إسرائيل تسعى لفرض واقع سياسي جديد في سوريا يقوم على التفكيك الطائفي بما يخدم مصالحها الإستراتيجية والأمنية في المنطقة. *- شبوة برس - العرب ما قاله وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش مؤخرا لم يكن زلة لسان، بل إعلانا واضحا لخارطة طريق إسرائيلية تتجاوز حدود المواجهة العسكرية إلى مشروع سياسي شامل يرسم مستقبل المنطقة.
في كلمته بمناسبة "يوم الذكرى" في التاسع والعشرين من أبريل الماضي، وضع الرجل الشروط الثلاثة لإنهاء الحرب الإسرائيلية المستمرة: لا سلاح نوويا لإيران، لا وجود لحزب الله، وسوريا... دولة مفككة. نعم، بهذه الصراحة.
هذا الموقف لم يكن مفاجئا تماما، لكنه لأول مرة يُعرض بهذا الوضوح من شخصية رفيعة في حكومة نتنياهو اليمينية، التي تدير صراعها على عدة جبهات، وتراهن على الحرب كوسيلة لتأمين مكاسب سياسية داخلية تسبق انتخابات 2026.
لا نهاية للعمليات العسكرية إذا، ما دامت "الأهداف الكبرى" قائمة. ويبدو أن سوريا تحتل موقعا محوريا ضمن هذه الأهداف.
تفكيك سوريا ليس شعارا جديدا في عقل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. منذ بداية الصراع السوري، وجدت إسرائيل في الفوضى فرصة ذهبية لإضعاف عدو كلاسيكي، وضرب نفوذ إيران، وقطع خطوط الإمداد إلى حزب الله، والأهم فرض واقع جيوسياسي جديد يضمن أمنها لعقود.
الجديد اليوم هو أن المشروع خرج إلى العلن، وبات جزءا معلنا من الحسابات الإسرائيلية الرسمية.
تترافق هذه التصريحات مع مؤشرات ميدانية تؤكد النية الإسرائيلية لتفجير الداخل السوري من جديد. توترات طائفية اندلعت في جرمانا وصحنايا مؤخرا، إثر انتشار تسجيلات صوتية مسيئة، سرعان ما تحولت إلى اشتباكات، حملت طابعا درزيا – سنيا خطيرا.
إسرائيل سارعت إلى تقديم نفسها ك"حامية للأقليات"، وهو خطاب قديم متجدد تحاول من خلاله التسلل سياسيا إلى الداخل السوري المفكك، والضغط على الإدارة الجديدة في دمشق، التي يقودها الرئيس أحمد الشرع.
الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على محيط دمشق، وبالتحديد في منطقة صحنايا، تندرج في هذا السياق.
لم تعد الغارات تبرر بملاحقة قوافل حزب الله أو مخازن أسلحة، بل ب"منع اعتداءات على الدروز". إنها صيغة جديدة للتدخل العسكري تحت لافتة إنسانية، تخفي خلفها مشروعا لتقسيم سوريا، وترسيخ كانتونات طائفية ترضي مصالح تل أبيب الإستراتيجية.
تاريخيا، أعطت اتفاقية فك الاشتباك مع حافظ الأسد في 1974 إسرائيل نوعا من الطمأنينة الحدودية.
اليوم، تغيرت المعادلة. سوريا الأسد لم تعد موجودة، ونظام الشرع في طور التثبيت، وتحاول إسرائيل فرض شروطها الجديدة على من سيحكم سوريا المستقبل.
من هنا، تعمل على "تفخيخ" الداخل السوري بخطابات انفصالية، وتحريض الأقليات على الدولة المركزية.
ما يجري في الجنوب، من محاولات لإقامة منطقة منزوعة السلاح في القنيطرة ودرعا والسويداء، ليس إلا مقدمة لمشروع المنطقة العازلة التي تريد إسرائيل من خلالها تمديد نفوذها إلى ما بعد الجولان، وربما ضم جبل الشيخ لاحقا ضمن رؤيتها التوسعية لدولة "إسرائيل الكبرى". هذه ليست تكهنات، بل تصريحات صريحة لرئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه.
في الشمال، يطل الأكراد مجددا بمشروع "لا مركزية ديمقراطية" كما ورد في بيان "المؤتمر الوطني الكردي الموحد" الذي عقد مؤخرا في القامشلي. الدولة السورية رفضت هذا الطرح تماما، واعتبرته بداية لتقسيم البلاد. إسرائيل من جهتها، تجد في هذه الطروحات أرضية ممتازة للعب على أوتار الفيدرالية، عبر دعم سياسي غير معلن، يهدف إلى خلق واقع إداري وأمني متشظ يسهل التحكم فيه لاحقا.
ما قاله وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش مؤخرا لم يكن زلة لسان، بل إعلانا واضحا لخارطة طريق إسرائيلية تتجاوز حدود المواجهة العسكرية إلى مشروع سياسي شامل
وما بين الساحل والجنوب، تطل طهران برأسها مجددا. ظهور رامي مخلوف الأخير، وحديثه عن "فتى الساحل"، يفتح الباب أمام سيناريوهات طائفية مقلقة. فإيران التي تعتبر سقوط الأسد ضربة إستراتيجية، تسعى لإعادة تموضعها من بوابة العلويين والشيعة في الساحل السوري.
وبين النفوذ الإيراني والضغوط الإسرائيلية والتوترات التركية، تبدو سوريا وكأنها ساحة صراع إقليمي مفتوحة على جميع الاحتمالات.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يخف موقفه، واتهم إسرائيل صراحة بمحاولة "نقل النار إلى سوريا".
هذه التصريحات، وإن كانت تحمل بعدا تضامنيا مع دمشق الجديدة، إلا أنها تعكس أيضا حجم التنافس التركي – الإسرائيلي في الساحة السورية. فأنقرة تعتبر النظام الجديد حليفا إستراتيجيا، وتعارض أي ترتيبات دولية تستثنيها أو تضعف نفوذها الحدودي.
في خضم كل هذا، تبقى مسألة إعادة الإعمار ورفع الحصار الدولي عن سوريا، بمثابة مفتاح الاستقرار الحقيقي. من دون دعم دولي صريح لبناء دولة موحدة جامعة، سيظل المشروع التفتيتي حاضرا، وستبقى إسرائيل تتحرك في المساحات الرمادية، مستفيدة من هشاشة الداخل السوري، وضعف الإجماع الدولي حول مستقبل البلاد.
الرهان اليوم ليس فقط على مدى قدرة النظام الجديد في دمشق على ضبط الوضع الأمني، بل على إرادة إقليمية ودولية تحمي وحدة سوريا فعليا، لا لفظيا. فكل تأخير في رفع العقوبات، وكل تباطؤ في إعطاء شرعية كاملة للرئاسة السورية الجديدة، هو ثغرة تستخدم لتقوية سيناريو التقسيم.
باختصار، إسرائيل لا تخوض حربا حدودية فقط، بل تدير مشروعا سياسيا طويل الأمد عنوانه: سوريا الضعيفة ضمانة لأمن إسرائيل. وإذا لم تواجه هذه الرؤية بحزم، فإن معركة "الخرائط" قد تحسم في غرف العمليات بدلا من طاولات التفاوض.