بعض الراحلين لا يُقال فيهم "ماتوا"، بل نُساق إلى الاعتراف بأنهم "أكملوا الرسالة"، ثم مضوا. وفؤاد الحميري واحدٌ من هؤلاء. لم يكن مجرد شاعرٍ يقطف من اللغة زهرها، بل كان نسخة نادرة من أولئك الذين تتحول أقلامهم إلى منابر، وأصواتهم إلى ضمائر ناطقة. وُلد فؤاد من رحم اليمن، فحملها في قلبه ، وظل وفيًّا لوجعها، لصهيلها، لترابها، لثورتها، لوعدها الآتي، وإن تأخّر. عرفته أول مرة في التسعينات، حين زار شيخ فلسطين "أحمد ياسين" اليمن، فوقف فؤاد يُنشد لفلسطين من شرفات العزة والكرامة: كلما أسمع من شرفتنا صَوْت الحَمَامِ يتراءى لي جحيمُ الأرض في لون السلام أسألُ الباكي: أأنت من رشى فينا وراشى؟ أرضُنا بيعت لكي يحكمَنا عشرون باشا
كان صوته يتهجّى القصيدة كما يتهجّى المُصاب وجعه، ينثر كلماته لا ليرضي أذنًا، بل ليوقظ قلبًا. ثم تابعته، شاعرًا لا تكتمل مواسم الوطن إلا بنشيده، ولا تكتمل خطب الميادين إلا ببيانه.
لم يكن "الإصلاح" عند فؤاد الحميري حزبًا، بل معشوقًا أبديًا وملاذًا للفكر والروح. ولئن هام الشعراء بسُلمى وليلى، فقد تٌيّم صاحبنا بحب "الإصلاح"، وتغنّى به في كل موسم، يغزل من أثره قصائدَ الحرية، وينقش على جدرانه أناشيد الصمود: يا أيُّها الإصلاحُ، واسمُكَ منهجٌ عرفَ الدعاةُ بنورهِ الأشياءَ
أنا ما عشقتُك صورةً، بل سيرةً وحقائقًا لا أحرفًا جوفاءَ
أنا ما اتبعتُك مطمعًا، بل مبدأً عانقتُ فيهِ العِلمَ والعلماءَ ️ وفي الربيع اليمني، كان فؤاد الحميري بلبلَ الميدان، وخطيبَ الوجدان، وسادنَ الكلمة الشريفة. لا يعلو على صوته إلا صدقه، ولا يسبق حروفه إلا نبضه. وأتذكّره في إحدى خطب الجمعة بساحة التغيير، وقد اعتلى المنبر بصوته المجلجل، مستفتحًا خطبته بأبيات محمود درويش:
أيها المارّون بين الكلمات العابرة منكم السيف، ومنا دمُنا
فخذوا حصّتكم من دمنا وانصرفوا وعلينا نحن أن نحرس ورد الشهداء وعلينا نحن أن نحيا كما نحن نشاء
وحينها... هممتُ بالقيام والتكبير، لولا ما تفرضه آدابُ الجمعة من توقيرٍ للمقام. لقد اجتاحتني موجةُ صورٍ خاطفة، اختزلت مشهدنا مع الطغاة في تلك الكلمات المشحونة ببارود الغضب ومرارة الاستخفاف. كانت القصيدة مرآةً للواقع... وكانت كلماته كأنها تنزف منّا لا عنه.
لم يكن فصيحَ لسانٍ فحسب، بل فصيحَ القلب، رقيقَ الدمعة، خفيضَ الجناح، تألفه من النظرة الأولى، وتحبّه قبل أن يكتمل اللقاء.
لقد رحل الفؤاد... - نعم، فؤادُ الشباب الذي كان نبضَهم الأصدق. - ورحل فؤادُ الحرية الذي كان رئتَها حين ضاقت أنفاسُها. - ورحل فؤادُ الإصلاح الذي كان وجهَه الأجمل وقصيدته الأعذب. - ورحل فؤادُ اليمن... من لقبه أقرانه بالزبيري الجديد. - نمْ يا بلبل الربيع، فقد صدحتَ بأشواق الحرية حتى آخر نَفَس، ومضيتَ خفيفَ الروح، عظيمَ الأثر... وسنبقى على الدرب، حتى ننتزع من الدُّجى خيوط شمسنا اليمنية السعيدة.