أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    العميد باعوم: قوات دفاع شبوة تواصل مهامها العسكرية في الجبهات حماية للمحافظة    وكالة دولية: الزنداني رفض إدانة كل عمل إجرامي قام به تنظيم القاعدة    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    البحسني يكشف لأول مرة عن قائد عملية تحرير ساحل حضرموت من الإرهاب    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    في اليوم 202 لحرب الإبادة على غزة.. 34305 شهيدا 77293 جريحا واستشهاد 141 صحفيا    "صفقة سرية" تُهدّد مستقبل اليمن: هل تُشعل حربًا جديدة في المنطقة؟..صحيفة مصرية تكشف مايجري    مغالطات غريبة في تصريحات اللواء الركن فرج البحسني بشأن تحرير ساحل حضرموت! (شاهد المفاجأة)    خال يطعن ابنة أخته في جريمة مروعة تهزّ اليمن!    الإنتقالي يرسل قوة امنية كبيرة الى يافع    "قديس شبح" يهدد سلام اليمن: الحوثيون يرفضون الحوار ويسعون للسيطرة    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    فشل عملية تحرير رجل أعمال في شبوة    إلا الزنداني!!    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    لابورتا يعلن رسميا بقاء تشافي حتى نهاية عقده    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    "جودو الإمارات" يحقق 4 ميداليات في بطولة آسيا    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    اشهر الجامعات الأوربية تستعين بخبرات بروفسيور يمني متخصص في مجال الأمن المعلوماتي    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    مع الوثائق عملا بحق الرد    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بوح فتنة ومعاناة
عبدالله سلام ناجي :
نشر في الجمهورية يوم 19 - 06 - 2007

بداية سوف انطلق في تقديمي ديوان «سلام للفهم» للشاعر والناقد الكبير المرحوم عبدالله سلام ناجي من تعريفه الجميل والدقيق للقصيدة على أنها «بوح فتنة ومعاناة...» «1» وذلك لما لهذا التعريف من مقدرة على استيعاب مضمون قصيدة عبدالله سلام ، التي استطاعت أن تحول الواقع الاجتماعي القاسي إلى ولادة ابداعية فاتنة بكل ما فيها من معاناة والالام ، وبالاستناد إلى هذه الرؤية المعاصرة ، كتب «سلام» القصيدة العامية الحديثة وكان أول فارس يعتلي عرشها ، حيث قام بهدم بنيتها التقليدية ، واستحدث لها بنية جديدة الشيء الذي مكنه من الانتقال بها من طور فضح الواقع عبر الشكوى والأنين إلى طور مواجهته ورفضه ، بكل مافيه من قسوة وبؤس بادوات فنية ومضمونية معاصرة رفعت القصيدة العامية اليمنية إلى مستوى القصيدة العربية الحديثة.
ولقد كان عبدالله سلام ناجي رائداً للشعر العامي الحديث ، ابتداءً من ملحمته الشعرية الشهيرة «نشوان والرعية» وانتهاءً بقصائد ديوان «سلام للفهم» ففي «نشوان والرعية» قام بتحديد ملامح أول مدرسة للشعر العامي الحديث ، وفي «سلام للفهم» أعلن عن اكتمال بنائها معتمداً على فهمه العميق بأن القصيدة العامية الحديثة برهنت على «قدرتها الفائقة في احتضان المضامين الإنسانية بنجاح لايقل عن القصيدة الفصيحة وهذا كان لاثبات استقلال شخصية القصيدة كتجربة مستقلة مما ينفي تطفل الشكل في جانبه اللغوي ...«2».
ومثلما استحق عبدالله سلام ناجي الريادة في مجال القصيدة العامية الحديثة ، استحقها كذلك في مجال الكفاح الوطني الذي خاضه قولاً وفعلاً من أجل تحقيق حلمه في بناء دولة اليمن الحديث ، فقد كان من ابرز المثقفين اليمنيين الذي اسسوا ثقافة التغيير في اليمن وقدموا التضحيات كل التضحيات من أجل تحقيق مشروعهم التقدمي وهذا ما جعل تجربته الشعرية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتجربته الكفاحية ، ويبرز هذا الترابط بشكل أوضح في ملمح تداخل الذاتي والجمعي في نتاجه الشعري.
ولقد احتل ملمح تداخل الذاتي والجمعي مساحة واسعة في بنية قصائد ديوان «سلام للفهم» وشكل القاسم المشترك في العلاقة بين حياة عبدالله سلام ناجي وشعره واتاح للقارئ والدارس امكانية قراءته كمبدع في الشعر ومبدع في الحياة.
ويمكن ادراك مدى التداخل في ملمح الذاتي والجمعي في شعره من خلال المساحة التي احتلها الذاتي أو الجمعي في هذه القصيدة أو تلك كما حدث في قصيدة «ياقمري» التي تبدو وكأن الذاتي فيها يحتل مساحة كبيرة من زمان ومكان القصيدة .
«بأي ميل قاكحلت عيونك
ياقمري .. ماليش سلى بدونك
كم احسدك.. من الصباح يقيمك
يذوق هواك ونرجسك وليمك.
لقد كون هذا المقطع لوحة شعرية زاخرة بالشوق الجارف ، المصحوب بالغيرة ، ومعمدة بحزن السؤال الممزوج بوجع الحرمان ، مما جعلها تبدو وكأنها مطوقة بالبعد الذاتي وهي في اعماقها تبطن قدراً كبيراً من المعاناة والهموم التي يفرضها الواقع العام.
ساعة تجود بنظرتك وتسمع
وساعة تغيب بين الغمام وترجع
تخلنا وحدي بوسط.. مردع
وفي قصيدة «الحب من نقمة» يدخل العام من «خلال» العذال كطرف ثالث في معركة الحب ، والغياب ، والعودة ، ويتضح أنه كان هو المتسبب في اتساع الهوة التي فصلت المحب عن حبيبه وجعلته يبالغ في جفوته وعناده.
( بعد غيابي عدت له
لكن غيابي بدله
وكم يعاند واحمله
واصبر على اللي يعمله
غالي على نفسي
داخل فؤادي منزله
لكن كلام الناس
عن الهوى قاحوله)
في واقع اجتماعي يكرس الحرمان وينتج اسبابه ودوافعه ، يتحول الحب من مصدر للسعادة إلى مصدر للشقاء ، ويكتسب «الدلال» مضموناً مغايراً يقترب من مضمون الكراهية ، كما أن كيد العذال في الصورة الشعرية جسد البعد الاجتماعي السلبي الذي دفع بالمحب إلى الاستنجاد بالليالي التي كانت وشهدت حرارة الحب وتدفق الاحلام.
( وكم تشهد ليالينا
على حبي واحلامي..
وبهذا الاستنجاد اعقد المحب أن الليالي الماضيات يمكن لها أن تقنع الحبيب بمغادرة العناد والجفوة..
(..وليته كان يرضينا
بكلمة شنسي آلامي
وشنسي موجة الأوهام
والأفكار والحيرة..)
في قصيدتي «ياقمري» و«الحب من نقمة» حاول الذاتي ازاحة الجمعي من مساحة الصورة الشعرية ، من خلال غزارة الشوق ، وفجاجة وطول زمن الغياب ، وعناد الحبيب وجفوته المبالغ فيها ، إلا أن الذي ينظر بامعان إلى اعماق الصورة الشعرية يجد أن الذاتي بتجلياته العاطفية المتعددة ينبثق من اغوار الجمعي القسري المحكوم بمجموعة من الاعراف والتقاليد والعادات البالية التي عادة ما تحاصر العلاقات العاطفية إلى درجة الإجهاز.
وأما في قصيدة «كم شغني» التي غنتها الفنانة شريفة ماهر فالأمر يختلف كلية فقد احتل الجمعي فيها مساحته الكافية ، حيث تمثل الشاعر بحسه الصادق المرهف الهموم والمعاناة العاطفية والاجتماعية التي تسببها ظاهرة الاغتراب عن الوطن بحثاً عن لقمة العيش أو طلباً للعلم.
(.. خلي ياناس من شخبره بحالي
صبري خلص وأنا اسهر الليالي
وكم شغني والمغاني باتطول.. ياحبيبي
وكم شغني والأسى مابايزول.. ياحبيبي
غائب سنين قالوا السنة وصوله
الله يصيب من كان سبب رحيله.
وقصيدة «كم شغني» تعكس بصدق مأسوية الهجرة عن الوطن ، التي عانت ومازالت تعاني منها الأسرة اليمنية ، حتى اليوم ، فالخل غاب ولم يعد ، ولايوجد سبيل لاخباره بالحال ، وليالي السهر والحرمان استنفدت الصبر كله ، والانتظار لعودة الحبيب قد أكل وشرب من العمر مايكفيه والدعاء إذا لم يستجب يضاعف من أوجاع الفراق.
وتأتي قصيدة «الدودحية» التي غناها الفنان المرحوم محمد عبده زيدي لتكشف عن ظاهرة ماسوية أخرى لاتقل عن ماساة الهجرة عن الوطن ، بل ويمكن ادخالها في قائمة مآسي الهجرة في الوطن ، وهي ظاهرة التفاوت الاجتماعي.
في قصيدة «الدودحية» تتجسد مأسوية التفاوت الاجتماعي الذي ينعكس في حرمان عشرات الآلاف من الفتيان والفتيات من حرية اختيارهم للحب وللحياة اللذين يحلمون بهما.
في قصيدة «الدودحية» التي تشكل لوحة فنية راقية الألوان والأبعاد ، تحول الواقع إلى اسطورة وصار ذلك الواقع الاسطوري عبارة عن رمز لرفض التفاوت الاجتماعي.
وفي لوحة «الدودحية» الشعرية يرفض العم الغني زواج ابنته بابن اخيه الفقير رفضاً مطلقاً ، إلا أن الحب بين الفتاة وابن عمها كانت اقوى من جبروت العم وثروته ، فقد كان العلاقة العاطفية بين الفتاة وابن عمها قد وصلت إلى درجة الاكتمال الذي لايقبل التأجيل مهما كانت العوائق التي قد تقف أمام الوصل الشيء الذي أدى إلى أن الفتاة تحمل لابن عمها ، ولأن هذه الواقعة خضعت للرقابة الاجتماعية منذ البداية ، اذيع سرهما ، ووصلت قضيتهما إلى محاكم الاستئناف وتم تداولها في معظم مناطق اليمن ، وأخذ الحس الشعبي بنسخ الحكايات والأغاني العديدة عنها وسجل تاريخ الأدب اليمني واقعة «الدودحية» كرمز ادبي في صفحة أدبية مرموقة ، ودون مقدمات تقتحم قصيدة الدودحية كبرياء العم وجبروته لتقوم بمحاكمته اجتماعياً.
(.. ياللي أنت قاسي وقلبك من حجر
موينفع اليوم بكاءك والحذر
ماتقدر انته ولاغيرك قدر
واللي تخافه من الناس قد ظهر
مويعمل القلب واليد خالية
والدودحي قال بنته غالية
ومن مخاطبة العم تنتقل الصورة الشعرية إلى مخاطبة المعشوقة على لسان ابن عمها الذي عبر عن اعتزازه بحبه لها ، محملاً والدها مسؤولية ماحدث...
(...يادودحية أنا إب عمك أنا وأنت اللي تدري
بموتم بيننا
لا الذنب ذنبك ولا ذنبي أنا
ذنب الذي من دُجا الباب ردنا..)
في قصيدة «الدودحية» اكتسبت الصورة الشعرية بعداً جديداً ، حيث اتسعت فيها مساحة المضمون الإنساني المعاصر ، من خلال تألقها في تعرية التفاوت الاجتماعي ، والانتصار للمحرومين من ابسط الحقوق الإنسانية ، ولقد جمعت قصيدة «الدودحية» بين الهم العاطفي وبين المعاناة الناتجة عن القهر الاجتماعي ، بانسياب غنائى جميل.
وللشاعر جموعة قصائد مغناة ، ومن بينها قصيدة «ليليه» و«قطفت لك كاذي الصباح بكمه» بلحن وغناء محمد مرشد ناجي ، وقصيدة «صباح الحب» التي غناها جابر علي أحمد.
وفي قصيدة «لم تكتمل» افتتح الشاعر بوابة مرحلة شعرية جديدة ، اراد لها أن تتجه نحو مستوى أعلى من الحداثة الشعرية.
(.. ما حلاك ياهمي البعيد
ماحلاك وأنت راجع بليله تصرب الغربة
صراب
في طريقك فاح عرف الحب فاح
يا واصل بليله زاد جماله فوق جماله الآواني
ليله العيد يا حيبيب في رجوعك ليله ثاني
ليله فيها كل شيء غنى وحضر من صحيح..)
وهنا تصل الصورة الشعرية إلى ذروة الجمال الشعري ففيها انتزع المحب السعادة من أعماق الحزن ، وفيها تحولت مررة الهم إلى حلاوة العيد بعودة الغائب ، وعاد الدفء الذي كان قد اختفى إلى احضان الأحبة كانت هذه الواحة الشعرية البديعة التي خلقها الشاعر عبارة عن مهرجان للجمال والابتهاج والفرح ، شاركت في كل الاحلام والأماني وقامت كل الاشياء للتحضير له حيث كان دافعها كل ما في الحب من صدق ووفاء.
إن قوة الإبداع الخارقة تكمن في قدرتها على رفع درجة الاقتراب من الحلم إلى مستوى الحقيقة وهذا ما فعلته «قصيدة لم تكتمل».
وفي قصيدة «من زماني» يتجلى ملمح تداخل الذاتي والجمعي بأجمل صوره الشعرية
( آح من زماني
نيرزف قلبي بحزن الأرض والايتام
وزاد من قسوته اعماني
سرحت بالوهم اترائي
العراق والشام
وتحسر وأنا دور على على المحبوب
وهو جنبي
بحدف اللي أخذ في غفلة حبي..)
في قصيدة من زماني يقف الشاعر وجهاً لوجه أمام رحلته الإبداعية والحياتية ، وقف ليراجع زمانه بكل مافيه من طموح ومرارة وعقبات واشواك ، ذلك الزمان الذي كتبه الشاعر بدموع الليالي ، واوجاع الاغتراب ، كتبه بدم وعظم الحلم بوطن خال من العسس والحدود الجغرافية وخال من حزن الأرض والأيتام.
(.. آه ياليتني ما حبيت
أو يليتني في عميتي دقيت
باب البيت
ماكان عذبنا الغياب المر
ولاكوح مع الأحزان في قلبي
وايش ذنبي ؟ بس أيش ذنبي
خلقت أحمل هموم الناس
ابكيهم واضيع فرحتي..)
وعلى الرغم من أنها مراجعة مؤلمة تفوح برائحة الحزن والندم ، إلا أنها اكدت اصرار الشاعر على مواصلة الطريق ، ولكن نحو حلم جديد وبرؤية جديدة ، انضجتها دموع وأوجاع الرحلة الطويلة.
في قصيدة «سلام للفهم» يدخل الشاعر إلى القصيدة من أوسع ابواب الحياة وهو بوابة الواقع الاجتماعي والسياسي ، وبمقدرة فريدة تمثل كل ما في الواقع من تنوع وتناقض ومعاناة وهموم فدخل إلى اعماق القصيدة بروح القادر على تجاوز الواقع وصياغته بطريقة ابداعية استطاعت أن تجمع شروط فنين في ولادة ابداعية واحدة وهما الفن المسرحي ، والفن الشعري ، تلك الولادة التي كونتهما باتقان وبها قام الشاعر بصياغة عالمه الذي يريد في قصيدة استوعبت المشرق والجميل في الحياة ورفضت القبيح والزائف..
(.. سلام للفهم
إن شيء فهم وإلا فالسلام
يحفظ وديعه الف عام
لجيل يقشط اخطاء البداية والختام
لمرحلة عكر على تطبيقها فحش الكلام..)
وبهذا المستوى العالي من الوعي والأفق الثقافي ، انحاز الشاعر إلى صف الفهم وبه افتتح حواريته الشعرية ، وبطريقة فنية بارعة تمكن من محاورة الأصوات والأدوار ، والوقائع واستطاع أن يسيطر على الزمان والمكان الذي تشخص في جملة من الآمال والأحلام وتكتف في جملة من المعاناة والهموم التي كانت بمثابة الرافعة التي كونت القصيدة.
(..بعد السلام والعافية
واشتى بهذه الأمسية.. اضرب مسائل للنقاش
والبحر مناقش داهية
سكت لسان أكبر فصيح
في ثانية..)
وعلى الرغم من أن الشاعر قد مهد طريق الحوار لأمسيته الحوارية بمفتتحين الأول تضمن تمجيد الفهم ، والثاني دعا إلى محاورته إلا أن ذلك لم يعفه من مشقة الفاتحة الضرورية ، كبداية مختارة بدقة تمكنه من سير اغوار عالم القصيدة.
(.. أكبر مشقه الفاتحة
ابدأ منين؟
عطا.. عطا .. كله .. عطا..
شبدأ من الدكه بصوت كولي شجاع
ايلول وتشرين شاهده
قال الوداع..
هو من رداع؟
حافي مشى على الحشى
من وجعه
نسى الوجع
نسى.. نسى..)
وتنقطع فاتحة الشاعر بصوت برز من الصالة ،
يتضمن سؤالاً مستفزاً
(..هو من طسا؟
ويصطدم سؤال الصالة بسؤال آخر ولكنه أكثر جدية.
(.. أيش غرضك من السؤال؟
تعال تعال..
وتتوالى الأسئلة وتتصادم الأصوات في بعضها
ويتفرع الصوت الواحد إلى عدة أصوات
(.. من حمسك تذر على الناس العسال ؟
من حمسك
فيسع عوجت التلم
عناد
ليش العناد..؟ وأنت العماد
صيتك كذا
صوتك لذا
لكن ربش عيني السؤال
تتسع مساحة الحوار ، وتزداد سخونته وفجأة
تضج الصالة بالتهم المتبادلة بين الأصوات والرؤى العديدة.
(.. هذا السؤال يشيء سؤال ؟
من منكم يقدر على نبش السؤال؟
من منكم يسكي يؤشر للسؤال ؟
ولانفر
ولانفر
أنتم !
أنتم من ؟
نحن الصالة
صالة ؟؟
ايش من صالة ؟!!!!
انتم شكوى
من قفزة ، شكوى من حالة
كل همتكم تجزع بالقيل والقالة
أنتم شكوى من طبع الأمس
تتكع شكوى من طبعه الأمس
تتكع بالهمس
تدنى باللمس..)
وهنا يرتفع صوت الفهم عالياً في مواجهة صوت الجهل المتنفذ الذي قامت ثقافته على أساس الغاء الآخر.
(.. نحنا يا منقوع الرأس.. الشمس
كل شيء مالوش قيمة من غير شمس
لا الحب ، لا اقمار الحب
لا حب الأقمار..
وبفعل قوة صوت الفهم الذي سيطر على زمان ومكان عالم قصيدة "سلام للفهم"استطاعت المكاشفة أن تأخذ حقها الكافي من النقد المتبادل الذي قام على أساس قبول استوعب وجهة نظر مختلف الرؤى والأصوات المتناقضة والموحد في آن واحد،وكذلك الرؤى والأصوات المتباعدة شكلاً ومضموناً.
ويستمر الحوار في التصاعد في عالم القصيدة بروح ابداعية حديثة انطلقت في حركتها نحو الحلم من تعريف ثقافة القبول بالآخر في مواجهة ثقافة الإلغاء التي برزت في رحلة القصيدة الحوارية والتي تمثلت بأصوات الجهل المتنفذ والمغطى بلباس الإدعاء الثوري والتقدمي.
ويستمر حوار الفهم وفهم الحوار في تصاعده الإبداعي معلناً إصراره على مواصلة الطريق الطويل،بصوت المغني الذي أبى إلا أن يغني ويغني،ويغني،في سفر ليس له نهاية.
«..شاغني اغاني هذا الحب المتنكر
يتخبط في الهم بدموع
مبتلة هذا الحلم المشقوق
الحيران
هذا الإيقاع العقيم
العقار
وهذه العشيرة المتسولة
والمعجزة دهف الجدار
هذا الجدار دهفه خفيفه
المعجزة أن ننفض التراب
هذا التراب
ونتحد..»
في قصيدة «رسالة من دثينة» لم يكن لدى الشاعر أي خيار سوى أن يدخل إليها من بوابة الحزن التي احدثته فاجعة نبأ استشهاد الطيار اليمني «عمر غيلان» وهو يؤدي واجبه القومي دفاعاً عن دمشق في حرب تشرين 73م.
إن تلك الفاجعة التي داهمت وجدان وكيان الشاعر كان لها أثر كبير في إيقاظ أوجاعه النائمة في أعماق الحزن،بالإضافة إلى أوجاع اخرى جديدة،جعلته يسترجع ذكريات الطفولة بكل ما فيها من حنين وبريق وعطاء.
«..جاني من الحيد صوت الرعاة
خذني إلى أمس،أشرب حياة
من بريق الطفولة حياة
من غيل نزف،وامتلأ بالحنين
شربت هجمه ،تهيج بطعمه
ضمير اليمن
سبح سباحة فكر في صور
يستعيده خيال الشجن
من صوت مشتت تكبن شتاته كبن..»
ومن داخل أعماق الشجن والذكريات امتشق الشاعر سيف الشعر في مواجهة الحزن الذي ألم به وكاد أن يفقده توازنه العاطفي في لحظة ابداعية تحتاج إلى قدر كبير من قوة الإرادة والتوازن،في زمن عربي استغرقته الأوهام،وتهاوى منطق العقل فيه.
«...واغارتك،غارتك،ياولي الشقاة
أمحق بسرك دكاك الشتات
دحني زلج والخصب
فارق رواشن عقول ،واعتوج في عقول
واحتجب في عقول احتجب..»
من خلال هذا الاستنجاد الصادق استطاع الشاعر أن يكسر حصار الحزن بمجرد أنه وجد من يستعين به،وهاهو يختار المعين المناسب "ولي الشقاة"الذي يكن الاعتماد عليه في البحث عن الشمس والعقل اللذين غيبهما الشتات،وبهذا الاستجاد الذي يعبر عن الثقة العالية "بولي الشقاة"سيطر الشاعر على زمان مرثيته الرائعة.
«..من موديه استنجدك بالشرف
يارفيع الشرف
شغلي بوحيك وقف
والشمس ضوئه غطف
والريح بمشيه بدا يختطف له نطف
شعتله،وانتسف
الغضب زاد هجم وارتسم
في صدور البنات..»
في سياق رحلة الحزن المضنية، تمكن الشاعر من أن يدوس على أوجاع الذكريات،وعلى وخز كبوات الحاضر الأشد وجعاً،مستعيناً بالآمال التي تدفعه نحو المستقبل،مستنداً على أرائك نشوة القصيدة التي لاتضاهيها نشوة..
«..إتكأت ، وابتديت انتشي
إلا والصوت قرح"
حرب بين العرب واليهود"
فزيت،رحل بالي إلى الحرب ولون الجنود
عكمت صوت المذيع
رأسي امتلا بالضجيج،الهرج،والدوشنه
نكع قبالي مذيع بعد مذيع
والجميع يحلموا بانتصار
كيف يجيي الانتصار؟كيف يجي؟
بالهدار؟
كيف يجي أن سلاحك حجار؟وفكرك حجار
أنت بالليل تحارب ،وتلعن حروب النهار
وفكر النهار
كيف يجي وأنت ليل؟
ليل كله غدار في غدار ،وتشتي انتصا
وتتصاعد نشوة القصيدة الولادة الإبداعية الممهورة بالحزن في رحلة بدأت في موديه ثم انطلقت نحو معظم أمكنة وأزمنة الجرح في جغرافية الوطني والقومي لدى الشاعر ،وكانت "حيفاء" هي آخر الأمكنة وأبرزها،حيث اعتقد الشاعر أن «عمر غيلان» أقام شهيداً فيها.
«..هل..بحيفا"أقمت؟ هل بحيف..
خله ياموت،خله عاده جهيش بطله"
قلبي حزيز بس مو يفيد؟
ايش قيمة الحزن على من تخير
طريقه وسافر
أحسدك وافتخر بك ،أنا افتخر بك
واليمن يا«عمر»
من عدوك يابلادي
كل غريب يطمح بخيري
كل غريب في جسد ي يحمي بغيري
كل طاهش..أو لسان جمش على خوف وزره بالحنابه..»
ولم تجد رحلة الشاعر في قصيدة "رسالة من دثينة"مكاناً لتضع عصا سفرها فيه أفضل من مرفأ افتخار الشاعر والوطن باستشهاد الطيار اليمني عمر غيلان،الذي كان هو فاتحة القصيدة وهو خاتمتها.
ومن رحلة في عالم قصيدة "رسالة من دثينة"إلى رحلة في عالم قصيدة "صوت من مساجلة داخلية في "الدودحية"ذلك العالم الذي أقامه الشاعر بنجاح لايضاهي.
«..المسرح نقشه للعيشة كل العيشة
يلمع عقل المتفرج له مثل البرق
والعقل الحاد فيسع يقطع أية فرق مستور في فعل مجرور،غارق في بحر السكته
غرق..»
إن المسرح الذي حلم به الشاعر،هو الواقع الاجتماعي الذي يتميز في علاقته الحميمة
مع عقل وضمير وأفراح وأحزان المجتمع،وبهذا الفهم العميق لوظيفة فن الحياة المسرح أقام الشاعر مسرحه الخاص،بفهم يختلف كلية عن الفهم السائد لوظيفة المسرح حينها.
«.. المسرح خلق..يجش أبواب الغيب
ببطش بالعيب،يشفي يجرح
ماهو المقصد؟ من جا لكد معنى المسرح؟
شد المعنى ضد ،وارتد.
في هذه القصيدة نجح الشاعر في إقامة مسرحه الجديد الواقع الاجتماعي الحلم في مواجهة المسرح القائم الذي تأسس على رؤية خاطئة تدعي الانتماء إلى فكر التطور الاجتماعي نظرياً،في الوقت الذي تجافيه ممارسة.. وسعي الشاعر في تفكيكه للمسرح السائد الواقع القائم إلى اثبات جهل القائمين على حركته وقام بمقارنة بين رؤيته الحديثة لوظيفة المسرح التي تعتبر أن وظيفة المسرح هي كشف المجهول واشفاء الجراح وإزالة عيوب الواقع وبين رؤية قديمة متطفلة شوهت وظيفة المسرح وكونت منه واقعاً تعبث بمقدراته كما تشاء..
«..الإخراج ..هباش هبش
يطفح قلب المتفرج له بالغدرة أريد مما كان.
مسكين..ودف هذا الحي الميت ودف
هذا الإنسان ..الشبه إنسان
أكه الفهم الجاهل والغافل ينوي للشعب..»
وفي ختام هذه القراءة المتواضعة لعوالم الشاعر الكبير عبدالله سلام ناجي والتي في مجموعها كونت عالماً واحداً هو ديوان"سلام للفهم "أود التأكيد على أن ملمح تداخل الذاتي والجمعي شكل العمود الفقري لقصائد الديوان وعبره استطاع الشاعر أن يتألق في رحلته الشاقة،التي ذاق فيها حلاوة ومرارة الحب،وتجشم عناء رحلته الكفاحية واتقن سر أغوار الفرح الحزين،ومن مزيج جمال القصيدة ومعاناتها أقام عالمه الجميل"سلام للفهم" الذي لم أتناول من ملامحه سوى ملمح تداخل الذاتي والجمعي ،لاعتقادي أنه الملمح الذي اتكأت عليه معظم قصائد الديوان،وأنه الملمح الذي عكس بصدق العلاقة الحميمة بين حياة الشاعر وشعره،تلك العلاقة التي أثبتت بأن شاعرنا في حياته وشعره قد انتصر للجمعي من أول فعل كفاحي له ومن أول قصيدة في هذا الديوان.
- مقدمة ديوان«سلام للفهم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.