حميد عقبي رسم الفنان الأمريكي براين كارلسون لوحته الشهيرة "بيتا اليمن" ليخلد ضحايا الحرب والصراعات في اليمن. وتحدث وكتب عنها مرات كثيرة، حيث كلما تحين مناسبة حول الحرب والصراعات في اليمن، يجدد براين رأيه بأن هذه الحروب، وأغلب الحروب عمومًا، لا يمكن أن تنتهي إلا بوقف بيع الأسلحة الأمريكية للأطراف المتحاربة. فالسلام، من وجهة نظره، لا يمكن أن يحل في ظل وجود السلاح وداعمي الهلاك. يرى براين أن الأطفال والنساء والمدنيين هم من يذوقون ألم الجوع والموت، وهم وحدهم من يستحقون الشفقة الحقيقية. أطلق على لوحته اسم "بيتا"، وهي كلمة إيطالية تعني (الشفقة أو الرحمة)، وترمز في الفن الكلاسيكي إلى مشهد مريم العذراء وهي تحتضن جسد المسيح بعد صلبه — مشهد شهير يجسد أقصى درجات الحزن والحنان الإنساني المكلوم. عندما نتأمل هذا العمل الأيقوني، سنلمس هالة القداسة اللامحدودة التي يحيط بها براين الأم والطفل، في لحظة تتجاوز حدود الفن، لتغدو صلاة صامتة من أجل الرحمة والضمير الإنساني. في لوحة "بيتا اليمن"، يتجسد أحد أعنف المشاهد الإنسانية قسوةً وأكثرها صدقًا، حيث تحضر المأساة بكل تفاصيلها الموجعة دون مبالغة أو تكلف. براين كارلسون رسم هنا امرأة وطفلًا، لقطة شاهدها في خبر قصير عن الحرب اليمنية، التقط شظايا شعب ممزق بالجوع والموت، وضميرًا عالميًا يتمادى في الصمت ويلتحف العجز. من الوهلة الأولى، تفرض اللوحة على المشاهد حالة من السكون العميق الممزوج بالانقباض؛ فاللون الأسود يهيمن على الخلفية بشكل كاسح، وكأن العدم يبتلع المكان والزمان معًا. حرر لوحته من بيئة محددة، وجعلها في شكل تفاصيل مشهدية مشتتة؛ مما يدفع كل تركيزنا لينساق نحو مركز اللوحة: الأم والطفل. التكوين البصري: براين يضع الأم في مركز اللوحة، تحتضن طفلها النحيل كمن يحتضن الحياة بأكملها. ينحني جسد الأم فوق الطفل بانسيابية تحاكي منحنيات الألم، وتنساب الخطوط في اتجاه واحد نحو حضنها، مما يخلق إحساسًا قويًا بالاحتواء والذوبان. جسد الطفل الهزيل المسجّى في حضنها يختصر قصة المجاعة والهلاك: أطراف نحيلة، عظام بارزة، وشحوب مطبق. ما يلفت الانتباه أن براين يستخدم هنا بناءً هرميًا للتكوين، حيث تبدأ قاعدة الهرم من قدمي الأم والطفل وتتسع صعودًا مع عباءتها، مما يمكن الفنان من خلق مركز ثقل بصري ينقل إحساسًا بالثبات والانهيار معًا، لعب كثيرًا على ثنائيات متناقضة فنسج قصيدة مفجعة وصادمة. استخدام اللون: الألوان في اللوحة محدودة جدًا ومدروسة بعناية. الأسود الكثيف يمكن أن نفهمه كرمز للحداد والموت، بينما يتخلله الأزرق المزهر والأبيض الناصع في طرف عباءة الأم وكأنهما شظايا أمل مقاوم، تذكير بأن بين الحطام ما زالت هناك بقايا حياة صغيرة تقاوم الموت. لون جسد الطفل لا يقتصر على درجات الشحوب الطبيعي، لكنه يظهر وكأنه ممزوج بضوء باهت، بين الأبيض المريض والرمادي البنفسجي، مما أضفى عليه طابعًا شبه روحي، وكأنه ينتقل من عالم الأحياء إلى عالم الأرواح. كما أن الأحمر الذي يظهر في شعر الطفل وملامح جسده النحيل يوحي بالجراح الصغيرة المفتوحة، لكنه أيضًا يستدعي صورة الدم الذي لا يزال ساخنًا، دلالة على أن الموت حدث يومي حيّ جارٍ. الحركة والإيقاع: لا توجد حركة ديناميكية سريعة في اللوحة؛ كل شيء غارق في السكون. ولكن ثمة نبض خفي يولده تقاطع الخطوط وانحناءات الجسدين، مما يمنح المشهد إيقاعًا داخليًا مؤلمًا، كأن القلب نفسه يتباطأ تحت وطأة فداحة الخسارة. تعبير الأم غامض — وجهها مغطى — لكن الحركة الانسيابية لجسدها فوق طفلها تُغني عن آلاف الكلمات. لا بكاء، لا عويل، فقط احتضان مطلق، صامت، راسخ. الأبعاد الرمزية: براين يختار عنوان "بيتا" عن قصد، مستحضرًا أحد أقوى الرموز في الفن المسيحي الغربي: مشهد العذراء وهي تحتضن جسد المسيح المصلوب. في "بيتا اليمن"، العذراء ليست مريم وحدها، بل كل أم في اليمن وسوريا وفلسطين وأفريقيا. الطفل هنا لا يمثل طفلًا بعينه، بل هو تمثّل خالد للطفولة المذبوحة في كل الحروب. الأم لا تمثل امرأة واحدة، بل هي كل الأمهات، أولئك اللواتي يُجبرن على وداع أبنائهن قتلى تحت أنقاض الصراعات العابثة، أو يحتضنهم في النفس الأخير كما فعلت العذراء عند نزول طفلها من الصليب. براين ليس ذلك الفنان الذي يحصر الألم في هوية دينية أو قومية، بل يحرر ذاته وروحه، لذلك نجده في كل عمل يجعل الفجيعة إنسانية كونية. هكذا، تتحول اللوحة إلى صرخة روحية موجهة إلى ضمير العالم. الرؤية الفلسفية: من خلال هذه اللوحة، ينتقد براين كارلسون ضمنيًا السياسة الدولية التي تتاجر بالحروب والمآسي، ويندد بتواطؤ القوى العظمى في استمرار مآسي الشعوب المنكوبة. هو لا يقدم لوحته كمنتج فاخر للبيع في قاعات فاخرة أو مزادات متخمة، بل يصر أن تكون جزءًا من الشارع، من المسيرات، لأن الجرح لا يحتاج إلى ديكور، بل يحتاج إلى مواجهة شجاعة مزودة بالفكر والجمال. براين يصرح في أكثر من مناسبة أن "الفن لا يجب أن يتأنق أمام الموت"، ولذلك، يحمل عمله خشونة صادقة، كأن الفرشاة تخدش القماش وتخدش أرواحنا معه. ختامًا: "بيتا اليمن" أعظم من مجرد لوحة تنديد سياسي، نشعر أنها صرخة حب جارحة. إنها تذكير مرير ومؤلم بأن كل طفل جائع هو مأساة كونية، وأن كل أم تبكي تحت الرماد هي صلاة صامتة من أجل مستقبل أقل قسوة. براين كارلسون يزرع بهذه اللوحة وخزة ضمير في صدر كل مشاهد، محاولة عنيدة لانتشال شيء من الإنسانية الغارقة في سبات الجريمة والصمت.