حين يكون وعيُ العدو متقدماً على وعي الأمة، فإن المعركة تكون خاسرة منذ بدايتها، ويكون الإذعان والخضوع نتيجة طبيعية، مهما تظاهرت بعض الأنظمة أو الشعوب بالصمود اللفظي والشعاراتي. وحين يكون للعدو مشروع متكامل، يبدأ من استهداف الوعي وينتهي بإخضاع القرار السياسي والسيادي للأمة، فإن أي مقاومة لا تقوم على وعي بحقيقة هذا المشروع لن تكون أكثر من رد فعلٍ عاطفي محدود التأثير. وقد كان من أبرز ما قدّمه الشهيد القائد السيّد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه، هو هذا الفهم العميق لمنطلقات العدو، والإدراك الاستباقي لطبيعة معركته مع الأمة. لم يكن حديثه عن "أمريكا وإسرائيل" حديثاً دعائياً ولا ترديداً لشعارات عامة، بل كان نتاج قراءة دقيقة لمصادر العدو وخطابه السياسي والفكري والإعلامي، ونتيجة لتأملٍ واسع في الآيات القرآنية التي تحدّثت عن طبيعة اليهود والنصارى ومواقفهم من الأمة. كان رضوان الله عليه يرى أن أعظم خدمة يمكن أن تُقدَّم للعدو هي أن نبقى في حالة غفلة عن مشروعه، وأن نعيش أوهام "السلام"، و"الحوار"، و"الشرعية الدولية"، بينما هو يبني خطواته على أساسٍ عدائي واضح. ولذلك كان يركّز على كشف طبيعة الصراع، وتسليط الضوء على المفاهيم التي يخدع بها العدو الشعوب، ويقدّمها بلبوس إنساني وحقوقي وأخلاقي. إن أول ما عمل عليه الشهيد القائد هو كشف الغطاء الديني والثقافي الزائف الذي يتستّر به العدو، وإسقاط الهالة الأخلاقية التي تُصوِّر أمريكا على أنها "راعٍ للسلام" أو "حامية للديمقراطية". وكان يدرك أن من لا يفقه منطلقات العدو، لا يمكنه أن يتخذ الموقف الصحيح، لأن موقفه سيكون مبنياً على تصورات خاطئة أو منقوصة. ومن هنا جاءت أهمية دروسه القرآنية التي لم تكن مجرد دروسٍ وعظية أو معرفية، بل كانت أدوات لبناء وعي سياسي استراتيجي، تستند إلى القرآن باعتباره المصدر الأول لفهم الواقع وتشخيص العدو وتحديد الاتجاه. ولذلك، فإن الشهيد القائد حين قال إن "القرآن يعطينا نظرة تفصيلية عن اليهود والنصارى"، كان يعني أن من لا ينطلق من هذه الرؤية سيظل في حالة تخبّط، وقد يقع في شراك العدو، مهما حسنت نواياه أو صدقت نزعته التحررية. لقد شكّل هذا الفهم أساساً للوعي المقاوم، وأعاد بناء الموقف السياسي من أمريكا وإسرائيل بشكلٍ صريح، وجعل من "البراءة من أعداء الله" مرتكزاً أساسياً لأي تحرك سياسي أو ثقافي أو شعبي. ومن هنا جاءت أهمية "الشعار" الذي لم يكن مجرد تعبير احتجاجي، بل تلخيص دقيق لموقف قرآني شامل، يربط بين عداوة أمريكا وإسرائيل من جهة، ووجوب مواجهتهما بالموقف والكلمة والفعل من جهة أخرى. اليوم، ونحن نعيش مرحلة انكشاف كامل لأوراق العدو، خصوصاً في عدوانه الوحشي على غزة، يتبيّن لنا كم كان هذا الوعي الذي أسسه الشهيد القائد سابقاً لزمانه، وكم أن الكثير من النخب التي كانت تتهمه "بالتسرع" أو "بإثارة العداوات" لم تكن تفقه طبيعة الصراع، ولم تكن ترى أبعد من حدود الخطاب الإعلامي الغربي أو مصالح الأنظمة الحاكمة. ومن اللافت أن كل الأطراف التي اختارت أن تُساير العدو، أو تراهن على الحماية الأمريكية، هي اليوم أكثر من يدفع ثمن هذا الرهان، سواءً من خلال الارتهان الكامل، أو من خلال الانكشاف السياسي والأخلاقي. في المقابل، فإن المحور الذي تأسس على هذا الوعي القرآني، وعلى فهمٍ دقيق لمنطلقات العدو، هو اليوم المحور الأكثر تأثيراً في الساحة، والأكثر صموداً، والأكثر قدرة على إرباك الحسابات الصهيونية والأمريكية. ومن هنا نفهم لماذا كان استهداف الشهيد القائد، ولماذا لا تزال الحرب مستعرة على كل من يحمل مشروعه ويواصل خطه. لقد كان من أبرز ما ركز عليه الشهيد القائد رضوان الله عليه، هو هذا البُعد القرآني في بناء الوعي السياسي والفكري، حيث كانت محاضراته ودروسه تنطلق من القرآن، وتغوص في أعماق مفاهيمه، لتصوغ منهجية واعية تضع الأمة في مواجهة مكشوفة مع العدو. لقد عمّق رضوان الله عليه الوعي بخطر المشروع الأمريكي والإسرائيلي من خلال تسليط الضوء على الآيات التي تفضح مكرهم وتوثق تاريخهم الأسود، ليصبح القرآن في مشروعه ليس مجرد مصدر للهداية الروحية، بل قاعدة صلبة لبناء موقف سياسي وفكري ناضج وصلب. ومن هذا المنطلق، فإن الخطاب المقاوم اليوم لا يعبّر عن مجرد ردة فعل ظرفية، بل هو امتداد لمدرسة قرآنية متجذّرة. يتجلّى ذلك بشكل واضح في خطابات السيد القائد عبدالملك بن بدر الدين الحوثي يحفظه الله، التي تُعد أنموذجاً راقياً للخطاب القرآني المعاصر، القادر على كشف العدو وتسمية الأشياء بمسمياتها، دون مداهنة أو التباس. إن حديثه عن إسرائيل وأمريكا والأنظمة المطبعة، واستحضاره المتواصل للآيات القرآنية التي تكشف طبيعة الصراع، يجسّد عملياً الرؤية التي أسس لها الشهيد القائد، ويعكس حالة الارتباط العميق بالمنهج الإلهي. كما يُمثل محور الجهاد والمقاومة اليوم التطبيق العملي لهذا الفهم القرآني العميق، حيث تمكن من أن يتحرك من منطلق الوعي لا العاطفة، ومن موقع الإدراك الواعي لمكائد العدو وأساليبه لا من ردود الأفعال المؤقتة. فقد استطاع هذا المحور، من طهران إلى بغداد، ومن الضاحية إلى صنعاءوغزة، أن يتجاوز الحسابات الضيقة والمواقف المائعة، ليصوغ جبهة متقدمة، تشكل اليوم أبرز تهديد حقيقي للعدو الصهيوني والمشروع الأمريكي في المنطقة، ليس فقط بما تملكه من قوة السلاح، بل بما تستند إليه من قوة الوعي المستمدة من كتاب الله. القرآن الكريم لم يكتفِ بتحديد هوية العدو، بل قدّم توصيفاً دقيقاً لنفسيته وسلوكه ومخططاته وأدواته، فقال تعالى: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾، وكشف طموحه في السيطرة فقال: ﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾، وبين وسائله التضليلية فقال: ﴿وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. وحين شخص الله سبحانه وتعالى نفسيات العدو الإسرائيلي بهذه الدقة، وقدّم لنا أهدافهم ووسائلهم وأساليبهم، فإنه في ذات الوقت أرشدنا إلى طريقة المواجهة، وأسس لنا منهجية قرآنية متكاملة تقوم على الفهم الواعي والعميق للقرآن، كأساسٍ للتحرك العملي في مواجهتهم والانتصار عليهم، وهو المنطلق الذي انطلق منه الشهيد القائد رضوان الله عليه. يقدم هذا المقال امتدادًا عمليًا وفكريًا لما أسسه الشهيد القائد رضوان الله عليه من فهم قرآني عميق لطبيعة العدو الإسرائيلي الأمريكي ومنطلقات سلوكه، حيث أرسى منهجية متكاملة لبناء الوعي السياسي المقاوم، مستندة إلى القرآن الكريم كمرجعية أساسية. ويأتي خطاب السيد القائد عبدالملك بن بدر الدين الحوثي يحفظه الله نموذجًا حيًا يترجم هذا المنهج إلى واقع سياسي واستراتيجي واضح، يعزز دور محور الجهاد والمقاومة كخط دفاع متين وفاعل في مواجهة المشروع العدائي. إن مواجهة العدو ليست مجرد معركة ميدانية، بل هي معركة فكرية وثقافية تبدأ بفهم دقيق ومتجذر في كتاب الله، يتجاوز ردود الفعل السطحية، ويؤسس لمشروع مقاومة واعٍ يستند إلى الوعي والهوية والإرادة المستقلة.