وحين ننظر في المطوية الخاصة بوجه الغلاف نرى أنها تمد القارئ بفكرة عن شخصية (بوريّا) وعلى اقتضابها إلا أنها أبانت عن الرؤية الشعرية التي تمثلها الديوان في قصائده بمستويات مختلفة ولعل قصيدة ( بخيتة بنت بوريّا ) مثلت البؤرة في هذه الرؤية القدَرية ، وبفضلها تحول بوريّا الى رمزٍ شعري استلهمه الشعراء بمن فيهم شاعر الديوان نفسه الذي عمق هذه الرؤية وحاول أن يخرجها من مفهومها البسيط الى رؤية وجودية تتجاوز الوعي الشعبي وتدفعه الى مواجهة حادة مع وجوده . إن هذه الرؤية القدرية وفق منطوق المطوية تدفع المرء إلى الإحباط وأن ما يعمله وما سوف يعمله لن يفضي إلى نتيجة مُجدية ومعنى ذلك أنْ لا فكاك من التراجيديا بوصفها العلامة العميقة للوجود وهي العلامة نفسها التي يُوسم بها الفعل السيزيفي .
إن الذات الشعرية اتخذت من علامة ( بخيتة ) كياناً شعرياً رمزياً وجعلت هذا الكيان الشعري يحمل مأساة ( بوريّا ) وهي نفسها مأساة حضرموت فصورة(بوريّا) تتبدى في هذه المرة وفي هذا الزمن الحاضر بقناع ( بخيتة ) الذي توارى خلفه الديوان وصور حالها البائس، فالجوع حاصرها ودفعها الى هاوية الضياع . وتسعفنا المطوية نفسها بمضامين تعزز ما ذهبنا إليه عن ( بوريّا ) وحال المطوية يقول (( وقد رأيتُ حضرموت تتقلب بها المراحل وكأن ( أبا ريّا) يطل من نافذة غيابه ليراها تنوء بلولب مازال مفروتاً منذ القرن العاشر الهجري فاتخذتُ(بخيتة) شخصية شعرية فنسبتها إلى (بوريّا) في إحدى قصائد هذه المجموعة توكيداً للقدَر الموصول في الأرحام، وجعلتها أنثى؛ مبالغةً في توليد القدَرية الشبيهة بقدرية (سيزيف) وصخرته العتيدة كما في الأسطورة المعروفة )) .
والمتأمل في القرية التي عاش فيها ( بوريّا ) يجد أنها بُور وفق ماجاء في المطوية، والأرض البور هي الطاردة للحياة والمتأبّية تربتها على استنبات الشجر، والبضاعة البور هي البضاعة الكاسدة التي لم تلق بائعاً يشتريها وهذه المعاني لقرية بُور تجعل دلالة المعنى المحمول بالأسى والتحسر على حضرموت يزيد كثافة ويتواشج بمعنى البيت الخاص ( بأبي ريّا ) والذي يشى بالأفق المسدود :((يقول بوريّا على حضرموت لولب من الرحمن مفروت)) . والمطوية حين منحت جزءاً من مساحتها لقرية بُور النائية والمجهولة من أغلب القُرّاء تُريد أن تشهر هذه القرية وتحتفي بها وتخفف من إهمالها والنسيان الواقع عليها من المكان السيد الذي تتركز فيه القوة والثروة والنفوذ .
إن المطوية بعلامتها اللغوية لم تخف إعجابها بكل من لهج بالبيت الشعري الشهير ل-*( بوريّا ) ولذا جاء في المطوية الأولى للديوان الآتي (( على هذه الخلفية يقصد خلفية البيت الشهير (لأبي ريّا) انبنت قصيدة ( بخيتة ) موصولة بإعجابي بتائيتين تجاوب فيهما الأستاذان محمد عبد القادر بامطرف ( بُو علي ) وسالم محمد مفلح ( بو راشد ) مرت عليهما عقود ترسب منهما في قاع الوجدان إيقاع ظل صداه يتردد هاجساً بقصيدة مقترحة ... لم أجد عنواناً يفضل عنوانها اللصيق ب ( بخيتة بنت بوريّا ) ولم يقتصر الاحتفاء بالبيت المشهور ( لأبي ريّا ) على المطوية الأولى بل شمل الاستهلال الموسد في الصفحة الخامسة التي تلونت بأسماء شعراء حضارمة من أمثال حسين أبوبكر المحضار ، وأحمد عبود باوزير ، وعوض عبدالله بن سبيتي ، وسعيد فرج باحريز ، إذ بادر هؤلاء بالتفاعل مع قصيدة ( أبي ريّا ) وكانت معاناة حضرموت مجسدة في صميم قصائدهم وأتى الديوان متوجاً لهذا التفاعل .
إن كل العلامات اللغوية المبثوثة في المطوية في الصفحة الخامسة تتضافر مع أخواتها من العلامات في العتبات حتى أصبح الكل واحداً يتحسس أوجاع حضرموت ولا يلهج إلا بصوتها من أجل بقاء شعلة الوعي بالمعاناة متقدة باستمرار . إنه التحريض بوساطة الشعر، هذا التحريض الذي لا يعرف الزعيق والصوت المجلجل بل الهمس في الأذن والتسلل إلى الوجدان بهدوء لتكبر صورة حضرموت مع الأيام وعلى هذه التحريضية الشعرية ، إلا أن اللغة التحذيرية حاضرة إذْ لجأ إليها الديوان للكشف عن خطورة البغاة الطغاة الذين لا أمان لهم، والعتبة التي تضمنتها الصفحة الرابعة والمختارة من قصيدة(اللقاء الأخير مع بو موسى الاشعري) تُبين هذه اللغة التحذيرية وهي على النحو الاتي :
مافهْمت الأُمّة وخلّوني فحس يُمْنَى على يُسرى ، كذا في زاوية يتفرّجون وبعضهم عاده رفس ظهري .. وخلّوا همتي متهاوية حذّرت في حذّرت من ميدع ملس لكن مافهموا ... وهاهي خاوية
والمتمعّن في نهاية العتبة يجد علامة لافتة وهي (سعيد الجريري) والسؤال لماذا يكرر الديوان هذه العلامة بعد نهاية هذه الأبيات المختارة ؟ ربما لهذه الأبيات مكانة خاصة ولذا حرص الديوان على تكرارها في الصفحة الرابعة وعلى إشهار علامة (سعيد الجريري) بعد نهايتها، وربما كانت الذات الشعرية ترغب في أن تعيد الاعتبار لنفسها إزاء تلك الأطراف التي أهملتها وعاملتها بقسوة، ووصلت إلى حد رفسها ، ولذا جاءت بعض عنوانات القصائد من واقع الخيبة والحسرة وصدى للذات المقهورة من اللامبالاة التي واجهتها من بني جلدتها ومن الجرذان البشرية وكلاب باحمران التي تفرعنت ونهشت من يعترضها .
إن الذات الشعرية بعد أن عرفت حقيقة البغاة مثلما جسدتها العتبة الخاصة بالصفحة الرابعة حرصت الذات نفسها على أن يكون القارئ على وعي بهذه الحقيقة ايضاً فاختارت له أبياتاً في العتبة نفسها من قصيدة (اللقاء الأخير مع بو موسى الأشعري) فضلاً عن روح القصيدة نفسها المبثوث في نسيج القصائد الآتية :(يَغْوَلَه في يَغْوَلَه) ، (الخانكي) ، (عبود) ، (عطونا عدن) ،( ميمي كما ويوي) ،(صوابي غابية) ،(قليل الخير) ،(بغى بايدخل التاريخ)؛ ولأن الذات الشعرية ترى أن البغاة من أمثال ( قليل الخير) لا يستحقون دخول التاريخ رأت من المناسب أن تُخلد رموزها الشعرية؛ فكان من نصيب هؤلاء الشعراء أنهم استقروا في العتبة الحائزة على الرقم خمسة والرقم خمسة شبيه بالشكل الدائري وهو شكل وُسِمَ في بعض مراحل التفكير البشري بالكمال، مما يعزز فكرة الخلود لهؤلاء الشعراء الذين ربط بينهم المصير الواحد وهو مأساة حضرموت.
وهؤلاء الشعراء هم : بوريّا ، عبدالله بن سبيتي ، حسين أبوبكر المحضار ، أحمد عبود باوزير ، سعيد فرج باحريز ، ويمكن أن يمتد القارئ المنحاز إلى التأويل بفكرة المصير المشترك إلى الرسم الإملائي الخاص بهؤلاء الشعراء، وسيجد أن أسماؤهم تتضمن حروفاً لاتصل مابعدها مثل الراء والواو في ( بوريّا ) والراء في المحضار، ومن السهل متابعة هذه الحروف في بقية الأسماء المذكورة، وتسمّى هذه الحروف التي لاتصل مابعدها بحروف الرمح من باب المجاز وليس من باب الحقيقة والاصطلاح اللغوي، ولعل هذا التضمين لحروف الرمح يسوغ وجودهم ويرفع درجة شعور هذه الذوات الشعرية برفض الظلم وأشكال الاستبداد الخفية والظاهرة، ويمكن أن يلحق القارئ علامة (سعيد الجريري) بهذه الأسماء، وسيرى أنها حظيت بالنصيب الأكبر من حروف الرمح، ولعل في ذلك دلالة على تصاعد إحساس الذات بالرفض للظلم الواقع عليها وضرورة التشهير به، ومن المفارقة أن ظلم ذوي القُرْبَى أشدُّ مضاضةً من الخصوم، وصورة هذه الحالة على الهيئة الآتية :
ولعل دالّ الرفس في البيت يجعل فكرة حروف الرمح تتسلل في هذه الأجواء بوصفها ردة فعل من الطرف المظلوم المتشوق إلى الخروج من زمن الظلم والذل والخنوع .
وإذا ما انتقل القارئ إلى الواجهة الخلفية للغلاف سيجد الديوان يتفنّن في التشكيلات الخطية فيعيد تشكيل البيت الأول من قصيدة ( بخيتة بنت بوريّا ) بخط يوسم بالخط الديواني ومعنى ذلك أن، في هذا الخط، الأبهةَ والمقامَ الرفيع تكريماً للشعر وإعطاء (بخيتة) مكانة عالية، واللافت في هذا الخط لونه الذي اتشح بمزيج من اللونين البُنّي والأسود وإن كان المتأمل للون يجد أن الأسود هو الغالب وهذا يدل على الجوع ويوائم حالة ( بخيتة ) التي اقتصر حلمها في الحياة على البحث عن قطعة خبز. إنها حياة سوداء . ولم يكتف الديوان بذلك بل ربط التشكيل الخطي الخاص بالبيت الأول من قصيدة ( بخيتة بنت بوريا ) بواحد من التشكيلات الخطية الموجودة في الواجهة الخلفية للغلاف وهذه التشكيلات الشبيهة بالكائن البحري الحلزوني وقد اسعفت مفردة خرج مصمم التشكيلات الخطية في أن يكون التشكيل على هيئة هذا الكائن البحري ولعل تكرار هذه التشكيلة الخطية اثنين واربعين مرة في كل من وجهي الغلاف علامة دالة على كثرة الخروج المتكرر ل ( بخيتة ) وهو خروج لا يحركه سوى الجوع الذي التف على ( بخيتة ) وحاصرها على هيئة هذه التشكيلة الحلزونية التي توحي أيضاً بالتيه والضياع .
وإذا ما واصل القارئ متابعة العلامات وتأمل الصورة الفوتوغرافية القارة في المطوية الخاصة بواجهة الغلاف الخلفية سيرى وجهاً يبدو عليه الحيرة والقلق وربما ضم اليد اليسرى وإسناد الوجه عليها ينم عن توتر وترقب ويعزز جمالية المخالفة، أما الزّي الذي اختير للصورة فهو زي متخفف من الرسميات الثقيلة وقريب من أجواء المكان المُعتنى به من الذات الشعرية ولعل لبس العمامة على الكتف في الصورة المعنية قرّب زي الصورة من الزي الشعبي، وقد بادر الديوان في المطوية نفسها إلى مد القارئ بمعلومات عن المؤلف فسرت لنا المزايا التي انماز بها الديوان . فالمؤلف ليس دخيلاً على الكتابة النقدية ولا على الشعر الشعبي فهو مولع بالشعر الشعبي المُغنى منذ صغره وشدا به منذ سبعينيات القرن الماضي وعلى قلة هذا الشعر إلا أنه وجد من يعتني به ويلحنه ويحسب له أن عبد الرب إدريس من الذين لحّن نصوصاً من هذا الشعر، وهذا يدل على الشعرية الرفيعة لهذا الشعر وقدرة على إغواء المتلقي الملحنّ وليس المتذوق للشعر حسب . وهذه الشعرية الرفيعة نفسها يجدها المرء حاضرة في هذا الديوان الذي سجل علامات فارقة أعادت للشعر الشعبي بهاءه وألقه بعد أن كان هذا الألق والبهاء مغتالَيْن بمال السلطة .
إن ثقافة المؤلف واجتراحه الكتابة النقدية والشعرية كما بينت المطوية المعنية نفسها تدل على أن الشاعر وظف هذه الثقافة باقتدار للاعتناء بالشعر الشعبي وإعادة الاعتبار له بوصفه شعراً يلهج بهمّ البسطاء ويصور معاناتهم ولا يتحول إلى خادم ذليل للسلطة ويفصل على حسب هواها .
أما عن شكل الديوان وطوله اللافت فيمكن أن يفسر من قبل القارئ بأن الذات الشعرية تريد أن تمنح ديوانها هيبة وسمواً وتعلن عن وجودها أمام الآخر الذي تطاول على هذا الوجود فتواجهه بكل كبرياء وعزة وتكشف ألاعيبه وتعرِّيه أمام سدنته وخُدَّامه وتنتصر لنفسها أمام أنصارها وأحبابها بالسخرية الخفيفة والدُّعابة الماكرة للتقليل من شأنه . من: د. عبده عبدالله بن بدر *جامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا كلية الآداب