المناضل عثمان كمراني .. حضور وشموخ    جريمة غامضة في صحراء شبوة.. جثة ومخازن رصاص وسيارة منهوبة    الصراعات غير الموضوعية والحروب العبثية لاتفضي الى تطور المجتمع    العملة بين مطرقة السياسة وسندان الجوع.. هل من حقّنا أن نطبع؟    العملة بين مطرقة السياسة وسندان الجوع.. هل من حقّنا أن نطبع؟    إصلاح عمران يعزي بوفاة حرم الشهيد الثائر حميد بن حسين الأحمر    الشابع مش داري ماعند الجاوع    البيضاء.. مقتل وجرح 8 برصاص مليشيا الحوثي في رداع والحكومة تدين    ارتياح شعبي لطرح الإصدار الثاني من العملة الورقية فئة 200 ريال    سريع يعلن استهداف مطارين اسرائيلين وميناء إيلات واهداف عسكرية في يافا وأسدود    عرض مهيب لقوات التعبئة في مديريات شمال الحديدة    رياض الحروي: أربع حاويات من العشب الصناعي تغادر ميناء عدن في طريقها إلى نادي الصقر    سحب قرعة الدور التمهيدي الثالث لدوري أبطال أوروبا    برشلونة يحضر لخطف صفقة مدوية من الغريم مدريد    إب.. فعاليات نسائية بمركز المحافظة ويريم والقفر إحياءً لذكرى استشهاد الإمام زيد    متوسط أسعار الذهب في صنعاء وعدن الاثنين 21 يوليو 2025    الرئيس المشاط يعزي في وفاة الشيخ مسعود بن حسين شثان    تدشين مشروع تركيب إشارات المرور في مديرية صيرة    الرئيس الزُبيدي يتفقد سير الأعمال الجارية لإعادة تشغيل مصافي عدن    توكل كرمان.. والراقصة المصرية التي تقيم افطار صائم من مال حرام    الإمارات ترسل سفينة محملة ب 7166 طنا من المساعدات إلى غزة    تدشين مشروع توزيع كفالة اليتيم السنوية لعدد 1110 من الأيتام المكفولين بمأرب.    أرتيتا سعيد بحسم الصفقات الجديدة لأرسنال مبكرًا    امانة الانتقالي تحذر من الانفجار الشعبي وتطالب بحلول جذرية للأزمات في الجنوب    إطلاق النار في المناسبات... ضعف ثقافة وغياب للردع!    الشيخ الجفري: تضحيات شهدائنا تلزمنا الاصطفاف خلف قيادتنا    غارات على ميناء الحديدة    هل تسبب فرقعة الأصابع التهاب المفاصل؟    ارتفاع ضحايا الإبادة الإسرائيلية في غزة إلى 59 ألفا و29 شهيدا    صرخة جوع وقهر… لا خزي فيها ولا عار    أوتشا: 88% من مساحة غزة تخضع لأوامر إخلاء عسكرية    بذور اليقطين.. الوصفة الكاملة من أجل أقصى فائدة    غزة هي بداية النهاية 1-2    فتح باب التظلم للثانوية العامة وطريقتها    دراسة تكشف حقائق "صادمة" عن طب "العصور المظلمة"    عدن.. سجن مفتوح للجوع والخذلان    رغم تلقيه ضربة في الوجه.. تصرف نيمار مع مشجع اقتحم الملعب    دراسة أسترالية: البيض لا يزيد من الكوليسترول الضار    المرة 18.. كلوب بروج بطل السوبر البلجيكي    بعد اعتذار الهلال.. الاتحاد السعودي: نؤكد احترام الأنظمة وحماية المصالح    "أغلى من الذهب والألماس".. حجر نادر يباع بملايين الدولارات للقيراط الواحد    النصر يطير إلى النمسا.. والعروض أمام المبعدين    وزير الثقافة: المحتل هو من جلب المآسي والأوجاع للمحافظات المحتلة وأبنائها    وزيرا التربية والصحة ورئتيس مصلحة الجمارك يفتتحون معمل الحاسوب بثانوية عبدالناصر للمتفوقين بصنعاء    عدن.. خزانات مياه صلاح الدين مهددة بالانهيار بسبب أعمال إنشائية أسفلها    في كلمته بذكرى استشهاد الإمام زيد عليه السلام .. قائد الثورة : موقفنا ثابت في نصرة الشعب الفلسطيني    فتى المتارس في طفِّ شمهان .. الشهيد الحسن الجنيد    بإشراف اللجنة العسكرية وقيادة المنطقة العسكرية السابعة ومحور مكيراس.. إعادة فتح طريق عقبة ثرة الرابط بين محافظتي البيضاء وأبين    كتاب قواعد الملازم.. وثائق عرفية وقبلية من برط اليمن " بول دريش جامعة أكسفورد" (5)    غزه تموت جوعاً    مرض الفشل الكلوي (13)    الحكومة: مليشيا الحوثي تستغل تجارة المشتقات النفطية لتمويل أنشطتها الإرهابية    السيد القائد: نحيي ذكرى استشهاد الامام زيد كرمز تصدى للطاغوت    سهول دكسم.. في الجزيرة العذراء سقطرى    حروب اليمن على الجنوب ليست وليدة اليوم بل منذ ما قبل ميلاد المسيح (ع س)    هل فعلاً الإفطار أهم وجبة في اليوم؟    الإسلاموية السياسية طائفية بالضرورة بغض النظر عن مذهبها    فتاوى الذكاء الاصطناعي تهدد عرش رجال الدين في مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ياسين البكالي... الشاعر الذي نزف شعراً ومشى على حافة الوجع
نشر في يمنات يوم 19 - 05 - 2025


مصطفى خالد
في وطنٍ أتقنت نخبه السياسية الفاسدة فنّ النسيان، وامتهنت خذلان النبلاء من أبنائه، يقف الشاعر اليمني ياسين البكالي كندبةٍ مفتوحة في جبين هذا الزمن القاسي، وكسؤالٍ مؤلم في ضمير نخبة اعتادت أن تُصفق للعمالة، وتُهلل للرصاص، وتُسكت القصيدة متى ما صدحت بالحق .
إنه ليس مجرّد شاعر، بل شاهدٌ على سقوط القيم، وناطقٌ باسم الكرامة حين أُخرس الجميع، ونبضٌ حيّ في جسد وطنٍ أنهكته الحروب، وخذله من ظنّوا أنهم أوصياء عليه .
هو ليس مجرد شاعر، بل ضميرٌ يمنيٌ مجروح نطق شعراً، ووجعٌ إنسانيٌ نبيل حمل الوطن على أكتافه حين سقطت الرايات، وانهارت المعاني، وتاهت القيم في زحام الحرب والخذلان .
كتب من قلب الجوع لا من فائض الرفاه، ونفخ في الحلم روحاً وهو يختنق بمرارة الواقع، وجعل من القصيدة وطناً بديلاً حين سُرقت البلاد من ناسها، وبيتاً من كرامةٍ يسكنه المقهورون في زمنٍ بلا مأوى ولا عدالة .
ومع كل بيتٍ نزفه قلمه، كانت روحه هي المداد لا الحبر، وكانت كلماته نداءً حيّاً يصرخ في وجه القبح، لا قصائد تُعلّق على الجدران .
شاعرٌ لفظته المؤسسات لأنه صادق، وأنكرته النخب لأنه لم يهادن، لكن الشعب احتضنه في ذاكرته الحيّة، لأنه قال ما عجزوا عن قوله...
ووجعه كان وجعهم .
في وطنٍ يُقيم المآدب للطغاة ويطرد الشعراء من مائدة الحياة، يصبح السؤال أكثر إلحاحاً ومرارة :
هل بقي للكلمة موضع قدم في أرضٍ داستها البندقية؟ وهل تُغتَفر الخطيئة لمسؤلٍ فاسدٍ فرّط في شاعرٍ من قامة وصدق ياسين البكالي؟ أم أن خسارة شاعر بهذا النقاء هي إعلان صريح عن إفلاس الروح وخراب الوجدان .
ياسين البكالي ليس مجرد شاعر، بل كائن شعري نادر يمشي على حدّ السكين، وينزف من قلبه لا من يده .
كتب للوطن لا وهو يزهو، بل وهو ينزف وينكسر ؛ للناس لا وهم يحتفلون، بل وهم يتضورون جوعاً ووجعاً ؛ للحرية لا وهي تُحتفى، بل وهي تُجلد وتُسحق كل يوم على قارعة الصمت .
لم يكتب طلباً للرفاهيةٍ، ولا تسابقاً نحو المنابر، بل كان صوته صادحاً من قلب القهر، وجمراً يتّقد في زمن الرماد .
في إحدى قصائده المدوية، كتب :
" أنا الشاعرُ المنفيُّ من وطنِ الخيالْ
أبيتُ فوقَ الألمِ، وآكلُ من سؤالْ
تطاردني المنافي في دمي
والموتُ يسألني :
متى يأتي الزوالْ؟ " .
مأساة الشاعر... جرح وطن
رغم وعيه الحاد، وشعره النازف الذي كان يقطر من جرح الوطن لا من خياله، عاش ياسين البكالي مأساة مركّبة التفاصيل :
المرض الذي أنهك جسده، الفقر الذي طوّق أيامه، والنسيان الذي غلّف موهبته بالصمت .
لم يجد الشاعر من يمدّ له اليد حين اشتد عليه الألم، ولا من يترجم الشعارات إلى مواقف حين ضاق عليه الزمن .
فبينما تعالت الأصوات في المنابر، خفت صوت البكالي في أروقة الإهمال، كأنما القدر قرر أن يكون هذا الشاعر عنواناً لوطن يخذل أنبغ أبنائه .
في مرارة بوحه، قال :
" قل للعروشِ المُذهّبةِ :
نحنُ نموتْ
لا طبّ، لا خُبز، لا بيتْ
نموتُ بلا ضوءٍ ولا صوتْ
وفي الحناجرِ ألفُ بيتْ
لكنّهم خافوا القصيدْ
فكممونا... ثم أنكروا القصيدْ "
شاعر لا يُساوم... ولا ينكسر
لم يكن ياسين البكالي شاعر سلطةٍ تكتب لها، ولا كاتب بلا موقف يساير المرحلة ويصمت .
كان صوتاً نقيّاً من قلب اليمن، لا يحمل سوى قضيته في صدره، ولا يعرف سوى الكلمة الصادقة سلاحاً .
واجه الطغاة بلا خوف، ووقف في وجه تجّار الدم وأمراء الحروب دون أن يساوم على وجعه أو يهادن في موقفه .
وحين ارتفعت البنادق، واجهها بقصيدة، وحين خنقوا الأمل، أنشده بيتاً أقوى من الرصاص :
" أنا لا أقاتل بالبندقية
لكنني... أزرع المعركة بالقصيدة "
سأكتبُ عنهمْ...
عن الذينَ سرقوا رغيفَ الطينِ والملحْ
عن الذينَ جعلوا من خوفِنا مفتاحَ فجرْ
عن المنابرِ حين تُصبحُ خنجراً
وعن المآذنِ حين تلعننا وتبكي في الدفاترْ " .
وحدي في وطنٍ مسروق
وفي قصيدة "وحدي" يُجسّد صوت الإنسان اليمني الموجوع، في مواجهة نخبة خانت الوطن وباعت كرامته بثمنٍ بخس .
بل مرافعة حارقة باسم الصدق، في زمنٍ باع فيه الكثير ضمائرهم .
يقول البكالي في مقتطف موجع من القصيدة :
وحدي أقلّبُ كفّي
لا أرى أحداً
غيرَ الذينَ بخبثٍ
ضيّعوا البلداً
أذنابُ دولارِها الملعونِ أجمعُهم
لا يشعرونَ بما نحتاجُهُ أبداً
نحن الذين احتموا بالشمس وائتزروا
بخيطِها ثم ضاعوا في الصراع سُدى .
بهذه الكلمات، لا ينسج الشاعر مرثيةً على أطلال وطنٍ مسروق، بل يشعل لغته جمراً في وجه النفاق، ويفضح نخبةً باعت ضميرها للسلطة، وتركت أبناءها عراةً تحت شمس الحيرة، يكابدون صقيع الفساد الذي تسلّل إلى كل زاوية من زوايا الحلم الذي اغتالوه .
خذلوه حيّاً...
فلا تخذلوه ميتاً
رحل ياسين البكالي بصمتٍ يشبه صوته العالي...
لم تنعه وزارات الثقافة التي لا تسمع إلا صدى السلطة، ولم تقف النخبة حداداً على شاعرٍ صدح بما عجز عنه الآخرون، وقال في زمن الجُبن ما يُقال عادةً بعد فوات الأوان .
لكن ياسين لم يمت...
لأن الكلمة الصادقة لا تموت، ولأن القصيدة حين تولد من وجعٍ نقيّ، تبقى حيّة في ضمير الناس، ولو مات قائلها .
فلنُخلّد ياسين لا كضحية إضافية في سجل الخذلان، بل كرمزٍ حيّ، وصوتٍ لا يجوز أن يخفت، وضميرٍ شعري لا يليق به إلا الخلود :
" سأبقى هنا،
في القصيدةِ، في الترابْ
في دمعِ أمٍ، في وعودِ المغتربْ
في حزنِ جنديٍّ ينامُ على الغيابْ
أنا الشهادةُ، لا تُوقّعني الحروبْ
أنا الحقيقةُ...
حين تنكرها الخطوبْ "
الخلاصة :
ليست مأساة ياسين البكالي مجرد قصة فردٍ مبدع تُرك خلف الأضواء، بل هي تجسيد صارخ لمأساة وطنٍ أُطفئت أنواره بأيدي نُخبه، لا بغيابه .
وطنٌ غائبٌ في حضوره، لأن من يقبضون على زمام السلطة اختاروا الصمت المُتواطئ بدل الإنصاف، والإنكار بدل الاحتفاء، فدفنوا الكلمة في مقابر التجاهل، ووأدوا الإبداع في زوايا الإهمال .
في ياسين، نرى وجوه كل الموهوبين الذين صرخوا في العتمة ولم يُجبهم أحد، نرى المدى الذي بلغه الخذلان، حين تتحول النخب إلى مقصلة لا إلى منارة .
لكن الكلمة لا تموت .
ستبقى قصيدة ياسين البكالي محفورة في الذاكرة اليمنية الحرة، لا كهامش عابر في دفتر نسيان، بل كصرخة خالدة في سجل الحقيقة .
ستعيش كلماته، لا كأبيات شعر، بل كطلقة مقاومة، وكشعلة أملٍ لا تنطفئ، تواجه قبح التواطؤ بصوتٍ لا ينكسر، وتُعيد رسم ملامح وطنٍ يستحق الحياة والكرامة .
من حائط الكاتب على الفيسبوك


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.