ولعل بيت بو ريا كان سيمر مرورا عابرا لولا أن حولته الأشعار اللاحقة إلى حقيقة وجودية أو ما يشبه الحقيقة الوجودية، لاسيما أن الشعر يعمل في البيئات المحلية المغلقة والمحدودة المصادر الثقافية بنشاط أكبر، صار البيت لدى الشعراء وجودا ذهنيا وخياليا مثيرا، فازداد تمثله والانطلاق منه، وفي أثناء ذلك تسربت تلك الحالة حقيقة ذهنية وواقعية، أو خيالية وحسية. ولعل الأبيات التي تناصت مع بيت (بو ريا) تقدم إرهاصات لإشكالات جديدة تولد بدورها إرهاصات لأوضاع سلبية أخرى، فبيت بو ريا ولد روحا تشاؤمية كبيرة، لاسيما أن عمره الآن يكاد يصل إلى أربعمائة سنة وما يزال فاعلا، وليس بمستغرب أن يترك بيت أو حكاية أو مثل أثر في تكوين شخصية الشعوب وثقافتها. يقول سعيد الجريري: بخيتة ظهرها محني ومسلوت وقدها جلد عالعظمان، بتفوت وتدرج دوبها وتصيح بالصوت: فضيلة يا عرب، رثوة لمبخوت نحل جسمه ومن فاقته بيموت وهم يا للأسف واعين وصموت ولولب حظها والبخت مفروت إذا جادوا لها جادوا بفتفوت وضحكوا من رقع في ثوبها جم ومن ظهر الضنى المهدود بالهم ولا قالوا بخيتة ذي لنا أم وسقلتها سعيد الحظ مبخوت أخونا.. والمخوة حبل مسموت ويسجل الجريري في العطفة اليمنى من غلاف ديوانه ((لقد ألهم بيت (بو ريا) الشعراء من بعده فتناصوا معه، بكيفيات مختلفة. وفي السياق نفسه وجدتني ألهج باللولب المفروت، وقد رأيت حضرموت تتقلب بها المراحل، وكأن أبا ريا يطل من نافذة غيابه، ليراها تنوء بلولب مازال مفروتا منذ القرن العاشر الهجري، فاتخذت (بخيتة) شخصية شعرية فنسبتها إلى (بو ريا) في إحدى قصائد هذه المجموعة، توكيدا للقدر الموصول في الأرحام، وجعلتها أنثى مبالغة في توليد الحالة القدرية، الشبيهة بقدرية سيزيف وصخرته العتيدة، كما في الأسطورة المعروفة)) هل تدخل حضرموت في أبدية الانقهار مما يمكن قراءته من المنطوق القولي العقلي للشاعر لا من الحدس الشعري حسب، فضلا عن الأقوال الشعرية السابقة عليه؟ لعلني أغتفر لصديقي ذلك وقد بلغ به الألم فجعل حال حضرموت قدرا موصولا في الأرحام تناسله الأنثى كقدرية سيزيف كلما حمل الصخرة نحو الأعلى سقطت منه فعاد ليحملها من جديد بلا انتهاء.. هل جاءت المماثلة عن قصد، أو سقطت سهوا أو حدسا؟ بغض النظر عن السبب بدت الرؤية في المنطوق الشعري والعقلي تشاؤمية على حضرموت إلى الأبد. هنا ينضاف المنطوق الواعي إلى الشعر لنجد أنفسنا أمام مناح قولية تتفاعل وتتساند لتسقط على حضرموت قيودا أكثر تكبيلا بغض النظر عما يمكن تأويله بعد ذلك من مرام طيبة لا يبوح بها النص، وإنما يمكن مقاربتها. نحن الآن أمام نظام قولي متكامل يصنع فكرة الانسحاق ويأخذ في التواصل والتنامي التاريخي مشكلا ثقافة الانكسار والحسرة.
__________________ بخيتة ومبخوت.. قراءة ثقافية (1)