ليس سهلا تخلي رجل تربى وعاش عمره في محضن كبير تشكل فيه وعيه ووجدانه، وانفتحت مداركه وصار بعضا من شخصيته وروحه وتاريخه ودوال حضوره. الأمر مرتبط بأشواق وحنين ووشائج وعلائق روحية وإنسانية وجودية من الصعب نسيانها أو التعامل معها بإنكار ورميها ببساطة لحظة حنق أو تذمر أو عند نشوب خلاف. لم يكن يوما على الحافة بل في قلب الإعتراك. شارك في مؤتمر التأسيس الأول كعضو مؤسس وهو الشاب اليافع خريج الجامعة المزهو بمشاركته الباكرة رفقة الآباء المؤسسين. ولهذا بقي لديه الإصلاح ذلك التنظيم الشاب الذي يكبر في الفعل والحضور دون أن يهرم أو يشيخ. اقتربت من دوائر صنع القرار داخل الحزب بما يكفي كي أعرف الكثير مما ألوم عليه وأعذر. ولقد ابتعدت فترة عن الحياة التنظيمية والنشاط الداخلي لكني لم أنقطع عن العمل الحزبي العام ولم أتوقف عن السير كإصلاحي صميم. التحزب في عوالمنا ميراث عقائدي صعب. أتذكر كاتبا مرموقا في لحظات خاصة تحدث بشجن ذابح عن شخصيات في التنظيم الوحدوي الناصري كان لهم عليه تأثير وسلطان، وبرغم وجع الترك وألم نكران رفاق الدرب لم يتمالك نفسه عن الإجهاش بأسى دامع. تمنيت أن أكون متخففا إلى درجة أن ألقي بالرجل الذي كنته ورائي لأعدو جديدا خفيفا بلا ثقالات، ولا أزمة ذاكرة، ولا درب من أشجان ومواجيد وأخوة وحب، ولا رحلة بحث متواصلة عن الكينونة والمعنى والوجود الحي المنسجم المتماسك المتآلف المتواد والمتآزر. تتلقاك المدائن بحب وترحاب. كل ما خطه قلمك يشرق ويزهر في الوجوه والوجهات، كلماتك تقابلك هنا وهناك، تسير معك، ترافق خطوك، تعيد إرشادك في لحظات التيه والتخبط، وتواصل فعلها بقدر ما فيها من طاقة الحياة. لم أمتن لشيء داخل هذا التنظيم العظيم كما امتن للمحبة الغامرة وللحياة الوجدانية الخصبة الغنية، وللروابط الإنسانية الأخوية المتينة، ولنماذج ورموز عاشوا العظمة بصمت وتواضع وبساطة متناهية. كما أشهد لهذا الحزب بالقوة والحيوية والصلابة والقدرة التنظيمية العالية، والتجذر العميق في قلب المجتمع، والروح الفدائية الواهبة، والسلوك المنضبط، والديناميكية الفائقة، والاستعداد الدائم للتطور والتغيير، والقابلية لاستيعاب الجديد والعمل المشترك وتجاوز مورثات الصراع، والمرونة وعدم التصلب والتخشب، والحركية الغالبة والدائبة. أقر أن مشاكل الإصلاح ربما تكون قيادية ومنهجية وإدارية بدرجة أساسية. لم أكن يوما إصلاحيا صالحا بمعايير رجل التنظيم وبمقتضى اللوائح والأنظمة والتقاليد الصارمة. هذه المواضعات الشكلية لا تشهد لي ولا تمنحني صفة الالتزام، لكن ما أنا على يقين منه أني عشت إصلاحيا بما يكفي لكي أحب الإصلاح والإصلاحيين، وأباهي بكوني إصلاحيا على العهد كثير المحبة والوفاء. وهنا أرجو من الأعزاء الذين يجلدون ذواتهم وإصلاحيّتهم السمحاء أن يقرأوني بتسامح وبصيرة وبروح قادرة على تحويل هذا الماضي إلى طاقة تجاوز واندفاع للأمام. يخطئ في حق نفسه من ينظر إلى هذا المسار كتاريخ يستحق الوصم ويستدعي التبرؤ كما لو أنه عبء مديد. الوفاء قيمة نضالية، فيض محبة، هوى أصيل وشجن موصول غير منبت، إشعاع أخاذ لا يتنكر للمنابع ولا يجحد الروافد. هو في البدء وفاء الروح للروح، أن تكون وفياً لذاتك، لأجمل وأنبل ما فيك، وهو ما يعني وصولك إلى درجة من التحقق والتعين والشعور بالحضور الكبير، استحقاقك صفة أنك أنت. الوفاء لله يبدأ من معاينة الذات ومدار السير إليه سبحانه، ويتأسس على مشاهدة المنة ومعاينة التقصير – بحسب ابن القيم. وأنت في الكون ذات مجتمعة من كثير، مجمع أسرار وأشواق، هبة الخالق ومرآة الخلائق. ومن لحظة وفية عالية الحساسية ينبثق هذا الفيض الغامر المحتفل بالوجود. أنا الآن ذات مأخوذة تتقرى تعابير الروح، تتلمس أشجانها، تصغي إلى أضواء حبيبة تنداح من عوالم بهية تتلامع في القلب والعقل، تنسرب في مجرى الدم، توقظ في الحنايا ألف نبع ونبع. أنا ها هنا ابن الحنين، ابن هذه الروح الفياضة. أنا ها هنا كلمة حب حاضرة العضوية، شكر حي لكل من عبروا وأقاموا، لكل روح بذرت ضوءها في الشغاف، لكل هؤلاء الممسكين بإهاب النور، لكل أولئك الذين زرعوا وتعهدوا البذار حتى أثمرت هذا المد الشفيف. نحن هنا كدّ الآباء الكبار، اعتراف حاشد بالفضل، مهرجان وفاء يحتفي بالقيمة وقد أضحت مساراً من بهاء وعطاء. يؤكد الإصلاح مدى حيويته من خلال هذا الزخم الشبابي ويعكس بجلاء فعالية حركية في مختلف قطاعاته التنظيمية. يحتفل الإصلاح بالذكرى الخامسة والثلاثين لتأسيسه وهو واقف في الميدان مدافعا عن الجمهورية والشرعية، ومقاوما الانقلاب الحوثي، ومكافحا في سبيل استعادة الدولة، وداعيا للاصطفاف الوطني من أجل الخلاص، مقدما خيرة رجالاته وكوادره في جبهات العز والشرف، مواصلا التنافس على الفداء والتضحية، متحملا عبء الكبار ومكافحا نزق الصغار. ..... من شجن مستعاد.