اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    الضربة القاضية في الديربي.. نهاية حلم ليفربول والبريميرليغ    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    اليمن: حرب أم حوار؟ " البيض" يضع خيارًا ثالثًا على الطاولة!    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    وفاة نجل محافظ لحج: حشود غفيرة تشيع جثمان شائع التركي    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    شبوة تتوحد: حلف أبناء القبائل يشرع برامج 2024    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    شكلوا لجنة دولية لجمع التبرعات    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    24 أبريل.. نصر تاريخي جنوبي متجدد بالمآثر والبطولات    الرياض.. أمين عام الإصلاح يستقبل العزاء في وفاة الشيخ الزنداني    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    رئيس الاتحادين اليمني والعربي للألعاب المائية يحضر بطولة كأس مصر للسباحة في الإسكندرية    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حداثة العاميّة الحضرميّة في ديوان "بخيتة ومبخوت" للشّاعر "س. س. الجريريّ"
نشر في هنا حضرموت يوم 12 - 09 - 2012


مفتتح
يُعَدُّ الشّاعر "س. س. الجريريّ" واحدًا من ثلّةٍ من الشبيبة الحضرميّة الذين وُسِمُوا بالإبداع في فترة الثمانينيّات من القرن الماضي. كان الأمل معقودًا بهم في منح (الشعريّة الحضرميّة) حضورًا يدفعها إلى مستوياتٍ عُلا بعد أنْ كَبَتْ كبواتٍ جُلّى بسببٍ من تفرُّقِ عددٍ من الشعراء المبدعين في بقاعٍ شتّى خارج حضرموت لدواعٍ مختلفة، ومن هيمنةِ الإيديولوجيّة على الحياة الثّقافيّة والأدبيّة وانحصار النقد الأدبيّ تقويمًا وتقييمًا في دوائرها المغلقة، ومن تقاصُرِ بعض الشّعراء البارزين على السّاحة الشعريّة عن الإيغال في أنساغ الحداثة الشّعريّة في نموذجها العربيّ على أقلّ تقدير. وفي لحظةٍ ما تراءت أصوات علي أحمد بارجاء، وس. س. الجريريّ، وأحمد عبيدون، وع. وع. باعيسى تحديدًا بشارةً بأملٍ في غدٍ موسومٍ بالإبداع الشّعريّ الذي يحقّ لنا المباهلة به. فقد أقبلت هذه الأسماء على منظور الحداثة للإبداع، وتمثّلت كثيرًا من طرائقها في الأداء، وكان حقًّا علينا نصرُ الإبداع كما تجلّى في كثيرٍ من نصوصهم التي آثروا نشرها في بعض المظانّ. كان ع. أ. بارجاء أشدّ الأربعة انصرافًا للإبداع الشعريّ فلم يشغله عنه شاغلٌ، وهو أكثرهم إنتاجًا، ولم ينافسه إلا س. س. الجريريّ في نظم الشّعر بالعربيّة الفصيحة وبالعاميّة الملحونة، وكان للبيئة التي ينتمي إليها كلّ واحدٍ منهما أثرها على شعره المنظوم بهذه العاميّة أو تلك وطرائقها في صياغة الشّعر. فغلب الشغف بشعر (الدان) وأعلامه وأساليب صوغه وحبكه على شعر ال(بارجاء)، كما غلب على شعر (الجريريّ) حبُّ النسيج المحضاريّ والإقبالُ عليه، وترسُّمُ خطاه في كتابة الأغنية، ولعلّ لقربه من بعض الملحِّنين والمغنّين يدًا في ذلك الإقبال. وبقي الآخران (عبيدون وباعيسى) على وفائهما للفصحى فلم يجمعوا بين الأختين بحال.
حدث هذا في الوقت الذي بدأ الشعر المنظوم بالعربيّة الفصيحة في حضرموت تتهدّده جدليّة العقم والابتكار فآثر بعضهم الصمت والانسحاب من ساحات الشعر مكتفيًا بما قدّم في مراحل سبقت، وتخيّر بعضٌ آخر جنسًا أدبيًّا آخر يمارس فيه حريّته الإبداعيّة في تشكيل اللغة والتعامل مع عوالمها التخييليّة، وأصرّ فريقٌ ثالثٌ على مواصلة كتابة المنظوم من الكلام الموزون ولو ضؤل حظّه من الشعريّة في منظورها الحداثيّ منذ شعراء الابتداع عند جماعة أبوللو حتّى أصحاب قصيدة التفعيلة وما تلاها من اتجاهاتٍ شعريّةٍ، ولم يظلّ مغرِّدًا بالشعر من ذلك الجيل إلا اثنان س. ع. بن سلمان، وع. ع. الصيعريّ فائتلقا شعرًا وإن نزر إنتاجهما، ولدى كلّ دواعيه وأسبابه.
من هنا كان الأمل معقودًا لواؤه على ما ينتجه هؤلاء الأربعةُ وآخرون من أمثالهم حاذوهم في السّير أو لحقوا بهم من بعد. بيد أنّ سحابةً ظلّلت أفق أولئك الشعراء الأربعة وبعثت في الأنفس قلقًا على مصير الشعر في حضرموت. فقد استخفّهم الطموحُ العلميُّ، وازدهاهم مجدُه الأصيلُ، فتراءى منافسًا خطيرًا للإبداع الشعريّ الذي لا يقبل إلا بكلّيّة المبدع أو لملم أطرافه وانصرف غير مكترثٍ بشيءٍ، وهو ما حدث. فقد انزوى الإبداعُ الشعريُّ من أفئدةِ ثلاثةٍ منهم هم (الجريريّ وعبيدون وباعيسى) فشغلهم البحثُ العلميُّ ومقتضياتُه المنهجيّةُ حتّى غطّى على أبصارهم وما يلقون. وبقي ال(بارجاء) مخلصًا للإبداع الشعريّ بلغتيه الفصيحة والعاميّة، ولم يمنح البحثَ العلميَّ إلا القليلَ من وقته وتفكيره وانفعاله وتفاعله وخصّ الشّعر بالكثير من ذلك، فذكّر في بعض صنيعه هذا بما اشتهر به شاعرٌ عبقريٌّ كبيرٌ من شعراء الحداثة العربيّة هو الشّاعر خليل حاوي. وإذا كان (عليٌّ) لم يخرج للناس إلا القليل من إنتاجه فلأسبابٍ لا يليق بذكرها هذا المقام.
على أنّ انصراف الثلاثة عن ممارسة كتابة القصيدة بالعربيّة الفصيحة لا يعني انطفاء .طاقاتهم الإبداعيّة فقد جلّى كلٌّ منهم في مجاله البحثيّ فصاروا أملا جديدًا في النهوض بحركة النقد الأدبيّ في حضرموت بعد أن غاب عنها تمامًا ولم يزل غائبًا حتّى يوم الناس هذا. فأسهموا بنصيبٍ لا بأس به في تقويم بعض الأعمال الإبداعيّة وتقييمها، كلّ حسب ثقافته ومنهجه وقدراته الإجرائيّة على استكناه النصوص. ولكنّ السّؤال هو: أين موقع الشّعر من هذه الحركة الإبداعيّة لدى هؤلاء الثلاثة المبدعين؟
أمّا ال(باعيسى) فإخالُ الشّعرَ بارحه كطائرٍ حطّ قليلا على غصنٍ، غرّد ما غرّد ثمّ طار، ولم يترقّبْه ذلك الغصنُ لانشغاله بسواه من الطّير. وأمّا (عبيدون) فقد خدعنا عن نفسه لتوغّله في قضايا الفكر النقديّ ومستغلقات مناهجه حتّى أجمع المجمعون أنّه طلّق الشعر ثلاثًا، طلاقًا بائنًا لا رجعةَ إليه، فإذا هو يفاجئ محبّيه بعودته إلى الشّعر – بمحلّلٍ أو دون محلّلٍ، عِلْمُ ذلك عند ربّي وعنده – فيُطْلِعُ للناس ديوانَ شعرٍ لمّا يزل يتلمّس سبيلَه إلى أفئدة القرّاء لينال نصيبه من التقويم والتقييم، لكنّه يشي بلغةٍ شعريّةٍ تفيض حداثةً، وتبارح درجة الصفر في الكتابة لتوغل في درجات التخييل إلى أعلى المظانّ. وبقي (س. س. الجريريّ) على شغفه بالعاميّة وإبداعها الموروث والمستجدّ فأحاطه بعنايةٍ وجدانيّةٍ كان من آثارها المساهمة في إبداع الشّعر بها، فقد وجد فيها حضنًا دافئًا لهمومه الوجدانيّة ومشاغله الفكريّة، فظلّ يمارسه دون ضجيجٍ، ويسهم بهذه الممارسة مع آخرين من أمثال حسين عبد الرحمن باسنبل وعلي عمر الصيعريّ وعلي أحمد بارجاء… في تشكيل حداثةٍ للغة الشعر العاميّ في حضرموت لترتقي عن الاستاتيكيّة الموروثة فيه، وتنتصب على حدٍّ ديناميكيٍّ من التجديد والإبداع، فكان نتاجُ ذلك هذا الديوانَ الموسومَ ب(بخيتة ومبخوت).
على حواشي النصّ
وهذا الديوان هو المجموعة الشعريّة الأولى التي حرص الشّاعر على إخراجها للقرّاء اعترافًا منه بنضجها، وتميّزها، وقدرتها على تكريم اسمه في أفئدة المتلقّين. وقوامها أربعون قصيدةً مختلفة الهُويّة الإبداعيّة فجاء بعضُها على هيئة المسرّحة يستوي في هذا أن تكون مُنْشَأَةً حرّةً أو عارضَ بها بعض قصائد لآخرين، وجاء بعضها على هيئة الموشّحة المتجدّدة البناء كما في قصيدة (بخيتة بنت بو ريّا) التي جاء عنوان الديوان مستلهمًا من أجوائها، وجاء ثالثٌ منها على هيئة المسمّطة كما في (قسمة، وتحت النصب التذكاريّ، ودُشْكا)، وجاء رابعٌ منها على هيئة (المبيّت) على شرطنا كما جلوناه في بحثنا الموسوم ب(الصنعة الإيقاعيّة في القصيدة الحمينيّة) وهو منشورٌ، ومن أمثلته في قصائد الديوان (ثابت، وصوابي غابية…)، وجاء بعضها منسوجًا على نسق الدان ومن نماذجها نذكر (الضغط والسكّر، وجرذ). وأمّا قصيدة (قليل الخير) فالحديث عنها طويلٌ لأنّها فارقت المألوف في الشعر فصيحه وعاميّه، فقد جاء البيت فيها على نظام (السِّه بيت) – و"السِّه" فارسيّةٌ وتعادل العددثلاثة بالعربيّة مثلما عادل "الدو" العدد اثنين فيها – وهو نظامٌ يضارع ما في تاريخ الشعريّة العربيّة ب(الدو بيت). وهذا – أعني الدو بيت – يقوم على بحرٍ واحدٍ تتحد قوافيه في أشطاره الأربعة، وقد تتفق ثلاثة أشطارٍ في قافيةٍ ويخلو الشطر الثالث منها من القافية. والبيت في هذا النظام الوزنيّ لا يتجاوز الأربعة الأشطار قطّ، ولذلك لا تُصْنَعُ منه قصيدة، وإنّما هي أشطار أربعة تؤلِّف بيتين، ووزنهما في كلّ نماذجها التي صاغها الشّعراء هو (فعْلن فعِلن متفعلن مستعلن) ولا غير. وهو في الأصل فارسيٌّ طوّعه شعراء العربيّة للسبك العربيّ فأجادوا فيه، وحسبك بما جاء في ديوان صفيّ الدّين الحِلّيّ من ذلك مثلا. ومن أمثلته في العربيّة القول المشهور:
يا غصنَ نقًا مكلّلا بالذهبِ أفديك من الرّدى بأمّي وأبي
إن كنتُ أسأتُ في هواكم أدبي فالعصمة لا تكونُ إلا لنبي
وعلى ذلك النمط في النظم سار شعراء العربيّة في العصر المملوكيّ وما تلاه من عصور الأدب، حتّى جاء جبرانُ خليل جبران ورفاقه المهجريّون فاختاروا نظام ال(دو بيت) دون اختيار وزنه، فبقي النظم على ال(دو بيت) وتنوّعت أوزانه من صيغةٍ بعينها يلتزم بها الناظم إلى أوزان القصيدة العربية كما اكتشف قانونها الخليل فكان نظمٌ على رملٍ وسريعٍ ومتقاربٍ … إلى آخر ذلك، حتّى وجدنا مَنْ ترجم إلى العربيّة الشعر الفارسيّ المنظوم بأوزانٍ فارسيّةٍ بنظام ال(دو بيت) على وزن بحر السريع المعروف في العربيّة كما فعل الشاعر أحمد رامي في ترجمته لرباعيّات الخيّام. وهذه مسألةٌ قابلةٌ للدرس وتحتاج إلى تأمّلٍ أعمق ممّا نالته في هذا المقام.
هندس س. س. الجريريّ البيت في قصيدته هذه الموسومة ب(قليل الخير) على ستّة أشطارٍ وجعلها في ثلاثة أبياتٍ، ومنح كلَّ شطرٍ قافيةً، وإن اتحدت جميع أشطار البيت في حرف رويٍّ واحدٍ، فهو الحاء في البيت الأوّل، وهو غيره في سواه، ذلك أنّه جعل كلّ ستّة أشطارٍ وحدةً مستقلّة بحروفِ رويِّها عن بقيّة الوحدات الأخرى، شأنُ صنيع من نسجوا ال(دو بيت) على أشطار أربعةٍ، ومن هنا جاز لنا أن نسمها بال(سه بيت). ثمّ تناسلت الوحدات حتّى بلغ عددها ثلاث عشرة وحدةً لا يجمع بينها بعضها ببعضٍ إلا نظام الهندسة الإيقاعيّة ولا غير. وذلك مثل قوله:
نازل تراه العد لا تغترّ لا حشدوا لك الأعداد
وزماننا واعد على درب الأمل نسعى ونتواعد
ما للأماني عد عاشاطي السلامة حلمنا الموعود.
وهنا تتحد أشطار البيت الثلاثيّ أو قل (السِّه بيت) في حرف رويّ واحدٍ وإن تنوّعت قوافيه. وعلى منواله قوله في آخر:
قُفّ العوامر لك ولك منوخ معك عسكر هنالك
لا شكّ في ذلك ولك وادي عدِم والعبر تهنالك
بس المدن مش لك عطوك القاع فسحوا فيك ما شلّوك.
تشكيل البيت هنا من جهة الوزن هو تشكيله في النموذج السابق لكنّهما متغايران من جهة الرويّ. وهذا ما يجعل كلّ بيتٍ في هذه القصيدة وحدةً مستقلّةً كما قد سلف ذِكْرُه.
سيقول قائلٌ: لعلّ فيها استحضارًا لهندسة البيت في بعض شعر (الدان الحضرميّ) أو بعض شعر المحضار. ولن أنكر ذلك ولكنّني أنبّه إلى أنّ اتحاد القافية في الشطر الأخير من وحدات كلّ قصيدةٍ من قصائد شعر الدان والمحضار يجعل وحدات قصيدة الجريريّ منزاحةً عن هذه الهندسة الإيقاعيّة تمامًا، وانظر معي في قول حدّاد مثلا:
قد كانها الأرض جمده أيّام وأشهر عديدة
لا ساني أسمعه يترنم ولا قصّاد
ماليوم خذها قصيدة بالمطالب هن والمقاصيد.
هنا يتّحد البيت مع ما سبقه وما تلاه في الوزن وفي حرف الرويّ، ويقوم حرف الرويّ في آخر البيت، وهو الدال في (المقاصيد) بدور الرابط بين أبيات القصيدة حيث يُلتزم به وبأمثاله في جميع أبياتها. وهو ما لم يلتزم به س. س. الجريريّ في قصيدته (قليل الخير).
ومن ذلك ما نجده في قول المحضار:
ويا ما ذروا العذّال ذري الشّكوك ويا ما جنينا منّه الشّوك
وكم من محازي الكذب وشروا فلوك ونقضوا علي غزلي ونا حوك
بغوا القلب يسبح في شطونه خزا الله الحواسد والشياطين.
وهنا يقوم حرف الرويّ في آخر شطرٍ في البيت، وهو النون في كلمة (الشياطين)، بدور الجامع بينه وبقيّة أبيات القصيدة. وما صنعه الجريريّ في قصيدته يعدّ فتحًا في تشكيل القصيدة العامّيّة في حضرموت على نحوٍ مغايرٍ لما هو مألوفٌ ومعروفٌ، وإنجازٌ يُحسب له إن تناسلت منه تجارب في تشكيل الشعر في لاحق الأيّام.
في معنى الديوان
وإذا كنّا وصلنا إلى هذه النقطة فمن المتوجّب علينا الإشارة إلى أنّ هذا الديوان يمثّل انزياحًا في تاريخ الشّعريّة بالعاميّة الحضرميّة في عصورها المتأخّرة. فقد ابتلي هذا الشّعر بالكوارث والحوارث ما ظهر منها وما بطن فشاهت لغته، وغاض في قسماته ماء الإبداع وغدا كما قال المحضار بحقّ: (( والشعر شيّب في بلدنا قد ملت وجهه التجاعيد)). ولولا بقيّةٌ صالحةٌ من أشعار من سبقوا في الزمان جمعها بعض الحفّاظ لانصرف محبّو الشّعر الصافي عن مثل ذلك الغثاء الذي تضجر منه الأفئدة المتعلّقة بالشعر الجميل المونق الذي صاغه شعراء العاميّة في حضرموت منذ عشرات السنين. فجاء هذا الديوان ليمثّل خروجًا عن هذا النسق في شعر العامّيّة في حضرموت على عددٍ من المستويات. منها أنّ القصيدةَ في هذه الدّيوان هي كتاب الشّاعر الذي يحمل للناس موقفه من الحياة ورؤيته لها، فهي على هذا هُدْهُدُهُ الذي يأتينا بنبأٍ يقينٍ من سبئه الغائرة في أعماقه. ومنها ضمّ القصائد في ديوانٍ واحدٍ يُعتنى بصناعته كتابًا فيُتوفّر له من صور النصّ الموازي ما يهيّئه لذلك. وهو حالٌ لم نعد نعرفه في تاريخ الشعريّة العاميّة غير في شعر الغناء الحضرميّ حيث اعتنى بعض كبار شعرائه بإصدار دواوين منها بعد أنْ جمعوها ونسّقوها لتلك الغاية، فأخرج المحضار أربعةً من الدواوين، وأخرج المفلحيّ، ومثله حدّاد، ديوانًا وفعل سواهم آخرون مثل فعلهما إخلاصًا منهم للشعر وعشّاقه المفتونين به كلمةً ولحنًا. أمّا أصحاب المسرّحات وشعراء المدارات ومَنْ ماثلهم مِنْ شعراء العاميّة فقلّ أن حرصوا على جمع أشعارهم وطبعها في دواوين ليقرأها الناس على مُكْثٍ. وهنا يظهر معنى ديوان (بخيتة ومبخوت)، فهو انزياحٌ عن صنيع أشباهه من أصحاب المساجلات والمعارضات والمسرّحات من عدم الاهتمام بنشر الديوان وصناعته بحيث يجيء كتابًا مقروءًا، فالمعهود في مثل تلك الحالات أن يغلب المسموع على المقروء، وقلّ أن استشهد باحثٌ بنصوصٍ من الشعر العامّيّ المصوغة في باب المسرّحة أو المعارضة أو المساجلة مثبتةٍ في كتابٍ جمعه الشّاعر نفسه مثلما نجد في شعر الغناء. فائتلف في هذا الصنيع مع نمطٍ من أنماط شعر العامّيّة في حضرموت واختلف مع أنماطٍ أخرى، ولا ضير. واستطرادًا بالقول أشير إلى أنّ صنيع الشّاعر هنا في الاحتفاء بديوانه الذي جمع فيه عددًا من قصائده هو صنيعُ عددٍ من أعلام شعر العامّيّة في حضرموت يوم كان للشّعر رفعةُ شأنٍ وإن نُظِمَ بالعاميّة. أمّا من جاءوا بعدهم من شعراء العصور لمتأخرة فقد اكتفوا بما صاغوا من قصيدٍ، فناموا عن شوارده فلم يقيّدوها ورضوا بذاكرة الحَفَظَة من الرواة ثقةً منهم بهم، فضاعت نفائس من قصائدهم لأسبابٍ لا حاجة لنا في تعدادها، وحسبك فيما سلف من القول إيضاحًا. وهذه هي الصورة الثانية من صور انزياح ديوان الجريريّ عن أمثاله من شعر العامّيّة في حضرموت. أمّا الصورة الثالثة فحرصه على تنضيد نصّه الموازي لتستقيم له نصوصه كتابًا مقروءًا. فأحكم صنعة غلافه، وأجاد إضاءات أبهائه، وزيّنه بثريّاتٍ نصّيّةٍ هي التي عرفها العارفون بعنوانات القصائد، فجاء الكتاب تحفةً فنّيّةً متكاملةَ الصناعة في الإخراج.
نظراتٌ في غلاف الديوان
وُسِمَ الديوان بعنوانٍ جاء بارزًا ومحتفًى به وهو (بخيتة ومبخوت). وهو عنوانٌ يكشف عن الهُويّة الإيديولوجيّة للشّاعر من حيث الانتماء إلى طبقات الشعب البسيطة التي لا تعرف للتعبير عن مشكلاتها وقضاياها سبيلا إلا حين تجد مَفْزَعًا من مثقّفٍ أو مبدعٍ فتلوذ به لينصفها ممّن كان سببًا في معاناتها التي لا تكاد تنقضي سجيس الدّهر. فصار العَلَمانِ علامةً أيقونيّةً تشير إلى الهُويّة الدّلاليّة التي يوحي بها هذان العلمان ويومئان إليها، وغدوا مفردًا بصيغة جمعٍ في هذا المقام وأشباهه. على أنّ من الممكن تأويل اختيار العلمين بالرغبة الكامنة في أعماق الشاعر في أنْ تحظى هذه الفئات الاجتماعيّة بنصيبها من الحياة السعيدة والعيش الرغيد. فالمبخوت هو ذو حظٍّ سعيدٍ ومثله (المبخوتة، وبخيتة من حيث هي علمٌ ليست بعيدة عن هذه الدلالة)، هذا بالعودة بالعلم إلى جذره اللغويّ، وهو من باب التّفاؤل والظنّ الحسن. أمّا إذا وضعتَ في حسبانك ما جرى به العرف اللغويّ عند العامّة حين يصفون أحدهم بأنّه: (مبخّت)، ويعنون به قليل الحظّ في الحياة، فتراه يتنقّل في الشقّاء حتّى يملّه الشّقاء بان لك بعدٌ آخر في دلالة وضع هذين العلمين عنوانًا للديوان، وكأنّه يصرخ: إنّي اتّهم، وهي صرخة احتجاجٍ على وضعٍ اجتماعيّ لا يستطيع تأمين سبل العيش الكريم لبسطاء الناس في المجتمع، ولعلّ قصيدته (حكومة باحريز) لا تبعد عن هذا المعنى. وإنّ هذين العلمين ليسا ببعيدين عن الاستخدام في تراثنا الشّعبيّ، ففي أواخر أعوام النّصف الأوّل من عقد التسعينيّات من القرن الماضي أخرجت فرقةُ غناءٍ شعبيٍّ في مدينة الشّحر شريطًا به بعض الأهازيج الشّعبيّة للأطفال وفي واحدةٍ منها يظهر اسم (بخيتة ومبخوت) في موضع (الشّلّة) التي تتكرّر في آخر كلّ مقطعٍ من الأهزوجة. قالوا في إحدى المقاطع:
قسمة شتار / قسمة شتار / قسمي طلع ما هو تمام
لا قد عطونا شُقْب شلّوا قسمهم شيرة وحوت
نذرع الفوت بالفوت / زاد فيها مية فوت
يا بخيتة ومبخوت / لا تلعبون بالقوت…
وهو جمُّ الاعتناء بالقصيدة التي جاء فيها ذكر (بخيتة)، ونسبها إلى (بو ريّا) فأسماها (بخيتة بنت بو ريّا) وهي تسميةٌ ورقيّةٌ بلغة أصحاب السّرديّات إذ لم يُثْبِت التاريخ لأبي ريّا بنتًا غير التي كنّي باسمها. واعتناء الشاعر بالقصيدة هو الذي قاده إلى أن يستلهم من أجوائها ثريّا علّقها على صفحة غلاف ديوانه. ومثلما فعل ذلك تخيّر مطلعها وهو:
خرج ذا فصل والثاني بخيتة تدوّر يا عرب كزمة لمبخوت
ليجعل منه أيقونةً خطّيّةً يزيّن بها غلاف كتابه، وتفنّن في إخراجه، ففي الغلاف الأماميّ أبرز منه كلمتين هما أولاهما وآخرتهما (خرج) و(بخيتة)، وجعل بقيّةَ كلماتِ البيت منطويةً في ثناياهما. ثمّ شكّل البيتَ على هيئةٍ جرّة، أو قل (خزبة) كالتي يستخدمها أهل الأرياف حتّى عهدٍ قريبٍ، ومن بعدُ عمد إلى نسخها لتضفي شكلا غريبًا يلفت انتباه القارئ ويجذبه إليه ليتأمّله. أمّا في الغلاف الخلفيّ فقد جاء بالبيت كاملا واضحًا مبينًا وجعله متصلا بالأيقونة التي شكّلها في صفحة الغلاف الأماميّة وكأنّه يومئ إلى أنّ الديوان مبنيٌّ بناءً دائريًّا فأوّله يفضي إلى آخره والعكس صحيحٌ. واتصال أوّل الديوان بآخره هاجسٌ شغل الشاعر، وهو الذي جعله يفتتح نصوص الديوان ويختتمها بقصيدتين ذاتي وزنٍ واحدٍ وقافيةٍ واحدةٍ وحرفِ رويٍّ واحد.
وقديمًا قالوا: الشيء بالشيء يُذْكَرُ، وما دام الحديثُ هنا متعلّقًا بالغلاف وبعض مكوّناته فإنّني أشير إلى أنّ وعي المبدع العميق بمفهوم النصّ الموازي جعله يعمد إلى تذييل عنوان ديوانه بثلاث كلمات ذات وظيفةٍ في مقامها الذي وضعت فيه وهي (قصائد بالعاميّة الحضرمية). وهو لم يضعها اعتباطًا، ولكنّ وعيه العميق بأبعاد المناص هو الذي أفضى به إلى وضعها ثمّة. فالنظر إلى العنوان (بخيتة ومبخوت) قد يكون عنوانًا لروايةٍ، أو مجموعةٍ قصصيّةٍ، أو مسرحيّةٍ، ولكن تجلّي كلمة (قصائد) قام بوظيفة تحديدٍ أجناسيٍّ للعمل الأدبيّ الذي اضطمّ عليه الكتاب، وجاءت (بالعامية) لتمييزها عن العربيّة الفصيحة، أمّا وصفها ب(الحضرميّة) فذو وظيفةٍ إيديولوجيّة بمنظور أوسبنسكي، واللبيب بالإشارة يفهم، أو قل كما قال الحضارمة في أمثالهم عن الوعل ودع عنك ما قالوه في الثور.
وأختم القول في عنوان الديوان بالإشارة إلى أنّه منقولٌ بنصّه من عنوان قصيدة الشاعر (ثابت السعديّ) التي عارض بها قصيدة (س. س. الجريريّ) التي عنوانها (بخيتة بنت بو ريّا). وليس في هذا ما يضير، فما تزال ضوالُّ الشعر أحبَّ إلى فحول الشعراء من سواها.
والسّؤال الآن هو: ما الدّافع إلى هذا الاعتناء بهذه القصيدة دون سواها من نصوص الديوان؟
سأضع جملةً من الاستفهامات كلّ واحدٍ منها افتراضٌ قد يقبل به عقلُ قارئٍ، والاختلاف في أيٍّ منها لا يفسد للودّ قضيّةً كما قال شوقي، وأقول:
أتراه زهو الشباب بالبناء على نسيج شاعرٍ مثل (بو ريّا) ثوت ذكراه في أفئدة الحضارمة، وإن انزاح بمعنى بيت بو ريّا إلى دلالةٍ مختلفة، فإذا كان اليأس والشّكوى والقنوط هو الناتج الدلاليّ لقول س. س. الجريريّ (ولولب حظّها والبخت مفروت) فإنّ بيت أبي ريّا القائل:
يقول بو ريّا على حضرموت *** لولب من الرحمن مفروت
يمنح دلالة الأمل والرجاء في رحمة الرحمن أن تحيل اليباس اخضرارًا، والجدب نعيمًا وارفًا لا يزول. ولهذا كان للجملة معنى الدعاء؟
أم زهوه بترسّم خطى مثقّفٍ كبير هو الأستاذ الشّيخ محمد عبد القادر بامطرف استلهم بيت (بو ريّا) وصاغ منه قصيدة؟
أم زهوه بمضارعة شاعرٍ ذي قامةٍ مثل (بو راشد) وقد عارض قصيدة بامطرف وتماسّ معها شعريّا؟
أم زهوه في توظيف العلم رمزًا لم يسبقه إلى الوصول إليه شاعر من قبل؟ وهنا أشير إلى أنّ دلالة (بخيتة ومبخوت) في القصيدة تبدو على نحوٍ مغايرٍ إلى حدٍّ مّا عن دلالتهما عنوانًا للديوان، وذلك من حيث الخصوص والعموم، والتجريد والتعيين.
وأيًّا كان التأويل فإنّ ما لا خلاف عليه أنّ الشّاعر اعتنى بهذه القصيدة كما لم يعتنِ بسواها، وخصّها بشيءٍ من الاحتفاء لأنّ لها في فؤاده مقامًا لا يخلو من شأنٍ.
وفي الديوان عدد من التقنيات الجماليّة التي توسّل بها النصّ لإنتاج دلالته، وتبيان مقصوده، والإيماء إلى مراميه. وهي عديدةٌ، سنقف هنا على بعضٍ وندع بعضًا لآخر سيقع الديوان بين يديه ويقرأ منه ما تيسّر له فيخرج للناس برؤية غير الرؤية ومعالجة سوى المعالجة.
دلالة الأعلام في النصّ:
وأولى هذه التقنيات التوظيف الرمزيّ للأعلام. والحقّ أنّه يستخدم الأعلام استخدامًا مزدوجًا، منها ما هو متعيّن في الوجود، ولها وظيفة الإعلام والإخبار، وغايته من استخدامها تحديد الظّرف الاجتماعيّ الذي أحاط بإنتاج القصيدة مثل (حسين وحسين)، ويقصد بالأوّل الشاعر حسين بن أبي بكرٍ المحضار، وبالثاني الشاعر حسين بن عبد الرحمن باسنبل. وقد يعمد إلى لقب أحد الشاعرين فيقول (المحضار)، أو يقول (السنبليّ) وهي نسبةٌ خاصّة للعَلَم الجامع لأسرة آل (باسنبل). وفي هذه الأعلام وأمثالها تنحصر الدلالة، ولا تكاد تتجاوز الظاهر إلى باطنٍ مضنونٍ به على غير أهله. ودلالتها هنا تحديد الظّرف الزمنيّ لكتابة النصّ ولا غير.
وأمّا الاستخدام الثاني فهو تشكيلٌ علاميٌّ ذو بُعْدٍ رمزيٍّ، ويمنح دلالةً إيحائيّة، وهي مختارةٌ من رصيدٍ ثقافيٍّ متنوّع الاتجاه، وتحتكم إلى تقاليد الشّعر العامّيّ في حضرموت من حيث استخدام الأعلام وتوظيفها رمزيًّا فيه، فأكثر منها الشعراء، واستفادوا من دلالتها، فخرجوا بالكلام الشعريّ من دائرة التقرير إلى دائرة الإيحاء. ورأت الذائقة الشعبية والحاسّة النقديّة ذلك الفعل حسنًا.
ومن أعلام الإيحاء ما استدعاه الشاعر من التاريخ مثل أبي موسى الأشعريّ وأبي ذرّ الغفاريّ وزرعه في نصّه الشعريّ ليخلص من خلالها إلى دلالاتٍ يتقصّدها. وليس هذا الصنيع بالغريب على شعر العاميّة في حضرموت، فما أكثر الشعراءَ – ولو كانوا أميّين لا يقرأون ولا يكتبون – الذين استدعوا من التاريخ ومن القرآن ومن سواهما من المصادر الثقافيّة أعلامًا يعرفها مثقّفو الأمّة ووظّفوها في أشعارهم، ولم ير أحدٌ في ذلك الصنيع نبوًّا. قال باحريز:
نبّوا على الدّحمي وقولوا له ذهن بالقوصرة
ذولا عرب ساعة يبيعونك وساعة يشترون
كذبوا على يوسف ولقّوا له حيل ومناكرة
قالوا كلاه الذيب يا بانا ونحنا غافلون
وقال في أخرى:
الرزق يدخل من سبب والموت يدخل من سبب
والسوس يوكل قال شاعر في القواسم والقبال
لاتفرقع الضارب وجات العافية شل الذهب
ما بي مهمّة لا صفي لي رمح بو زيد الهلال
وقال في ثالثةٍ:
ادّحفّوا منّي كذا وكلّكم وقعوا بشق
ونا بشق… بازفكم يا أهل هارون الرشيد
وقال … وقال… وقال…، وما هو هنا إلا مفردٌ في صيغةِ جمعٍ، وعلامةٌ أيقونيّةٌ تشير إلى ما يماثلها. فعديدةٌ هي الأعلام في أشعار الشعراء ولكنّ المقام لا يتّسع لأكثر من مثال. والأهمّ أنّ استخدام هذه الأعلام الإيحائيّة هنا (يوسف وأبو زيد الهلاليّ وهارون الرشيد) لا يتجاوز الاستخدام الجزئيّ المحدود، وإن لم يفقد بعده الرمزيّ في النصّ. وليس كذلك يصنع الشاعر س. س. الجريريّ حين يستدعي من التاريخ الإسلاميّ أبا ذرّ الغفاريّ في لقائه الخاص به، أو أبا موسى الأشعريّ في لقائه الأخير. إنّه يجعل من كلّ واحدٍ منهما بطلا لقصيدته فتتعدّد المواقف، وتتنوّع الأبعاد، وتتجلّى خفايا المقاصد من خلال تتبّع جزئيّات الصورة التي يتلقّطها الشاعر من مضايق الفكر ومنعطفات الرؤى. وهذا نمطٌ من الإبداع صعبٌ وهو نمطٌ مخيفٌ، قويت عليه حداثة الشعر في عصرها الحديث، واستوعب أبعاده الشّعر العاميّ في حضرموت حين عالجه الجريريّ في ديوانه هذا. وتلك حسنة سيذكرها له التاريخ الأدبيّ ويعرف مقدارها له.
وبعيدًا عن أيّ تأويل يمكن أن تفضي إليه قراءة النصّين فإنّي أقول: إنّ (أبا موسى الأشعريّ) في قصيدة الجريريّ هو قناعً توسّل به الشاعر ليقول من خلاله ما يروم أن يقوله بعيدًا عن التقرير والمباشرة في التعبير. ولعلّه لهذا تخيّر من القصيدة أبياتًا ثلاثةً جعلها في عتبة التصدير لتدلّ عليه بعد أن ذيّلها بتوقيعه الذي خطّه بقلمه تحديدًا:
ما فهمت الأمّة وخلّوني فحس يمنى على يسرى كذا في زاوية
يتفرجون وبعضهم عاده رفس ظهري… وخلّوا همّتي متهاوية
حذّرت في حذّرت من ميدع ملس لكنّ ما فهموا وها هي خاوية
أمّا (أبو ذرّ الغفاريّ) فمعادلٌ موضوعيّ لمن ظنّ الشاعر أنّ أبا ذرّ معادله وليس بذاك، ولن يكون. وأنّى له أن يكون وهو اليوم واحدٌ من أشباهِ مَنْ ثار عليهم أبو ذرٍّ وعلى أمثاله في التاريخ؟ إنّ الجوهر الحقّ في شخصيّة أبي ذرّ هو ما أجملته قصيدة س. س. الجريريّ حين جسّده فيها بقوله:
وكلمة الحق بنطقها ولو مدّوا حصاري
ونا ما تهمّنا الدنيا، ترى الدنيا حصيرة
زمن لي والف الأهوال والشّدّة وضاري
وغيري ملتهي بغصون ريّانة خضيرة
وما معادله المقصود إلا واحدٌ ممّن ألهتهم الدنيا بغصونٍ ريّانةٍ، ونَعْمةٍ يرسف فيها، وصار إلى ما صار إليه أمراء بني أميّة في الزمن القديم، وهؤلاء هم من ثار عليهم أبو ذرّ في التاريخ فكيف يعادل أشباههم في الزمن الحديث؟!
وعلى أيّة حالٍ فإنّ ما صنعه الشاعر س. س. الجريريّ في توظيف أعلام الإيحاء المستدعاة من التاريخ صَنَعَ نظيره في استخدام أعلام الإيحاء المستلهمة من الواقع الشعبيّ المعيش. فرأينا عنده جملةً من الأعلام التي لا وجودَ لها متعيّنًا في التاريخ لكنّ لها وجودًا مجرّدًا في أشباهٍ ونظائر ممّن يعيشون في هذا المجتمع. ف(بخيتة ومبخوت، وعميرة بنت عامر، وسمر وجعفر بو كمر، والشعملي وبو شعمل، وعامر وبو عامر كرامة المهتجس، وعوض مبخوت وعبود، …إلى آخر ما هنالك من ذلك) أعلامٌ إيحائيّة تمنح دلالةً رمزيّةً تتراسل في مظانّ وتتخالف في أخرى لكنّها لا تتراجع عن الارتقاء بالقصيدة إلى شَرَفٍ عالٍ من الشعريّة والتخييل.
وهي قسمان. قسمٌ منها مرذولةٌ سيرتها، شائهةٌ صورتها في خلد الشاعر ووجدانه على الرغم من شعبيّتها، وعلى الرغم ممّا في نفسه من تفاعلٍ مع قضايا البسطاء من أهل هذا المجتمع، ومن أمثلة أولئك الأعلام (عميرة بنت بو عامر) التي غدت رمزًا للسقوط الذي ساقها إلى التمرّغ في أوحال المجتمع حتّى لم يَسَعْ كلُّ ذي قلبٍ يقظٍ وأنفٍ حميٍّ إلا انتباذها والنأي بنفسه وبأهله عنها وعن مثيلاتها.
ولكي يجسّد لك دلالة العلم الرمزيّة يكتفي بتلقّط الصور الدالة على مقصديّة الرمز وما يتلألأ من إيحاء دلاليّ في ثناياه دون اكتراثٍ بتقديم صورة رمزيّة مضادة تتمثّل بنيةً تقابليّةً مع صورة عميرة ومثيلاتها. لكنّه يستعيض عن ذلك بجلاء موقفه الحاسم منها ببتر العلاقة بها والتهديد بالويل إن رآها قريبة منه أو من بعض مَنْ يحبّ:
ونا بحوي على أهلي ومتسلّب معي مسبت
وميزر عِزّ لسلوبة وعندي للشرف سيفين
ومقصورة عميرة دحقتش في دارنا حرمت
ولي هو بيننا غلّق ولا شي لش علينا دين
وهنا لا يجد قارئ القصيدة صورة للمرأة تغاير صورة عميرة هذه وتبدو في النص صورة للمعنى السامي للأخلاق والقيم النبيلة. أتراه يصنع ذلك لانشغاله بذمّ الموجود المشهود فانصرف عن التغنّي بالمأمول المنشود؟ ربّما.
وليس ببعيدٍ عن عميرة بنت عامر (عبود) الذي (طبعه الحتم إلا وإلا)، وهو يجلو صورته من خلال هذه المفارقة بين انفراده عن الجماعة عند الشّدّة والفزع، والتحامه بهم عند الرخاء والطمع. ثمّ من خلال بعض المفردات الدالة على الهجاء المباشر والذمّ الصريح.
وعلى الرغم من اتسام هذا العَلَمِ بالمحلية فإنّه يومئ به من طرف خفيّ إلى مَنْ جاء من خارج الدائرة المحليّة ليدرجه في سلّة (جعفر بو كمر، والشعملي، وبوشعمل، وقشرة الحنشان…)، وكلّها أعلامُ إيحاءٍ دالة على التردّي والسقوط.
قسمٌ ثانٍ منبثقةٌ صورته من قاع المجتمع يأسى الشاعر لآلامها ويشجى لمعاناتها ما دامت أشباهًا عواديها. ومن أولئك (بخيتة ومبخوت، وسمر) التي نهشتها أنياب الختل ومزّقتها أظافر الطمع ولم يألم لمأساتها غير الشاعر الذي تخفق في ضلوعه آلام المساكين الضعفاء الحيارى. وإنّ في قصيدة (حكومة باحريز) التي تراءت فيها خديجة رمزًا لهم ولمعاناتهم في هذا الوجود الاجتماعيّ البائس الذي يحرم فيه المسكين من الظفر بأقلّ احتياجاته الإنسانيّة ناهيك بأكثرها تعقيدا دلالةً على صنيع الشاعر س.س. الجريريّ في توظيف الأعلام في قصيدته، واستدِلَّ على الغائب من الشاهد، فالأشباه تتناظر والنظائر تتشابه. لكنّي أقول إنّه لا يستخدم الأعلام ليطرّز بها متنه الشعري تطريزًا ظاهرًا لا جوهرَ له ولكنّه يوظّفها فيه لينتج المعنى وتستقيم من خلالها الدلالة المبتغاة. وهذا ملمحٌ من ملامح الحداثة الشعرية التي استخدم شعراؤها التقنية لوظيفتها في النص وليس لما تتسم به في ذاتها من سمات ومعنى.
التداخل الأجناسيّ في قصائد الديوان:
ومن هذا الباب ما نجده في الديوان من تداخل أجناسي بين نصوصه. فالأصل في الشعر عند كثيرٍ من الشعراء أنّه غناءٌ تترقرق فيه الرؤى وتتجلّى المواقف، لكنّ من الشعراء من تجاوز هذه الغنائيّة إلى شيءٍ من السرديّة أو المشهديّة المسرحيّة، وإنّ منهم مَنْ أوغل في اللقطة السينمائيّة لتتضمّخ القصيدة بتقنياتٍ جماليّةٍ تتجاوز بها اللغة وظيفتها (التعبيرية) لتنساب في فضاءٍ تتعدّد فيه وظائفها وتتسع الدلالة حتى لا تكاد تحيط بها الصفة إلا قليلا.
وفي شعر العاميّة الحضرميّة عَزَّ مثلُ هذا التداخل الأجناسيّ في قصائده مسرّحةً كانت أم مساجلةً أم قصيدًا مغنّى إلا فيما ندر، وعلى صورةٍ جزئيّةٍ محدودةٍ لا تكاد تتجاوز حدودها القصيدة الواحدة بين عشرات القصائد الغنائيّة المحضة. وأضرب لك أمثلةً شاردةً، هذا حدّاد بن حسن يقول في إحدى أغنياته:
قال الفتى قلبي الليلة سمع عنقا
وناحت العصر بالأنغام
ياغارة الله شو في صوتها رقّة
باللحن تشجي
وبلحنها خلّت العاشق ضوى مغروم
يومئ هذا المفتتح بتهيؤ النصّ لبنيةٍ سرديّةٍ تتوالى فيها الوقائع والمواقف وتتنوّع فيها الشخصيّات وما إلى ذلك ممّا يقتضيه البناء السرديّ في النصّ، لكنّ الشاعر اكتفى ببيتين بعد ذلك البيت لينفرط عقد السرد في القصيدة وتستمر اللغة في وظيفتها التعبيريّة على ما هو مألوفٌ في أشباهها. وقريبٌ منها ما صنعه المحضار في أغنيته (ما زلت يا طير متعلّي ما تعرف الساحل القبلي من حيث يتحصّل الياقوت). وهنا يتجلّى معنى التداخل الأجناسيّ في قصائد هذا الديوان.
وفي توغل قصائد الديوان في توظيف التداخل الأجناسيّ ما يصل بينها وبين أنماطٍ من شعر الحداثة العربية اتخذت من البناء السردي وسيلةً تتجاوز غنائية النص, وأداةً في تمثّل المعنى وجلاء الدلالة.
وقد عمد الديوان إلى ذلك في نصوصٍ مثل (ورطة/ كنيكونة/ فتوى/ دشكا/…). وهنا تبنى القصيدة بناءً سرديًّا دون أن تخلي أبعادها من تعبيريّةٍ يدلّ عليها استخدام ضمير المتكلم, واستخدام التشكيل الاستعاري للغة, وما أشبه هذا او دنا منه من حيث إن السردَ أليقُ به استخدامُ ضمير الغائب واستخدامُ التشكيل الكنائيّ في النص.
والسرد في القصيدة لا يقوّض عناصرها من حيث هي (بنية) ولكنه يعيد تشكيلها من حيث هو طريقة في (البناء)، وبين المصطلحين فرق.
فالبنية ثابتة جامدة, والبناء متجدّدٌ متحوّلٌ.
البنية شغل البنيويين الشاغل, والبناء هدفٌ لنظرات الأسلوبيّين والسيميائيّين ومن سار على دربهم من تابعي المناهج اللسانية في النقد.
والشاعر س.س. الجريريّ حين يستخدم البناء السردي في قصيدته لا يغفل عن الاحتفاظ ببعض خصائص لغتها ليتذكّر القارئ أنه يقرأ شعرًا ولا يطالع نثرًا, ولست أعني بهذا استخدام الوزن والقافية فقط ولكنها أمورٌ تتجاوزهما إلى طبيعة اللغة التي تمنح النص هُويته الإبداعيّة. وخذ على ذلك مثلا قوله في مطلع قصيدته (ورطة):
من حكاية خيبة الحلوة سمر… حس في قلبي كما قبص الجحام
يومها حلوة وتملاه النظر …. مثلما البدر المنوّر في التمام
زوجوها العود جعفر بو كمر… واندفن عمر البنيّة يا حرام
فالناظر إلى قوله : (حس في قلبي كما قبص الجحام/ مثلما البدر المنوّر في التمام/ اندفن عمر البنيّة/ يا حرام), يجد استخدامًا لضمير المتكلم, ويجد علاقة التشابه استعارةً وتشبيهًا, ويجد أسلوب التعجب وكلها عناصر لغوية تمنح وظيفة انفعالية تعبيرية هي أدخل في عالم الشعرية من حيث إن التماثل أو قل التناسب قانون إنتاجها. لكنّ القارئ حين ينظر إلى قوله: (الحلوة سمر/ يومها حلوة وتملاه النظر/ زوجوها العود/جعفر بو كمر) يجد استخدامًا لضمير الغائبة والغائب, ويجد علاقة التجاور الناتجة عن استخدام الكناية في (جعفر بو كمر) حيث إن المال الموجود في (الكمر) هو للصرف والإنفاق لا للحفظ والادخار, ويجد فيه هذا التشويق بمعرفة التفاصيل التي احتوتها الحكاية , وكلُّها عناصرُ تمنح وظيفةً مرجعيّةً هي أدخل في عالم السرديّة من حيث هيمنة السياق على النص. وإنْ هذه الأبياتُ الثلاثةُ إلا مفتتحٌ لأبياتٍ تاليةٍ تتضمّن تفصيلات الحكاية التي أجملها في ذلك المفتتح.
والشاعر ينوّع في مفتتح قصائده ذات البناء السرديّ فيجيء به تارةً على هيئة نداء يلفت المنادى إلى القصة التي يرغب في عرضها كما في قوله:
يا بو الفتاوي جيت بستفتيك … جد لي جزاك الله بالفتوى
مبلي انا الله لا يبليك … وصبرت جم عا كم كم بلوى
وبليتي محزاة لو بحزيك … كل ما انقضت حزوة أتت حزوة
وفيها مشابه من اختصام الأرنبة والثعلب إلى الضبّ الذي فصل بينهما في ساعة الشكوى. لكنّ س.س. الجريريّ لم يُظْهِرْ صاحبَه أبو (الفتاوي) على أرض الحدث, ولم يُسْمِعْ صوتَه الآخرين لأنه ليس بحاجةٍ إلى فتوى في الأصل، فالحكم مخزونٌ في وجدانه ومعلّقٌ بجنانه وإنما همُّه من القصيدة الإعلانُ عن جوهر التجربة وجلاء صورة الآخر كما كشفت عنه وقائع الحدث.
وقد يفتتح القصيدة ذات البناء السردي بالحكمة الموغلة في التجريد ثم ينزاح عنها إلى الحدث المتعيّن كما في مطلع قصيدته (كنيكونة):
الصدق عملة قال شاعر في الزمن ذا نادره
والله لكل صادق ولي كل من صدق الله معاه
الصدق عنوان التقى والمتقي الله ناصره
والصدق قد نجّى محمد والذي صدقوا كماه
ثم يقتضب القول لينسرب إلى جوهر الحدث فيلجأ إلى صيغة تعرفها الذائقة الشعبية لارتباطها بطرائقها في إنشاء القول وأعني بها قوله (بالمختصر بحكي لكم قصّة لقتها البايرة).
وهو يجيد استخدام مثل هذه اللوازم السرديّة ويحكم نسجها في ثنايا القصيدة، ومن أمثالها قوله (قل بتت البتّة) وهي صورةٌ من صور القفز في الزمن كما يقول علماء السرديّات لكنهم لم يقعوا عليها لأنّ مبدعي السرد عندنا لم تلفتهم هذه الصيغة وأمثالها, ولو أنها وجدت عبقريًّا في السرد مثل يوسف إدريس لصاغ منها البدائع. على أنّ هذا استطرادٌ أتجاوزه لأقف عند قصيدة (دشكا), وهي على شعريّتها سرديّة بامتيازٍ، تجد ذلك من كثرة استخدام الفعل الماضي (تكرر في الأبيات خمسا وعشرين مرة), ووفرة استخدام الكناية في إطار علاقة التجاور كما في قوله أطقم دواشك ما كماها عالحدود/ تسلم وتبقى للسقل مادمت عالبنكا/ جا عند بو ناصر فرج لي يندر الهشكا/ بايلعبوا تربين بالجوكر وباليكا). وهو يزاوج في طريقة عرضه للحكاية بين أسلوب الإخبار والرواية عن الحدث, وأسلوب (التمسرح) لتتجلى الشخصيات في مشهدٍ مسرحيٍّ فيبرز الحدث وتتكشّف بواطن الشخصيات من خلال الحوار. فإذا كان (المتكلم) هو راوي الحدث وجزءٌ من نسيجه فإنّه لا يخلو من لطافةٍ في السجايا، ومسالمةٍ في الطبع, على بساطةٍ في مباشرة الحياة دون تكلف أو تعقيد نا الا على العادة هنا ومساهن البشكا). وهو لا يخلو من غفلةٍ عمّا يجري حوله من وقائع، ولذلك يفجؤه حدوثها حين تتجلى أمامه: (قلت: الخبر , إيش الخبر؟ حشدوا حشود, وتقفل الشارع, وفي كل زاوية دشكا), ويفزعه سماع تفاصيلها حين يخبره بها شاهدٌ من أهلها: (فرقزت: يا ساتر, وملقي له حرس؟), لكنه لا يخلو من سخرية وتهكم تنمّان عن إحساس صافٍ بالحياة (والتالية هشكا, ويا داحس دحس, آه لو جنوده يعرفوا دله وبس , با يلعبوا تربين بالجوكر وباليكا), وهي سخرية تذكر بما اتسم به شعر أمل دنقل من تهكمٍ وسخرية. وليس في هذا ما يضير, فالرؤى حين تتدانى يسهل على أصحابها اقتراض التقنيات ووسائل الأداء لجلاء الرؤية وإبراز المواقف.
وإن في القصيدة براعة شعرية عمد فيها النص إلى تحويل دلالة (الدشكا) من تكوينٍ حديديٍّ مصنوعٍ إلى تكوينٍ طبيعيٍّ مخلوقٍ, تنتقل به الآلة من حقلٍ حربيٍّ إلى حقلٍ جنسيٍّ ليزيد معنى السخرية ودلالة التهكم عمقًا في نفس المتلقي.
لقد كان في مقدور الشاعر س.س.الجريري أن يقول المعاني التي تضمنتها تلك القصائد ذات البناء السردي بيتًا بيتا في غناءٍ يعبّر عن موقفه من ذاك الذي جرى ويجري في واقعه المعيش لكنه ابى فتخيّر لقصيدته تشكيلا شعريًّا مضمخًا بالسرد مما منح قصيدته هُويّةً إبداعيّةً متميزة.
جدل الشفاهيّ والكتابيّ في الديوان:
تمثّل الديوان وعيًا كتابيًّا بامتياز، لا من جهة استيعاب صاحبه للمكوّنات التي بها يصير النص كتابًا فحسب ولكن من خلال معطياتٍ في لغته أهمُّها استخدام بنية الفصل دون بنية الوصل في كثيرٍ من المظانّ، وإن لم تخلُ جمله من استخدام صور الوصل في مظانّ أخرى. ومن هنا جاء الحديث عن جدل العلاقة بين الشفاهيّ والكتابيّ في نصوص الديوان. وإنّ من مصادر الكتابيّة فيه المنزع الإبداعيّ الذي انتهجه الجريريّ عند صياغة القصيدة، وأعني به طرائق الحداثيّين في صوغ الشعر وسبكه وحبكه، فترسّم خطاهم وإن استقلّ عنهم بلغته وطرائق تشكيلها. وإنّ من صور الكتابيّة في شعره بناء القصيدة بناءً سرديًّا كما سلف عرضه في فقرةٍ سابقةٍ، فالسرد يقتضي ترتيبًا في عرض الحدث ورسم المواقف وجلاء الشخصيّات، وهو أمرٌ لا يُمْكِن منه غيرُ الكتابة، وإذا جاز وأسعفت الشفاهة منه فلسذاجةٍ في عرضه وسطحيّةٍ في مدلولاته. هذه واحدةٌ، وثانيةٌ من صوره استخدام (التشعيب) في عَروض النصّ. والأصل أنّ البيت في القصيدة ذاتِ الشطرين أن يستقلَّ كلُّ شطرٍ بوزنه وجمله وتستقيم له الدلالة على ذلك النحو من التشكيل، لكنّ للشعراء أمزجةً تتأبّى على الانصياع لما يقوله النقّاد وعلماء الشعر إذ هم ملوك الكلام يصرّفونه أنّى شاءوا وكيف شاء لهم الإبداع فيخرجون عما اشترطه النقّاد من قبل فيأتون بالبديع من القول. أتراه لهذا تحدّى أبو تمّام عمود الشعر فجلّى واستعصم به آخرون من بعده فتقاصروا عن صنيعه؟ ربّما. على كلّ حالٍ عمد الجريريّ إلى التشعيب في قصيدته توكيدًا لمنزعه الحداثيّ في الكتابة فجاء نصّه عند إنشاده موزّعًا في عددٍ من الجمل المتفرّقة على عددٍ من السطور. وهو ما لا يتمّ إدراكه إلا حين يعيد المتلقّي كتابة الأبيات على السطور مرّةً أخرى. وذلك على نحوٍ من هذا المثال، قال:
بحري أنا … والبحر يا عالم شراع نسمة هوا ورياح خير امباركة
وإن عاكستني أو طرأ طاري وصاع موجة على موجة طريقي سالكة
سدّي فضا ربّي وآفاقي وساع والبحر بحر الله ما هو الخانكة
هذه الأبيات المنتظمة في بحرٍ واحد، ويستقلّ كلّ شطر فيها بحرف رويّ، تستحيل عند تيقّظ الوعي الكتابيّ إلى عدد من الجمل وتتوزّع على عدد من السطور على نحو يدنيها من كتابة قصيدة التفعيلة عند شعراء الحداثة العربيّة في عصرها الحديث، وذلك على النحو الآتي:
بحري أنا
والبحر – يا عالم -
شراع
نسمة هوا
ورياح خير امباركة
وإن عاكستني
أو طرا طاري
وصاع موجة على موجة
طريقي سالكة
سدّي فضا ربّي
وآفاقي وساع
والبحر بحر الله
ما هو الخانكة.
ومن أمثاله التي خرج فيها النصّ من دائرة الشّفاهيّة إلى دائرة الكتابيّة قوله قصيدةٍ أخرى:
فاضية!! لا تصيح ما فيها مهبّي يسمعك لا صحت ويفك الحصار
ما بقت عزوة ولا داير وعصبي وين أهل الحي؟ لا صاحب وجار
فرفروا صحابك وقع يا كوس هبّي وش معك في الكوس بن عمّ الغبار.
هنا تنتظم الأبيات كأمثالها في بحر واحدٍ، وتتقسّم إلى شطرين، ويستقلّ كلّ شطر بحرف رويّ وقافيةٍ. لكنّ إنشادها يفضي إلى تقسّمها على نحو كتابيّ آخر ومغاير لما أَلِفَ من أمثالها، فتغدو على الهيئة التالية:
فاضية!!
لا تصيح
ما فيها مهبّي يسمعك لا صحت
ويفك الحصار
ما بقت عزوة
ولا داير وعصبي
وين أهل الحي؟
لا صاحب وجار
فرفروا صحابك
وقع يا كوس هبّي
وش معك في الكوس بن عمّ الغبار؟!
من ذينك المثالين – وسواهما – نتبيّن كيف أنّ الشّفاهيّة أسهمت في إنتاج الكتابيّة في النصّ فتماهت مع وعي الشاعر بوظيفتها في توكيد انفصاله عن الوعي الجمعيّ المحيط به واستقلاله بذاته رفضًا وانتماءً، حبًّا وكراهيةً، وإلا ما معنى لقائه الأخير مع أبي موسى الأشعريّ؟
لكن – ولا بدّ هنا من لكن – هذا الشعرُ منظومٌ بالعاميّة الحضرميّة كما جاء في غلاف الديوان، والأصل في الشعر العاميّ أنّه شفاهيٌّ بامتيازٍ، فهل خلت قصائد الديوان من تلك الشّفاهيّة؟ الواقع أنْ لا. فلقد تجلّت هذه الشّفاهيّة فيه على صورٍ، منها الإطناب في استخدام الصفات كما في قوله:
خديجة بنت بوها خشمها كالسيف لي يقطع
وهامة عالية ما يذلّها حد أو يوطّيها
فقوله: (لي يقطع) زائدة لا يحتاج إليها المعنى لأنّ الأنف الذي كالسيف يظلّ على هيئته قطع أو لم يقطع. و(الهامة) التي لا تذلّ ولا تنحني تبقى عاليةً إلى أبد الآبدين. ومن هنا فلا حاجة إلى هذا الإطناب على المستوى الكتابيّ في النصّ، لكنّ الشّفاهيّة تقبل به وتؤثره دون سواه.
ومنها استخدام حرف العطف من بنية الوصل بين الجمل. واقرأ معي هذه الأبيات من قصيدته (حكومة باحريز):
وقع لي من حصاة الواقعة من قبل ما توقع
على روس اليتامى ما قدرت البَرّ نجفيها
ولي هم ذخر في وهمي تناسوا والتهوا بقطع
وتبعوا الفانية كلين داوي في ملاهيها
وحد يفقع وحد يزمل ويتنصّر ويتبرّع
وضحكوا يوم قلت ترفّعوا بانت مناشيها
ونسيوا بو فرج وسعيد ومريزوق وربيّع
وضاع الصوت في الزحمة وفي حوسة ملاويها
ولا شي بي زعل راضي عَلَيْ ربّي، ولي يشفع
محمد سيد الكونين أولها وتاليها
ولكنّ البنية صوتها لعلع ولم أهجع
شكت من قلة التقدير..هل في الأرض واليها؟
ستّةُ أبياتٍ تكرّر فيها حرف العطف (الواو) سبع عشرة مرّة ممّا يشي باتصالها مبنى ومعنى، والوصل بين الجمل باستخدام بنية العطف صورة من صور الشّفاهيّة في النصّ. لكنّ النازع الكتابيّ عند الشاعر هو الذي جعله ينزاح عن هذه البنية في الشطر الأخير من البيت السادس من هذه الأبيات فيعمد إلى بنية الفصل لتتداخل الجمل دون استخدام حرف من حروف العطف فقال: (شكت من قلة التقدير.. هل في الأرض واليها؟). وفي هذا وأمثاله ما يشي بتداخل العلاقة بين الشّفاهيّ والكتابيّ في قصائد الديوان.
ومن صور الشّفاهيّة المحاكاة الصوتيّة لبعض اللهجات المحلّيّة كما في قوله: (ما تفكّرينا في غنمكم والعجول)، وطريقة نطق الفعل هنا (مشقاصيّةٌ) خالصة.
ومن صورها استخدامُ القوالب المكرورة في شعر العاميّة الحضرميّة من مثل الافتتاح بالحمدلة أو البسملة أو الصلاة على المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام واختتام القصيدة بمثل تلك الصلاة عليه، كقوله مفتتحًا قصيدةً:
الحمد لله ألف وصلاتي على من أرسله بشّر وأنذرنا وهو يشفع لنا يوم الحساب
وكقوله مختتمًا قصيدةً:
بيموت مطمّن على أهله زكين وختامها صلّوا على طه الأمين
ومن صورها أيضًا استخدام أسلوب التعجّب في النصّ وله صورٌ لا تخفى على لبيب فلتنظر هناك وحسبك من القلادة ما أحاط العنق.
ولا تخلو قصائد الديوان من استدعاء بعض نصوصٍ سبقت في تاريخ اللغة العربيّة الفصيحة أو العاميّة الحضرميّة كما في قوله: (نا نعرفك رايد ولا يكذب أبد رايد هله) الذي يستدعي قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((إنّ الرائد لا يكذب أهله)). وقوله: (وش معك في الكوس بن عم الغبار) يستحضر قول باحريز: (جبت الفوايد لول والا الكوس بن عم الهبوب). وقوله: (وقال ما عندي كما العيدة خصار) لا يبعد عن قول الشاعر الأول (العطيشيّ): (خاطبك في المظبي تقول لي العيد زينة والعنوب) وليس المثل العربيّ ببعيدٍ عن قول الاثنين معًا. وفي قوله:
قال إيش تقولي يا كنيكونة انقلبتي ساحرة
والا نسي حاشاه موسى عند أخوالش عصاه
والا سرقتيها على غفلة وطرتي طايرة
ولعاد فكّرتي بموسى بين ذولاك الحواه
دندنةٌ حول قصّة نبيّ الله موسى وسحرة فرعون وعصاه التي لقفت ما أفكوا لأن الله لا يصلح عمل المفسدين. أمّا قوله في القصيدة ذاتها: (وبدت كنيكونة تفصّل له من عطارد كساه) فناظر إلى نصّ المثل الحضرميّ: (يفصّل من السماء قمصان) أي أثوابًا للصلاة. وكفى بهذا خبرًا عمّا في نصوص الديوان من هذا المكوّن الأسلوبيّ أشباهًا ونظائر.
جماليّة الكراهية في الديوان:
وهل الكره جميلٌ ليلد إنشائيّةً جميلةً؟ الواقع أن نعم، ولكن حين يخبر الشاعر مضايق الكلام إليه، فيجيد طرائق سبكه، وجلاء محاسنه، فيغدو صورةً للكلام السّامي فلا يسفّ. ولعلّه لشيءٍ قريبٍ من هذا تكلّم نقاد الحداثة عن شعريّة القبح عند شعرائها على الرغم من قدم وجود صور منها في تاريخ الشعريّة العربيّة، فهذا امرؤ القيس يقول:
ترى بعر الآرام في عرصاتها وقيعانها كأنّه حبّ فلفلِ
ويقول:
لها ذنبٌ مثل ذيل العروس تغطّي به فرجها من دبرْ
والقبح لا يخفى في صورة (بعر الآرام وذنب الدابّة الذي تغطّي به فرجها من دبرٍ) ومع ذلك قبلته ذائقة المتلقّين منذ الجاهليّة حتّى يوم الناس هذا، ولم يأنف من ترديده كلّ ذي بصرٍ بالشّعر.
أضف إلى هذا أنّ الكراهية هنا حافزٌ من الحوافز المحركة للإبداع شأنها شأن الحبّ وإن تخالفا في الاتجاه وتعاكسا في الغاية. وما شعر المديح والهجاء إلا صورتان من صورهما. وما وُجِدَ شاعرٌ مَدَحَ إلا عَرَفَ السبيل إلى الهجاء، وحسبك بالحطيئة وابن الروميّ وأبي الطّيّب أمثلةً شواردَ في هذا المقام.
ومن المعلوم في تاريخ الشعريّة العربيّة أنّ الحطيئة رفع من شأن بني أنف الناقة حين قال فيهم:
قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يساوي بأنف الناقة الذّنبا
وقد كانوا يرون في لقبهم هذا سبّةً فاتشحوا بعد مدح الحطيئة إيّاهم ثوب فخر وازدهاء. وهو نفسه الذي أخزى الزبرقان بن بدر وقد كان جمّ الاعتداد والتباهي بنفسه حين هجاه بقوله:
دع المكارم ى ترحل لبغيتها واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي.
ومثل ذلك كثير في شعر أبي الطيب ممّا هو معلومٌ ومدرك. وفي هذا وهذا ما يدلّ على أنّ الشاعر حين يقتدر على القول يقبل على المدح إقباله على الهجاء، ويجمع بين النقيضين في نفس واحدة لأنّ الله فطرها على ذلك النحو من الانشطار، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} الشمس7-8. فهذا الاستقطاب الضدّيّ هو معنى من معاني الوجود، فما من نهارٍ إلا ويعقبه ليلٌ، وما من حياةٍ إلا ويأتي عليها الفناء، وما من أمرٍ يرضينا إلا ويتلوه ما يسخطنا منه وعليه، ولذلك قال الله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} الحديد23، ليتساوى الأسى والفرح في وجدان الإنسان، وتتوازن عواطفه دون اضطرابٍ، فيحيا مطمئنًّا في هذا الوجود الموّار بشتى المتناقضات.
والكراهية ليست بنية دلاليّةً منتجةً هنا ولكنّها محفّزٌ من محفّزات القريحة على النظم وصوغ الشعر، ولذلك تعدّدت الصور، وتنوّعت أساليب الأداء، والمقصود بالذم واحد، هو (الشعملي) و(بو شعمل)، وهو (قشرة الحنشان)، وهو (الغريم الذي اشترى أبو الفتاوي بالربط)، وهو أسّ الذين امتصوا (منيحة سالمين ثم رهنوها فباعوها بكل برودة)، وهو (عبود العيف لي عيّل في الطويلة والمكلا)، وهو (اللي تحيّل وصفّر العدّاد)، وهو (الجرد الذي في الدار يتخطر)، وهو (العاوي الأحمر)، وهو (الغريم الذي يزور بو ناصر ذي يندر الهشكا)، وهو (قليل الخير)، وهو (علي فعفع الذي لقّى الفعفعة مهرة وأفلح فيها دائمًا):
علي فعفع مجرّب في البلد ولعاد با يخدع
دجاجة عزّكم ربّي تخطخط في مراعيها
وهذا الذي يظهره النصّ موضوعًا لكراهية الذات الشاعرة هو واحدٌ من خصومها – وله أشباهٌ – يستوي في ذلك أن يكونوا سياسيّين أو آخرين من غير هذه الدائرة لقيت منه الذاتُ عنتًا أو لم تلق منه عنتًا، لا يهمّ هذا هنا فالأهم أنّها تكرهه وتأبى أن تمنحه صورةً من صور الولاء، فكان البراءُ منه غايةً، والإعلانُ عن البراء منه مفخرة، ولا تتوانى الذات عن الاعتناء بإعلانها هذا البراء، وتجويد الصور الدالة عليه حتّى يعي المتلقون منها ما تشتهي منهم أن يعوه.
ولقد أفضى الإيغال في هذا الحافز إلى شيء من التشفّي بمآل خصومٍ آخرين كانوا يصنعون بهذه الذات وأهلها في زمنهم المنصرم ما يصنعه المعاصرون من خصومها بها وبهم وإن اختلفت الغاية وتغيّر الأسلوب، وأنت مدركٌ ذلك من قراءتك لقصيدة (حوت) وقصيدة (سرحت البغلة)، وهما تتحدثان عن كائنٍ واحدٍ وإن تنوع الرمز فيهما. اسمعه يقول في (حوت):

حوت في السحية جدح زقلته في الغبّة المراكب
خمّ في السحية وعافت ريحته حتى الصراصير
حوت كم دوّخ عباري جالها من كلّ جانب
لا ظهر لفّوا الشبك في صرفخة مثل المصاقير
كان ما مثله في الحيتان يصرطها قناطب
قال هذا البحر بحري با لقي فيه المناكير
حوت كنّه اليوم قده الا محوّت يا عجايب
يرحمك يالحوت شي قدها تهاويلك خبابير.
الحوت هنا رمزٌ ومرموزه معروفٌ يدركه المتلقّي حين يستغرق في قراءة النصّ ويعمد إلى تأويله من خلال تلقّط العلامات المبينة عن مقصديّة النصّ.
وإنّ راكب البغلة في قصيدة (سرحت البغلة) هو ذلك الحوت في القصيدة السالفة، فالمدلولُ واحدٌ والدالُ مختلفٌ وإن اتحدت القصيدتان في بحرهما والقافية.
هناتٌ هيناتٌ:
من يقرأ كتاب الموشّح للمرزبانيّ يهوله ما تضمّنه من مآخذ أخذها النقّاد في قديم الزمان على الشّعراء منذ امرئ القيس وأضرابه في الجاهليّة حتّى أبي تمّام وأمثاله ممّن تقدّموه أو جاءوا بعده في عصور الإسلام. وليس بالنقد عيبٌ حين يومئ إلى بعض هنات النصّ ما دام مندرجًا في باب الودّ ونائيًا بنفسه ولغته عن شواظ الحقد، ودلّ على موضع الهنة دون تعدٍّ أو تجاوزٍ فلم يصنع ما صنعه العقّاد والمازنيّ حين أخرجا كتابهما (الديوان في الأدب النقد) فكالا للشعراء من الشتم والتجريح ما يبرأ منه النقد ويعفّ عنه قلم الأديب الناقد.
من هذا الباب ألج بالقارئ إلى بعض المظانّ ظهرت فيها بعض الهنات الهينات من مثل قوله:
وصلّوا عالنبي المقصود لي يقصده ما يرجع
وعا آله عدد ما بلغت اخديجة أمانيها
فهنا لبسٌ في قوله: (ما يرجع)، فهل المقصود لا يرجع خائبًا فعزّ عليه تبيانه لاحتكامه للوزن والقافية؟ أو المقصود ب(ما يرجع) عدم العودة إلى حيث انطلق؟
وأقول في قوله: (عدد ما بلغت اخديجة أمانيها): لقد اقللت صلاتك على الرسول عليه الصلاة والسلام وكان ينبغي أن تكثر منها عددًا لأنّك تعلم كما نعلم أن خديجة وأمثالها من المساكين الحيارى قلّ أن يبلغوا أمانيّهم في هذه الحياة الظالم أهلها.
ومثله قوله:
بردت أعصابه وهرجه مخملي وانقلب عصفور ذيّاك الغراب
البيتُ جميلٌ كلّه لولا (ذيّاك) التي أشار بها إلى الغراب وهي لا تليق به ولعلّها أليق بالعصفور منه لما فيها من معنى التحبيب.
ومثله قوله:
فتح بازار ثمّن كلّ شي باللي بغى قدّر
ولقّى للكلاب اسعار شي عيني وشي منقود
وما الفرق بينهما إذا كان العين هو النقد؟ وبعتُه عينًا بعين أي حاضرًا بحاضر.
ومن هذا ما نجده في بعض معارضاته لقصائد الشعراء الذين سبقوه مثل الشاعر العاميّ الكبير سعيد فرج باحريز الذي عارض الجريريّ قصيدته المشهورة (بغيت الصدق والواقع…) بقصيدتين افتتح بإحداهما ديوانه واختتمه بالأخرى. ولوضع القصيدتين في هذين الموضعين من الديوان دلالة لا تخفى على دارسي عتبات النصّ من حيث إن باحريز كان في شعره كلّه وفي هذه القصيدة خاصّة مثلا أعلى للرفض والتحدّي والانتصاف من الظالم انتصارًا للمظلوم. وقد نسج الجريريّ قصيدتيه على وزن القصيدة الباحريزيّة وقافيتها وحرفي رويها صدرًا وعجزًا. لكن ثمّة تباينًا بين القصائد الثلاث في جوهر الهندسة الشعريّة، فقصيدتا الجريريّ تنهجان نحو التخصيص، وانحصار الدلالة في دائرة المعروف و المحدّد ولا تكاد تتجاوز الحدث ولا الشخصيّة فجاءت تعبيرًا مباشرًا عن مقصودٍ متعّين. أمّا قصيدة باحريز فقد أوغلت في العموم متجاوزةً الخصوص، ونظرتْ إلى الإنسانيّ ذي الصفة المطلقة دون الانحصار في السياسيّ أو الاجتماعيّ ذي الصفة الآنية، قال:
ووحدة قال بو سالم خِيَرْ من عشر ما تنفع
وزنها يا بن الصوري وفكر في معانيها
وللأيام سكرتها تبت وتقول لك برجع
كما لي يخرج الكلمة ويرجع ما يوفيها
ومن غراك لا تغتر ومن طمعك لا تطمع
ولا شفت السما سودة تعوذ من مناشيها.
وإنّ في ارتباط بعض أبياتها بالذات المتكلّمة قد منحها تعبيريّة حميمة افتقدتها قصيدتا الجريريّ:
ونا ما بخرج الزامل بلا سكين بتبرع وكل رقبة طويلة راس لها آفة توطيها
صبر بيجي لها فارع من الشارع وبايفرع
وكل من سرّح النِّشْرة بيده بايضويها.
ويستخدم الجريريّ لفظة (المنترة) على نحوٍ يخالف ما جرى الاستخدام بها في شعر باحريز. قال الجريريّ:
ولي كوره في الشربة يشوف المنترة مطلع
ويحلب شاة باصالح وهي ماشي لبن فيها
وقال باحريز:
عمري في التسعين لكنّي شبي في المنترة
والشمس تشرق قال بو سالم ويعقبها الغروب
(المنترة) عند الجريريّ نزولٌ فغدت عند المغفّلين صعودًا. و(المنترة) عند باحريز سند يصعب على الضعفاء صعوده فيتباهى أمثاله بتحقيق ذلك الفعل.
فأيّ الشاعرين مصيبٌ في استخدامه هذه المفردة في شعره؟ أم تراها من ألفاظ الأضداد فيصحُّ فيها أن تكون للصعود وللنزول معًا؟
هذا سؤالٌ أدع الإجابة عنه لآخرين، وإن وددت الإشارة إلى أنّ كلّ صعود لا بدَّ له من نزولٍ، وكلّ نزولٍ يعقبه صعود لازم، هكذا هي الحياة، وذلك هو قانونها، فهل تعي ذلك أذنٌ واعية؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.