مصطفى خالد في وطنٍ أتقنت نخبه السياسية الفاسدة فنّ النسيان، وامتهنت خذلان النبلاء من أبنائه، يقف الشاعر اليمني ياسين البكالي كندبةٍ مفتوحة في جبين هذا الزمن القاسي، وكسؤالٍ مؤلم في ضمير نخبة اعتادت أن تُصفق للعمالة، وتُهلل للرصاص، وتُسكت القصيدة متى ما صدحت بالحق . إنه ليس مجرّد شاعر، بل شاهدٌ على سقوط القيم، وناطقٌ باسم الكرامة حين أُخرس الجميع، ونبضٌ حيّ في جسد وطنٍ أنهكته الحروب، وخذله من ظنّوا أنهم أوصياء عليه . هو ليس مجرد شاعر، بل ضميرٌ يمنيٌ مجروح نطق شعراً، ووجعٌ إنسانيٌ نبيل حمل الوطن على أكتافه حين سقطت الرايات، وانهارت المعاني، وتاهت القيم في زحام الحرب والخذلان . كتب من قلب الجوع لا من فائض الرفاه، ونفخ في الحلم روحاً وهو يختنق بمرارة الواقع، وجعل من القصيدة وطناً بديلاً حين سُرقت البلاد من ناسها، وبيتاً من كرامةٍ يسكنه المقهورون في زمنٍ بلا مأوى ولا عدالة . ومع كل بيتٍ نزفه قلمه، كانت روحه هي المداد لا الحبر، وكانت كلماته نداءً حيّاً يصرخ في وجه القبح، لا قصائد تُعلّق على الجدران . شاعرٌ لفظته المؤسسات لأنه صادق، وأنكرته النخب لأنه لم يهادن، لكن الشعب احتضنه في ذاكرته الحيّة، لأنه قال ما عجزوا عن قوله... ووجعه كان وجعهم . في وطنٍ يُقيم المآدب للطغاة ويطرد الشعراء من مائدة الحياة، يصبح السؤال أكثر إلحاحاً ومرارة : هل بقي للكلمة موضع قدم في أرضٍ داستها البندقية؟ وهل تُغتَفر الخطيئة لمسؤلٍ فاسدٍ فرّط في شاعرٍ من قامة وصدق ياسين البكالي؟ أم أن خسارة شاعر بهذا النقاء هي إعلان صريح عن إفلاس الروح وخراب الوجدان . ياسين البكالي ليس مجرد شاعر، بل كائن شعري نادر يمشي على حدّ السكين، وينزف من قلبه لا من يده . كتب للوطن لا وهو يزهو، بل وهو ينزف وينكسر ؛ للناس لا وهم يحتفلون، بل وهم يتضورون جوعاً ووجعاً ؛ للحرية لا وهي تُحتفى، بل وهي تُجلد وتُسحق كل يوم على قارعة الصمت . لم يكتب طلباً للرفاهيةٍ، ولا تسابقاً نحو المنابر، بل كان صوته صادحاً من قلب القهر، وجمراً يتّقد في زمن الرماد . في إحدى قصائده المدوية، كتب : " أنا الشاعرُ المنفيُّ من وطنِ الخيالْ أبيتُ فوقَ الألمِ، وآكلُ من سؤالْ تطاردني المنافي في دمي والموتُ يسألني : متى يأتي الزوالْ؟ " . مأساة الشاعر... جرح وطن رغم وعيه الحاد، وشعره النازف الذي كان يقطر من جرح الوطن لا من خياله، عاش ياسين البكالي مأساة مركّبة التفاصيل : المرض الذي أنهك جسده، الفقر الذي طوّق أيامه، والنسيان الذي غلّف موهبته بالصمت . لم يجد الشاعر من يمدّ له اليد حين اشتد عليه الألم، ولا من يترجم الشعارات إلى مواقف حين ضاق عليه الزمن . فبينما تعالت الأصوات في المنابر، خفت صوت البكالي في أروقة الإهمال، كأنما القدر قرر أن يكون هذا الشاعر عنواناً لوطن يخذل أنبغ أبنائه . في مرارة بوحه، قال : " قل للعروشِ المُذهّبةِ : نحنُ نموتْ لا طبّ، لا خُبز، لا بيتْ نموتُ بلا ضوءٍ ولا صوتْ وفي الحناجرِ ألفُ بيتْ لكنّهم خافوا القصيدْ فكممونا... ثم أنكروا القصيدْ " شاعر لا يُساوم... ولا ينكسر لم يكن ياسين البكالي شاعر سلطةٍ تكتب لها، ولا كاتب بلا موقف يساير المرحلة ويصمت . كان صوتاً نقيّاً من قلب اليمن، لا يحمل سوى قضيته في صدره، ولا يعرف سوى الكلمة الصادقة سلاحاً . واجه الطغاة بلا خوف، ووقف في وجه تجّار الدم وأمراء الحروب دون أن يساوم على وجعه أو يهادن في موقفه . وحين ارتفعت البنادق، واجهها بقصيدة، وحين خنقوا الأمل، أنشده بيتاً أقوى من الرصاص : " أنا لا أقاتل بالبندقية لكنني... أزرع المعركة بالقصيدة " سأكتبُ عنهمْ... عن الذينَ سرقوا رغيفَ الطينِ والملحْ عن الذينَ جعلوا من خوفِنا مفتاحَ فجرْ عن المنابرِ حين تُصبحُ خنجراً وعن المآذنِ حين تلعننا وتبكي في الدفاترْ " . وحدي في وطنٍ مسروق وفي قصيدة "وحدي" يُجسّد صوت الإنسان اليمني الموجوع، في مواجهة نخبة خانت الوطن وباعت كرامته بثمنٍ بخس . بل مرافعة حارقة باسم الصدق، في زمنٍ باع فيه الكثير ضمائرهم . يقول البكالي في مقتطف موجع من القصيدة : وحدي أقلّبُ كفّي لا أرى أحداً غيرَ الذينَ بخبثٍ ضيّعوا البلداً أذنابُ دولارِها الملعونِ أجمعُهم لا يشعرونَ بما نحتاجُهُ أبداً نحن الذين احتموا بالشمس وائتزروا بخيطِها ثم ضاعوا في الصراع سُدى . بهذه الكلمات، لا ينسج الشاعر مرثيةً على أطلال وطنٍ مسروق، بل يشعل لغته جمراً في وجه النفاق، ويفضح نخبةً باعت ضميرها للسلطة، وتركت أبناءها عراةً تحت شمس الحيرة، يكابدون صقيع الفساد الذي تسلّل إلى كل زاوية من زوايا الحلم الذي اغتالوه . خذلوه حيّاً... فلا تخذلوه ميتاً رحل ياسين البكالي بصمتٍ يشبه صوته العالي... لم تنعه وزارات الثقافة التي لا تسمع إلا صدى السلطة، ولم تقف النخبة حداداً على شاعرٍ صدح بما عجز عنه الآخرون، وقال في زمن الجُبن ما يُقال عادةً بعد فوات الأوان . لكن ياسين لم يمت... لأن الكلمة الصادقة لا تموت، ولأن القصيدة حين تولد من وجعٍ نقيّ، تبقى حيّة في ضمير الناس، ولو مات قائلها . فلنُخلّد ياسين لا كضحية إضافية في سجل الخذلان، بل كرمزٍ حيّ، وصوتٍ لا يجوز أن يخفت، وضميرٍ شعري لا يليق به إلا الخلود : " سأبقى هنا، في القصيدةِ، في الترابْ في دمعِ أمٍ، في وعودِ المغتربْ في حزنِ جنديٍّ ينامُ على الغيابْ أنا الشهادةُ، لا تُوقّعني الحروبْ أنا الحقيقةُ... حين تنكرها الخطوبْ " الخلاصة : ليست مأساة ياسين البكالي مجرد قصة فردٍ مبدع تُرك خلف الأضواء، بل هي تجسيد صارخ لمأساة وطنٍ أُطفئت أنواره بأيدي نُخبه، لا بغيابه . وطنٌ غائبٌ في حضوره، لأن من يقبضون على زمام السلطة اختاروا الصمت المُتواطئ بدل الإنصاف، والإنكار بدل الاحتفاء، فدفنوا الكلمة في مقابر التجاهل، ووأدوا الإبداع في زوايا الإهمال . في ياسين، نرى وجوه كل الموهوبين الذين صرخوا في العتمة ولم يُجبهم أحد، نرى المدى الذي بلغه الخذلان، حين تتحول النخب إلى مقصلة لا إلى منارة . لكن الكلمة لا تموت . ستبقى قصيدة ياسين البكالي محفورة في الذاكرة اليمنية الحرة، لا كهامش عابر في دفتر نسيان، بل كصرخة خالدة في سجل الحقيقة . ستعيش كلماته، لا كأبيات شعر، بل كطلقة مقاومة، وكشعلة أملٍ لا تنطفئ، تواجه قبح التواطؤ بصوتٍ لا ينكسر، وتُعيد رسم ملامح وطنٍ يستحق الحياة والكرامة . من حائط الكاتب على الفيسبوك