معمر ابوحاجب في زمن الحرب، تصبح أبسط القرارات الاقتصادية عرضة للتشكيك، والتخوين، وحتى السخرية. وطباعة العملة ليست استثناء. فما أن يلوّح أحد الأطراف بطباعة نقود جديدة، حتى تُرفَع أصوات المزايدين، ويُستدعى القانون والدستور والدروس الجامعية، وكأن الجوعى في طوابير الخبز يقرؤون تقارير صندوق النقد الدولي. لكن السؤال الذي علينا طرحه بوضوح وجرأة هو: هل من المنطقي أن نُجمّد أي محاولة للمعالجة الاقتصادية لمجرد أنها تصدر من طرفٍ سياسي لا نتفق معه؟ وهل الشعب يجب أن يدفع ثمن العجز السياسي مرتين: مرة بانقسام السلطة، ومرة بشلل القرار؟ في عدن، طُبعت العملة بإفراط، دون ميزان اقتصادي يحكمها. فحدث تضخم، وانهارت القوة الشرائية، وفقد المواطن ثقته بما في جيبه. وفي صنعاء، توقّف البنك المركزي عن طباعة العملة الجديدة، حتى كبديل عن التالفة. فتقلّص النقد المتداول، واختفت السيولة من الأسواق، وفقد الناس قدرتهم الشرائية، لا فقط "قوة العملة". ففي عدن، ضاعت العملة. وفي صنعاء، ضاع المواطن. لذلك فإن انتقاد الخطوة نفسها – أي الطباعة – بوصفها خيانة أو كسرًا للقانون، هو تجاهل للسياق القائم: نحن نعيش حربًا مزّقت البلد ومؤسساته، ولا يمكن القياس على ظروف ما قبل الحرب بينما نعيش فوضى مفتوحة. بل إن الحرب ذاتها هي أبشع خرق للدستور والقانون، فكيف يصبح طبع العملة هو الجريمة الأكبر في عرف البعض، بينما استلاب الموارد، ونهب الثروات، وتجويع الناس... يُعدّ "اختلافًا سياسيًا مشروعًا"؟ إن كان القانون يرفض طبع العملة.. فهل يقبل الجوع؟ هل يُجيز الفقر؟ هل يُبرر غياب الرواتب؟ هل يُشرعن أن لا يجد المواطن ما يشتري به دواء أو دقيقًا أو أملًا؟ لقد طالبتُ منذ البداية بتحييد الاقتصاد،ودعوت إلى إدارة مالية واحدة لا تنتمي لطرف بل للوطن. لكن بما أن هذه الدعوة لم تجد آذانًا صاغية، فليتحمّل كل طرف مسؤوليته عن حياة الناس في مناطق سيطرته. ومن هنا، أُعلن موقفي بصراحة: أؤيد اليوم طباعة العملة في صنعاء، ليس فقط لتعويض التالف، بل لضخ سيولة تعيد للناس بعض الحياة. هذه ليست رفاهية فكرية، بل ضرورة بقاء. وليعلم من يعارض هذا التوجّه لمجرد الكراهية السياسية: أن الجوع لا يسأل عن الخلفيات، والفقر لا ينتظر صفقات السلام، والحياة لا تُؤجَّل حتى نكتب دستورًا جديدًا ونختار رئيسًا بالتوافق. من يُعارض طباعة العملة ويمنع أي حلّ لمجرد أنه لا يأتي من فصيله السياسي، فهو يساهم في قتل الناس ببطء، ثم يتشدّق باسم القانون على قبورهم. نحتاج اليوم إلى قرارات شجاعة، مؤقتة نعم، لكنها واقعية. فطالما فشلنا في تحييد الاقتصاد، فليتحرك كل طرف لإنقاذ من يستطيع من تحت أنقاض هذه الحرب المجنونة. أما من ينتظر أن تتوقف المدافع كي نبدأ الحياة، فهو إما يعيش في كوكب آخر، أو يريد لهذا الشعب أن يُدفن أولًا... ثم يُدار باسمه الوطن. الحياد الاقتصادي ليس خيارًا بعد اليوم، بل ضرورة للنجاة. والمزايدة على لقمة الناس... خيانة ناعمة ترتدي رداء القانون