في الساعات الأولى من فجر الخميس، أغمض الشاعر اليمني والباحث في الفلسفة ياسين البكالي عينيه للمرة الأخيرة، بعد صراع مرير مع المرض، لتنطوي بوفاته صفحة من صفحات الشعر اليمني المعاصر، ويغيب صوت طالما تعايش مع الوجع، وتلبّس الفلسفة، وتغنّى بالخذلان كأنّه وطنه. بهدوء، كما يعيش ويرحل العِظَام والمؤثرون الحقيقيون، توفي البكالي، الذي وُلد عام 1977 في مديرية مزهر بمحافظة ريمة، عن عمر ناهز 48 عامًا، متأثرًا بمضاعفات صحية ناتجة عن إصابته بداء السكري، في أحد مستشفيات العاصمة صنعاء.
اعتاد ياسين إخفاء آلامه ومعاناته عن محيطه وأصدقائه، مكتفيًا بالانعزال والصمت، وهو ما جعل نبأ وفاته صادمًا ومباغتًا حتى للمقربين منه، الذين فوجئوا برحيله دون وداع أو مقدمات تُنذر بالفقد القريب، سوى نبوءات قصائده التي لم يقرأها الكثير إلا بعد أن ترجل الشاعر.
وإلى جانب كونه شاعرًا ومؤثرًا في المشهد الثقافي اليمني، كان البكالي صوتًا مميزًا تجلّى في قصيدةٍ مشبعةٍ بالفلسفة، وتعبير صوفي عن الإنسان ومعاناته، وهو - كما يصفه الناس- تجسيدٌ لعزة النفس التي جعلته ينأى بنفسه وقصيدته عن هاوية التفاهة أو تمجيد الطغاة رغم فاقته وحاجته.
عاش الشاعر البكالي فصول حياته متنقلًا بين عذابات الريف وقسوة المدينة، وصار أحد أبرز من كتبوا الشعر بمرارة البسطاء ووعي الفلاسفة، فخلّد اسمه في سجل الأدب اليمني كأحد أبرز شعراء اليمن في هذا العصر.
- المولد والنشأة وبدايات التكوين: وُلد ياسين محمد البكالي عام 1977 في منطقة "بكال" بمديرية مزهر التابعة لمحافظة ريمة، في بيئةٍ ريفيةٍ قاسية شكّلت وعيه الأول، وغرست في داخله الإحساس المبكر بالخذلان، كما شكّلت اللبنات الأولى لشخصيته الشعرية المتأملة والمنكسرة.
عاش طفولةً مثقلةً بالأوجاع، واجه فيها شقاء المكان وصفعات الحياة، وانخرط مبكرًا في عالم الحرف والقراءة، وهو ما ساعد على تشكيل خلفيته الفكرية والثقافية، حيث قرأ الفلسفة باكرًا، ووجد في الكتب عزاءً مؤقتًا عن جراح الطفولة المبكرة.
فَقَد والدته في سن المراهقة، وكان ذلك الحدث صادمًا ومؤلمًا، شكّل منعطفًا حادًا في حياته، وخلّف في داخله زوابع من الحزن، جعلته ينزوي أكثر، ويجد في القصيدة أداةً للبوح، ووسيلةً لمقاومة الوحدة والموت والافتقاد.
درس الفلسفة في جامعة صنعاء وتخرج منها عام 2000، وهناك نضجت تجربته الفكرية، وتوسّعت قراءاته، وبدأت ملامح مشروعه الشعري تتبلور أكثر، حيث مزج بين الحس الصوفي العميق، والبحث الفلسفي الوجودي، والتجربة الذاتية الوجيعة.
خلال دراسته الجامعية، كان البكالي قارئًا نهمًا، وشاعرًا دائم التشكل، يُراقب الحياة من زواياها الغامضة، ويعيد كتابتها في نصوصه بإحساسٍ شديد الحساسية، ووعيٍ مأزوم بالوجود، جعله لاحقًا واحدًا من أكثر شعراء اليمن فرادةً.
- ملامح تجربته الشعرية الفلسفية: تجلّت فلسفة البكالي في نصوصه من خلال المزج العميق بين الوجدان والرمز، إذ كان الشعر عنده نوعًا من التنسك الصوفي، ومحاولةً مستمرة لإدراك المعنى في عالم غائم، قاسٍ، يمتلئ بالفقد، ولا يمنح الشاعر غير العزلة والصمت.
في قصائده، تتكرر رموز الخيبة، والحرمان، وفقد الأمان، وتتوزع الصور الشعرية على فضاءاتٍ مشبعةٍ بالألم، فيما يتبدّى الحرف ككائنٍ يبحث عن خلاص، يحاول أن يجد طريقه وسط كومة من الضياع الداخلي والخذلان الوجودي.
كتب البكالي ذات مرة أن "الشعر صيرورة الكلمة المندسة بين دقات القلب والابتسامة المتطايرة في طرقات الهوى والجوى، والندى المستلقي على كومة أمل لم يبلغ السكينة بعد"، وهي رؤية تختصر فلسفته الشعرية وتُضيء عالمه الرمزي واللغوي المتفرد.
وقد رثى الشاعر نفسه في أكثر من قصيدة، ولكأنه - لفرط ما عاش من الخذلان في حياته- كان يخشى ألا يرثاه أحد بعد موته. قال في واحدة من قصائده: "سأموتُ بعدَ قليلِ فانتظروا لكيْ أبكِي عليّا
وقِفوا جِواري هادئِينَ دعوا الحروفَ تُحيطُ بي ولسوفَ آخذُها إلى ربّي أقولُ لهُ : إلهي العفوَ هذا ما لديّا"
من أبرز أعماله ديوان "الآهل بالفقد"، الذي عكس فيه فلسفة الموت والانكسار، وجعل من الألم محورًا وجوديًا للقصيدة، انطلاقًا من رؤيته أن اليمني محاطٌ بالفقد من كل جانب، من لقمة العيش حتى الهوية والانتماء، في بيئة تعج بالخذلان.
بلغت مجموعاته الشعرية 12 مجموعة، إضافة إلى رواية واحدة، شكّلت بمجملها مكتبةً شخصيةً مليئة بالتأمل، ومفتوحةً على الأسئلة الوجودية، حيث اختار أن يكتب عن الأشياء المنسية، ويُعلي من شأن التفاصيل التي لا يُصغي لها أحد.
- الوطن والهوية في شعره: كجرح يأبى أن يندمل، كان اليمن حاضرًا دائمًا عند ياسين البكالي. بلدٌ يمتلئ بالتناقضات، وتطحنه الحروب والخيبات المتكررة، لذا كان الحزن هو القاعدة التي بُنيت عليها كينونة البكالي الشعرية.
قال مرة في أحد حواراته: "نحن في وطن يفقد كل وسائل الحياة، بدءًا بلقمة العيش، وصولًا إلى فقد الهوية"، وهو قولٌ يلخّص نظرته القاسية والواقعية إلى الواقع المرير الذي تعيشه البلاد حاليًا، حيث كل شيء محاطٌ بالسقوط والانحدار والفقد المتعدد.
رأى في اليمني كائنًا مأزومًا، يبحث عن طمأنينة مفقودة، ويحاول النجاة في بيئة باعثة على الموت، فكتب عن ذلك الإنسان المهمّش، الجائع للحياة والحرية، وصاغ معاناته بلغةٍ تنبض بالعاطفة والفكر وشيء من التمرد.
ولطالما اعتبر البكالي، من خلال قصائده وكتاباته وحواراته، أن الحزن يتمحور في كينونة اليمني كلازمةٍ وجوديةٍ فرضتها طبيعة الصراع الذي تحفل به البيئة اليمنية الحافلة بالصراعات والانكسارات.
- الرحيل والصدى في ذاكرة اليمنيين: فجّر رحيل البكالي المفاجئ موجة من الحزن في الأوساط الشعبية والثقافية اليمنية والعربية، حيث عبّر أدباء وكتّاب وشعراء عن صدمتهم لغياب صوت شعري فريد، لم يأخذ حقه من الاحتفاء، ولم تُسلّط الأضواء عليه رغم ما قدّمه من تجربة شعرية استثنائية.
في نعيها الشاعر البكالي، قالت وزارة الثقافة اليمنية إن "اليمن فقدت أحد أبرز الأصوات الشعرية في العصر الحديث، شاعراً حمل همّ الكلمة، وسكنته القضايا الوطنية والإنسانية، فصاغها بلغة تنبض بالجمال، وتكتنز بالتجربة، وتفيض بالمفارقة الوجدانية، والرمز الوطني الأصيل".
وأشارت الوزارة إلى أن الشاعر ياسين البكالي "كتب من القلب، للوطن، والإنسان، والوجع، وكان شعره مرآة للذات اليمنية وهي تتقلب بين الحلم والانكسار، وبين الصبر والمقاومة".
وخلال اليومين الماضيين، خيَّم الحزن والأسف على مواقع التواصل الاجتماعية عقب إعلان وفاة الشاعر البكالي، حيث نعاه المئات من السياسيين والمثقفين والناشطين اليمنيين والعرب، باعتباره شاعرًا يمنيًا كتب قصائده بدماء جروحه وأنين معاناته.
وأمام هذا السجل الثقافي الكبير الذي خلَّده الراحل ياسين البكالي، سيظل اسمه حاضرًا في ذاكرة الشعر لأجيال، كواحدٍ من أكثر الأصوات الشعرية صدقًا وعمقًا وارتباطًا بجراح الإنسان في بلادٍ منكوبة بالحروب والأزمات.