عبد الوهاب قطران نعم، حذفتُ المقالة التي نشرتها صباحًا، ليس لأنني ندمتُ على ما قلت، بل مراعاةً لمشاعر إخوتي، ولكي أُسكت شماتة بعض من رأوا في وجعي فرصة للسخرية أو التشفي. لكنهم أخطأوا الظن. لأن الذي يصرخ من ألم الجوع ليس متسولًا، بل حرّ، ولم تكن كلماتي عارًا، بل شهادة حية على فسادٍ مزمن وجورٍ صارخ وسلطة لا تستحي من تجويع من يفترض أنها ترعاهم. نعم، كتبت عن جوع أهلي، عن عطش عنبنا، عن ضيق الحال وخيبة المسعى... ولم أكتب من باب التذمر أو الاستجداء، بل كتبت لأن الجوع لم يعد خجلاً، ولأن التستر على الألم هو عين الخيانة حين تكون الكلمة هي السلاح الوحيد في وجه الخراب. كتبت لأنني قاضٍ لا يعيش في برج عاجي، بل ابن الريف، وصوت المقهورين، وسليل الجبال التي لا تهاب الجهر بالحقيقة مهما كانت مرة. كتبت لأنني أردت أن أُسقط القناع عن سلطةٍ تجبى ولا تعطي، تأخذ ولا تعوض، تصمّ آذانها عن صراخ الناس وتطلب منهم الصمت باسم الكرامة! لكن المؤلم ليس الجوع وحده، بل أن يتحول من حولك إلى حرّاس لصمتك، أن يخجل أخوك لأنه جاع، لا لأن هناك من جعله يجوع. أن ينكسر صوت اخيك ، لأنك فضحت العطش لا لأن العطش جارح. أن يسخر منك من هم أشد فقرًا، لأنهم وجدوا في وجعك فرصة للشماتة لا للتضامن. أما ذلك القاضي الذي تسلل إلى تعليقاته وهو يلوك الغمز واللمز، ويتستر بعباءة القضاء ليجلد الضمير الحي… فإني أقول له: أنت لا تختلف عن السوط الذي يجلد الفقير لأنه صرخ. قاضٍ يخجل من الجوع أكثر مما يخجل من الظلم، لا يستحق احترام محروم ولا دعاء مظلوم. لقد حذفت مقالتي السابقة، لا لأنني ندمت على ما كتبت، بل لأنني آثرت مشاعر إخوتي، وأردت أن أسكت ألسنة المتشفين، أولئك الذين يظنون أن الستر على التجويع شرف، بينما الشرف كلّه في كشفه إذا صار سياسة ممنهجة وتجويعًا مقصودًا. ما كتبته لم يكن عيبًا، بل شهادة. وشهادتي لا تُقمع، وإن أُجبرت على حذفها من "فيسبوك"، فهي محفورة في الذاكرة، وفي أوراقي التي لن تُغلق، وفي جيلي الذي سأُشهره على كل مائدة جائع. فإذا كنتم تخجلون من كلمتي، فأنتم تخجلون من الحقيقة. أما أنا، فلا أخجل من أهلي، ولا من افقارهم، ولا من عنبهم العطشان. نعم، كتبت عن جوع إخواني، عن عطش العنب الذي كان الى زمنٍ قريب مورد رزقهم الوحيد، عن الأرض التي بارت، والماء الذي نضب، والخبز الذي غاب، وعن السلطة التي تزرع الجوع وتستثمر فيه. وإن كنت قد صرختُ في وجه الجوع، وعرّيتُ سلطة الجوع، وصدحت بالحقيقة العارية، فقد سبقني إليها من هو أعظم، وأفصح، وأشرف. فها هو عبدالله البردوني، فيلسوف اليمن وشاعرها الأكبر، يبكي جوعه ويفضح من جعله جائعًا، دون خجل ولا مواربة، في قصيدته الخالدة: لماذا لِيَ الجُوعُ والقصفُ لَكْ يُناشدُني الجُوعُ أنْ أسألَكْ لماذا؟ وفي قبضتيكَ الكنوزُ تمدٌّ إلى لُقْمَتي أنمُلَكْ وتقتاتُ جُوعي وتُدعَى النّزيه وَهَلْ أصبحَ اللّصُ يوماً مَلَكْ؟ لماذا تدوسُ حشايَ الجريح وفيهِ الحنانُ الذي دلّلكْ؟ ودمعي، ودمعي سقاكَ الرحيق أتذكُرُ يا نذلُ كم أثملَكْ؟ فما كانَ أجهلني بالمصير وأنتَ لكَ الويلُ ما أجهلكْ غداً سوفَ تعرفني مَنْ أنا ويسلُبُكَ النّبلَ مَنْ نَبّلَكْ فَفِي أضلُعي ..في دمي غضبةٌ إذا عصَفَتْ أطفأَتْ مِشعلَكْ غداً سوفَ تلعنُكَ الذكريات وَيَلْعنُ ماضِيكَ مُستقبلَكْ البردوني لم يخجل أن يقول "جعت"، لأنه كان يعلم أن عار الجوع لا يقع على من جاع، بل على من جوعه. كتب البردوني عن فقره ولم يخفِ عوزه، لأنه كان يرى فيه فضيحة النظام لا فضيحة الضحية. وكذلك فعل الصديق الصدوق، المناضل الجسور، القاضي احمد سيف حاشد ، الذي كتب عن جوعه وبؤسه ولم يوارِ عظامه خلف جدران الزيف أو التصنّع أو الوجاهة الكاذبة. كتب حاشد عن جوعه وهو تحت قبة البرلمان، فهل جاع ليستجدي؟ لا. بل جاع ليُشهِد الناس على بؤس السلطة وظلمها. هؤلاء هم قدوتي. وعلى خطاهم نسير. ليس الجوع عارًا، بل العار أن نصمت عنه. ليس الألم نقيصة، بل النقيصة أن نكذب على أنفسنا ونزخرف آلامنا بطلاء الكِبْر المزيف. سأكتب، حتى لا يألف الجوعُ فينا الصمت. وسأصرخ، لأن صرختي ليست استجداء، بل احتجاج. ليست نحيبًا فرديًا، بل لسان جموع مسحوقة، بكماء، خرساء، نزفت حتى جفت الدموع. ومن يخجل من كلمتي، فليُراجع نفسه: هل يخجل لأنه يخشى علينا؟ أم لأنه يخشى أن نُحرجه بكشف ما يتعامى عنه؟ ليس الجوع عيبًا. العيب أن نصمت. ليس البوح مهانة. المهانة أن نكذب على أنفسنا ونُجمّل الخراب باسم الستر. أما أولئك الذين سخروا، وتهكموا، ولاموني أنني فضحتُ عطش العنب وموت الزرع، فأقول لهم: إننا لم نُخلق لنعيش في مسرح تمثيلي من الكذب والظهور الكاذب والستائر المنمقة. نحن من طين الأرض، ومن وجعها نكتب، ومن جوعها نصرخ. وإذا كان الجوع قد أخذ منّا الخبز، فلن نسمح له أن يأخذ منا الكرامة. ليعلم ذلك القاض، وكل من في قلبه خُبث: أنني كتبت عن "جوع أهلي" لأنني لم أعد أحتمل أن أكون شاهد زور على صمت الجوع، صمت العطش، صمت الحرمان في مدينة يسرقها الطغاة باسم الله وباسم الجمهورية وباسم الوطن! نعم، كتبته أنا القاضي، لا المواطن، لأن القاضي إن لم يكن لسان المظلوم، فماذا بقي من القضاء؟ القاضي إن سكت عن جوع أسرته، وعن قهر شعبه، صار خصيًا في بلاط المستبد، لا حامل ميزان العدالة. أما خجل أخي، وابن أخي ، فأتفهمه… لكن الجوع لا يُخجل، الجوع فضيحة من ينهبون، لا من يجوعون..