بعض الناس يمرّون في حياتنا مرور العابرين، وبعضهم يرسّخون حضورهم في القلب والفكر والذاكرة، لأنهم لا يعيشون لأنفسهم، بل يعيشون لفكرة، لقضية، لقيمة، الأخ الصديق والزميل المرحوم فؤاد الحميري كان من هؤلاء الذين إذا ذكرتهم، حضرت النخوة، وحضر النضال، وحضر الإبداع. عرفته منذ سنوات في صنعاء، فكان أول ما أسرني في شخصيته ذاك الصوت الذي إذا خطب شدّك، وإذا أنشد أطربك، وإذا تحدث أوصل إليك المعنى بوضوح المبين وعمق الفيلسوف، كان خطيباً مفوّهاً، تتقافز الكلمات بين شفتيه كأنها جنود في ساحة المعركة، تعرف هدفها، وتدرك رسالتها، ثم عرفته عن قرب أكثر، فإذا بي أمام شاعر فصيح لا يكتب بالكلمات، بل يكتب بالأرواح، في قصائده كان الوطن نفساً، وكان الحرف طلقة، وكان الحنين ناراً لا تنطفئ، لم يكن الشعر عنده ترفاً لغويا، بل كان سلاحاً من أسلحة الوعي، وطريقا إلى نبض الجماهير.
يعرفه الناس خطيباً وشاعراً ولكنه أيضاً كان سياسياً بارعاً، لا يلهث وراء المناصب، بل يركض خلف المواقف، يقرأ المشهد بحدس المثقف، ويحاور بخبرة العارف، ويقف حيث ينبغي أن يقف، لا حيث يُطلب منه أن يصمت، فرض نفسه في قطار الإعلام، كناطق للمنسقية العليا لثورة فبراير، وتبوء منصب نائب وزير الإعلام في مرحلة هامة وحساسة، عقب ثورة الحادي عشر من فبراير 2011م التي كان أحد فرسانها، فقد كان في الإعلام مدرسة قائمة بذاتها، لا يكرر نفسه، ولا يعيد إنتاج ما يُقال، بل يبدع، ويطرح، ويفتح نوافذ الضوء في أزمنة الظلام، كان الإعلام عنده رسالة، والرسالة عهد لا ينتهي.
وإلى جانب ذلك كله، كان داعيةً ومربياً، يزرع في العقول بذور الفهم، وفي القلوب بذور الإيمان، وفي الأرواح بذور الثورة على الظلم والجهل والتبعية، كان يجمع بين العقل والقلب، بين الحكمة والشجاعة، بين الفكر والحركة. كان له مع القرآن الكريم والسيرة النبوية والتاريخ وقفات طويلة وعميقة، تفسيراً وتعبيراً واستلهاماً واسترشادا، عندما كنا نجلس في حضرته مستمعين لتفسيره وشرحه، فلم يكن يقرأ القرآن كقارئ عابر، بل كان يغوص في معانيه، ويستخرج كنوزه، ويُلقيها على السامعين بأسلوب يجمع بين جمال البيان، وحرارة الإيمان، وعمق الإدراك، كان يجد في القرآن بوصلة الحياة، ومصدر الإلهام، ودليل الطريق، وكان يُحسن أن يجعل من آياته ضوءا للقلوب وظلا للعقول، ترافقنا في دروب الدعوة والإعلام والنضال، ولم أره يوماً إلا ثابتاً، واقفاً، باسقاً كالنخيل، لا تميله ريح، ولا تكسره عاصفة، كان شوكة الميزان عندما تختلف الآراء، لا يصرخ، بل يقنع، لا يخاصم، بل يصلح، لا يبحث عن ذاته، بل عن خلاص وطنه.
عملنا سوياً في طريق المقاومة، ومن خلال المجلس الأعلى للمقاومة الشعبية، برئاسة المناضل الشيخ حمود المخلافي وكوكبة من خيار القوم، حاولنا أن نرسم ملامح طريق واضح لإنقاذ وطننا من مستنقعات التشظي والتيه، واضعين نصب أعيننا اليمن الحر، الكريم، العادل، كان الفؤاد يرسخ فينا أن الكلمة مقاومة، وأن الموقف جبهة، وأن الوطن لا يُبنى بالصمت، بل بالصوت العالي والحكمة العميقة والنضال الصادق.
كان فؤاد صاحب طرفة ذكية ونكتة هادفة، يُلقيها بخفة روح وعفوية، فتجد القلوب تميل إليه، والوجوه تبتسم من حوله، كان يعرف كيف يُمرر الحقيقة في قالب من الدعابة، وكيف يُصلح المزاج دون أن يُفسد الموقف، كانت روحه المرحة جزءا أصيلاً من شخصيته، تزيده قربا ومحبة في القلوب، نضاله العام في رحب السياسية والأدب والمقاومة والدعوة، لم تجعله غافلًا عن مسؤولياته الخاصة، بل كان زوجا وفيا، وأبا حكيما، حريصا على تنشئة أبنائه على القيم التي آمن بها، ربّاهم على حب الوطن، والتضحية في سبيله وعلى الإحسان للناس، وأن يكونوا عوناً لغيرهم لا عبئاً على أحد، وقبل ذلك علّمهم أن يعتمدوا على أنفسهم وأن تكون لهم شخصيتهم وهويتهم المستقلة. كان يرى في الأسرة نواة الوطن، وفي التربية مشروعاً وطنياً لا يقل شأناً عن أي منبر أو موقف، كان فؤاد الحميري محباً للناس، ساعياً في قضاء حوائجهم، متبنياً لقضاياهم ومشاكلهم دون أن يطلبوا، وكأنّ في قلبه متّسعا للجميع، شهدت بنفسي مواقف عدة في هذا المجال، لم يكن يرد أحداً خائبا، ولم يكن يسمع بمظلمة إلا حملها، ولا بحاجة إلا سعى فيها، كان يرى في ذلك واجباً لا منّة، وفضيلة لا فضلا، وكان حضوره في حياة الآخرين بلسما، وصوته سندا، وفعله أملا. لم يكن فؤاد الحميري رجلاً عاديا، كان حالة... حالة من النقاء النضالي، من الصدق الإنساني، من التفوق المتعدد الوجوه، رحيله لا يعني الغياب، بل يعني أن نقرأه أكثر، أن نستحضره أكثر، أن نحمل رسالته ونواصل الطريق، لأن هناك أناسًا، حين يغيبون، يبدؤون بالولادة من جديد.