عادل السياغي الصورة التي تُغني عن ألف خطاب في هذه الصورة التي التقطتها عدسة لا تعرف الكذب، لا نرى مجرد وجوه، بل نرى صرخات مكتومة، أنين المعدة الخاوية، وانحناءة الرأس الثقيلة بانتظار ما قد يسدّ رمق يوم واحد. فتاة صغيرة، يغمرها الإرهاق، تكاد تنهار من التعب والجوع، تتمسك بطنجرة فارغة وسط زحام أيدٍ أخرى تتزاحم على البقاء. هذا ليس مشهدًا من مجاعة القرن الأفريقي، بل من غزة… من فلسطين. حصار يجرّد الإنسان من كرامته لأكثر من تسعة أشهر، يُفرض على غزة حصار خانق هو الأقسى في تاريخ الحروب الحديثة. لم يعد الناس في القطاع المحاصر يبحثون عن الرفاه، أو حتى العلاج، بل باتوا يقاتلون لأجل كسرة خبز وجرعة ماء. الصورة تلخص مأساة مجتمع بكامله؛ مأساة لا تتوقف عند حدود القصف والدمار، بل تمتد إلى الجوع اليومي، إلى فقدان الأمل، إلى انهيار الإنسان من الداخل. لو حدث هذا في الجاهلية.. لانتفضت نخوة قريش لو وقع مثل هذا الحصار في زمن الجاهلية، لربما انتفض حتى كفار قريش، رفضًا أن يروا قبائل العرب تموت جوعًا. كانت الجاهلية رغم ظلامها تملك تقانون "النخوة"، وترفض إذلال الإنسان في جوهره. أما اليوم، فإننا نعيش ما هو أسوأ من الجاهلية: زمن "العجز العربي"، حيث العرب يشاهدون موت إخوتهم جوعًا بصمت بارد، ومن خلف الشاشات فقط. الطناجر تتكلم حين تصمت الضمائر هذه الطناجر التي تمتلئ بالفراغ، والتي ترفعها الأيدي يوميًا في طوابير الإذلال، ليست فقط أدوات طبخ، بل باتت رموزًا لغياب العدالة، لعجز المنظومة الإنسانية، ولتآكل الضمير العالمي. هي "أبواق صامتة" لصرخة شعب يُذل ويُنسى. أين العرب؟ أين العرب من هذه الصورة؟ أين وزراء الخارجية؟ أين بيانات القمم والمبادرات والخطوط الحمراء؟ غابت العروبة، وذابت المروءة، وبقيت هياكل بشرية تحمل أسماء العرب دون أن تعني شيئًا سوى التواطؤ بالصمت. رسالة الصورة هذه الصورة يجب أن تُعلّق في أروقة الأممالمتحدة، في مكاتب زعماء العالم، في غرف القرار في العواصم الكبرى. يجب أن تكون دليلًا على فشل النظام الدولي في حماية الأطفال من الموت جوعًا، وعلى تواطؤ العالم مع الاحتلال بوسائل التجويع والترويع. بين الخذلان والصمود تلك الفتاة لم تمد يدها لتتسوّل، بل لتُقاوم، لتقول للعالم: "أنا هنا، لم أمت بعد، رغم جوعكم، رغم صمتكم، رغم خيانتكم". وحده شعب غزة من بقي يقاتل بكل وسيلة، حتى لو كانت "طنجرة فارغة"، لأنها أحيانًا تصرخ أعلى من كل قنابل العالم.