الادعاء بأن النبي قام بالتطبيع مع الصهاينة، بل تعايش مع يهود المدينة وقبل منهم وقبلوا منه التعايش وفقا للنظام القائم يوم ذاك. يجب علينا التفريق بين دين الله بنسخته اليهودية وبين الصهيونية المنحرفة والمحرفة لمفاهيم الدين، وعلينا التفريق بين الإسلام وبين الهاشمية المنحرفة والمحرفة لمفاهيم الدين، من ينظر لنتانياهو على أنه ابن موسى هو بالضبط كمن ينظر للحوثي أنه ابن محمد، وهذا هو الجنون عينه.
في ذكرى الهجرة علينا هجر الاستبداد بكل أشكاله خصائصه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وكما نص عليه القرآن وعالجه في معظم الآيات التي تحدثت عن موسى وفرعون، علينا هجر أخلاق قريش العصبوية والعنصرية ورؤيتها الإبليسية في الاستعلاء على الناس، علينا هجر تقاليد قريش في احتقار البشر وتقسيمهم إلى طبقات، واحتقارهم للمستضعفين من الرجال والنساء، إن فكرة احتقار النساء قرشية نقضها محمد صلى الله عليه وسلم وجاءت الرسالة لتحرم قتل البنات بدفنهن أحياء بدعوى العار والتقاليد، وتحرم القتل المعنوي للمرأة الذي فعلته جاهلية قريش البغيضة. لا خلاص لليمن اليوم إلا بهجر مفاهيم قريش المحرفة للدين- نحن هنا نتحدث عن النسخة القرشية في اليمن لا تحملوا حديثنا ما لا يحتمل- والاستفادة من المفاهيم النبوية للهجرة. وهنا ادعو كل المهجرين قسرياً من اليمن بفعل الهاشمية السياسية إلى التمسك بيمنيتهم أينما كانوا، ومن يريد اليمن فطريق النضال معروف وواضح، وادعو كل اليمنيين في الداخل إلى هجر الهاشمية السياسية والتمسك باليمن وبكل حقوقهم فيها.