إنّ شخصية (بوريّا) وفق منطوق مطوية الغلاف الأولى لم تترك على حالتها بل تحولت إلى رمزٍ شعري، لا تمثل نفسها بل تمثل حضرموت , و يكبرالرمز ويمتد في الزمان حين أحال الديوان أُبوة بخيتة إلى (بوريّا) ومعروف أن (بوريّا) لم تتضمن سيرته أي إشارة إلى أنّ لهُ بِنتاً اسمها بخيتة، وتقصّد الديوان أن تكون أنثى – وليس الذكرُ كالأنثى في مسألة الرمزية في هذا السياق الشعري بالذات – فهي تحيل بجلاء إلى الوطن ونجحت القصيدة المتفوهة باسم بخيتة في تحويل قضيتها الخاصة إلى قضية رأي عام تجاوز المحلية ومس آفاق العروبة وأصبح مبخوت رمزاً ملحقاً بأمّهِ أيضاً ويشعر القارئ بأن مبخوتاً يحمل معه أنفاس المباخيت ( المباخيت : القادمين من الغيب ) , والمطوية نفسها كشفت عن صلة الرحم الشعرية بين بخيتة و(بوريّا) ووفق تفوهها أعلنت أنها (( اتخذت بخيتة شخصية شعرية فنسبتها إلى (بوريّا) في إحدى قصائد هذه المجموعة توكيداً للقدر الموصول في الأرحام وجعلتها أنثى مبالغةً في توليد الحال القدرية الشبيهة بقدرية سيزيف وصخرته العتيدة كما في الأسطورة)). إنّ المطوية الأولى تفوهت بجملة قصيرة تدفع القارئ إلى التروي والتأمل فيها وهي على النحو الآتي: (( وجعلتها أنثى مبالغة في توليد الحال القدرية )) ولا أحسب أنّ القارئ الذي تطرق أذنه مثل هذه الجملة سيمنع نفسه عن استدعاء بعض آيات من سورة آل عمران وبخاصة الآية الخامسة والثلاثين إلى الآية السابعة والثلاثين ويمكن للقارئ في القرآن متابعة تفصيلية وحسب القراءة هنا أن تنظر بالتحديد في المصائر التي آلت إليها عائلة آل عمران سلفاً وعائلة (بوريّا) وما آلت إليه من مصير يختلف تماماً عن مصير عائلة آل عمران ووراء كلا العائلتين قدرٌ ثاوٍ ومحرك للأحداث فيهما مع إقرار القراءة بالتباين بين القدرين . إنّ القدر القرآني الذي ألقى بظلاله على عائلة آل عمران قدرٌ رحيم ورحمته باذخة لا تنقطع أبداً إذ تدفقت على عائلة آل عمران فامرأته وهي أم مريم أخلصت لربها ونذرت ما في بطنها أن يكون خادماً لبيت الله وشاء القدر أن يكون هذا الخادم لبيت الله أنثى واختارت امرأة عمران اسماً لبنتها فسمتها مريم وبارك الله هذا الاسم ودعت امرأة آل عمران ربها بأن يحفظ مريم ويصونها فاستجاب لها ربها وأحاط مريم بالخير ورزقها به وكلما احتاجت وجدتهُ في محرابها وبفضل الله سُخرَ لها كفيل يحرص عليها ويرعاها ويكفلها أحسن كفالة ومن رحمة الله الواسعة وقدرته أن جعل مريم تنجب النبي عيسى عليه السلام من دون أن يمسسها بشر، ومنذ اللحظة الأولى لولادته كانت المعجزات تلازمه وأصبح عيسى بُشرى ورحمة للعالمين. وتقتضى الآن القراءة أن نتابع مصير عائلة (بوريّا) إذ كان القدر معها عنيداً ووجدت بخيتة بنت بوريّا نفسها وحيدة, وبالعودة إلى متن القصيدة لا يرى القارئ إشارة لزوجها بل هناك إشارة إلى أنها أنجبت مبخوتاً على سبيل التخييل الشعري : وهي تِشْقي على سُقله تيتم خدا ماله وصي بالخس والتّم وهضلت بعده بخيتة ومبخوت ولا ذاقوا من المصروب فرتوت و إذا كان زكريا كفيل مريم اعتنى بها فإن الوصي على مبخوت أكل ماله بطريقة أشبه بلعبة القمار ( الخس والتّم ) التي يخسر فيها طرف كل شيء، و إذا كانت مريم تجد كل ماتحتاج إليه فإن بخيتة بلسان الديوان ( تدوّر ياعرب كُزمة لمبخوت ) وجسد الديوان صورة بائسة لبخيتة إذ أطبقت عليها الدنيا وسُدّت منافذ الرزق عليها و إذا جاد عليها الزمان جاد عليها ب( فتفوت ) من الخبز الذي لا يكفي جوعها، وبمنطوق القصيدة : بخيتة ظهرها مَحْني ومَسْلُوت وقدْها جلد عالعظمْان بتفوت وتدرج دوبها وتصيح بالصوت : فضيلة ياعرب رَثْوة لمبخوت ولولب حظّها والبخت مفروت إذا جادوا لها جادوا بفتفوت وبخيتة أنجبت مبخوتاً البائس سليل الجوع والحظ المفروت؛ ولذا كانت صورته في الديوان تجسيداً حقيقياً للجوع وهو على هذه الهيئة : نحل جسمه ومن فاقته بيموت وهم ياللأسف واعين وصموت إذن هذه الرؤية المأساوية التي حاقت بعائلة (بوريّا) لا تبقى على حالها من المأساوية . وبحسب هذه القراءة التي تنحاز إلى أنّ هذه الرؤية قد اخترقت بوساطة الدعاء والتوجه إلى الله الواسع الرحمة ثم أنّ ما أصاب أسرة (بوريّا) هو من أفعال البشر وإصرارهم على أن يبقى حالها في هذا البؤس, فهؤلاء البشر بمنطوق القصيدة ( واعين وصموت ) ومرة ثانية نكرر أن هذه الرؤية المأساوية التي يمكن أن يضع القارئ يده عليها كما هو الحال في الأبيات سالفة الذكر ترى هذه القراءة أنّ المأساة لم تلقِ بثقلها الأسود على كل القصيدة بل حاولت القصيدة أن تتفلّت منها في النهاية ولعل مرجعية القصيدة وكونها أتت من سياق اجتماعي وثقافي غير السياق الثقافي الطالع منه سيزيف وقدره العنيد العتيد كل هذا ساعد على التفلّت من الرؤية التراجيدية ولذا انتصرت قصيدة بخيتة بنت بوريّا للإيمان بالقدر وفق المنظور الإسلامي الذي يرى أنّ الدعاء بإخلاص إلى الله كفيل بأن يبدل الحال السيء إلى حال أحسن وبمنطوق القصيدة : ألا ربَنا يافارج الهم تفرج همنا وتجلّي الغم وتتكرم علَيْ يارب ترحم ألا يالله بنظرة شُوف مبخوت على بابك وقف فَقْري ومبهوت ولبي دعوتي من قبل ماموت ألا يارب دمر كل طاغوت وكل زعقي وآكل سحت مسحوت وتستمر القصيدة في رفع درجة التمني ويتراجع التحسر وخيبة الأمل ليحل مكانهما الرغبة في التحسن والحلم بالأمان في قادم الأيام , وبمنطوق القصيدة : عسى مبخوت يتحسن زمانه ولا يهتاش قطْ من حيث مانه يراعونه خوانه بالأمانه ولا يوقف بدربه قَط كل هلفوت عسى بخته اسمه دوب مبخوت بمثل هذه الرؤية التي تدفع عنها المصائب بالدعاء والتي لا تخلو من الأمل في الغد ربما يسعف بخيتة اسمها الذي له نصيب من الحظ والبخت وتنفرج همومها ويزول كربها . *كلية الآداب ، جامعة حضرموت