رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    إصابة طفلين بانفجار لغم من مخلفات مليشيا الحوثي الإرهابية بشبوة    في اليوم 201 لحرب الإبادة على غزة.. 34262 شهيدا و 77229 جريحا    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    رئيس الاتحادين اليمني والعربي للألعاب المائية يحضر بطولة كأس مصر للسباحة في الإسكندرية    عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية المطلق يقدم العزاء في وفاة الشيخ الزنداني    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    توجيهات بالاستعداد القتالي في حضرموت وتحركات لعضو مجلس القيادة الرئاسي    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    خبير أرصاد يحذر: منخفض الهدير في اليمن ليس الأول ولن يكون الأخير (فيديو)    أول قيادي مؤتمري موالي للحوثيين بصنعاء يعزي عائلة الشيخ "الزنداني" في وفاته    تغير جديد في أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    ترتيبات سعودية عمانية جديدة بشأن اليمن.. وجولة مفاوضات مرتقبة بين السعودية والحوثيين    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    شعب الجنوب أستوعب صدمة الاحتلال اليمني وأستبقى جذوة الرفض    فلنذكر محاسن "حسين بدرالدين الحوثي" كذكرنا لمحاسن الزنداني    رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    شيخ بارز في قبضة الأمن بعد صراعات الأراضي في عدن!    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    دوري ابطال آسيا: العين الاماراتي الى نهائي البطولة    كلية القيادة والأركان بالعاصمة عدن تمنح العقيد أديب العلوي درجة الماجستير في العلوم العسكرية    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    بن دغر يوجه رسالة لقادة حزب الإصلاح بعد وفاة الشيخ عبدالمجيد الزنداني    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مكان وموعد تشييع جثمان الشيخ عبدالمجيد الزنداني    التضامن يقترب من حسم بطاقة الصعود الثانية بفوز كبير على سمعون    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    ديزل النجاة يُعيد عدن إلى الحياة    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    ارتفاع الوفيات الناجمة عن السيول في حضرموت والمهرة    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الزنداني يكذب على العالم باكتشاف علاج للإيدز ويرفض نشر معلوماته    الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تفعل هذا الأمر    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    المواصفات والمقاييس تختتم برنامج التدريب على كفاءة الطاقة بالتعاون مع هيئة التقييس الخليجي    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في العنونة والمتن النصّي
(مشقّر بالسحابة) للفتيح
نشر في الجمهورية يوم 18 - 07 - 2013

يحتل العنوان (مشقّر بالسحابة) ( 1) في النقد الحديث مكانة بارزة في عملية المقاربة النقدية لأي نص أدبي بوصفه – أي العنوان – عتبة للنص وبوابة لفهمه وتأويله، ولم يعد حليةً تزيينية أو لافتةً ترفيهيةً ، إنه بوابة العبور إلى النص ، ومنطلق أثير في تحليله واكتشاف أسراره وسنقف في هذه الإطلالة على عنوان المجموعة الشعرية الموسومة ب « مشقر بالسحابة» للشاعر محمد عبد الباري الفتيح ؛ فالعنوان يتكون من دالين لغويين: الأول- “مُشَقَر” ويتعلق بالدال الثاني «السحابة » تعلق التصاق فتصبح السحابة من لوازم هذا المشقر، كما أنّ “مشقّر” كلمة نكرة عرفت بالوصف الضمني “بالسحابة” إذ أصبح هذا التعبير سمة لشيءٍ / لشخص ما، والسحابة هنا معرفة مفردة تزيد عن جمعها بالتاء المربوطة ، كما أن “مشقّر” مشتق اسم مفعول من الفعل “شقّر” الثلاثي المضعّف العين.
مشقّر : من “ المشقُر” وهو في اللهجة المحلية اليمنية حزمة من الورود تتّخذ للزينة في الريف اليمني، لكنها ليست أي زينة إنها تتموضع في أعلى الرأس وليس في موضع آخر، وغالبًا ما يكون المشْقُر مؤلفًا من مجموعة زهور وأشجار عطرية وورود، إن المشقر دلالياً مرتبط “ بالذائقة الريفية المحلية ويحمل خصوصية النكهة الشعبية اليمنية - وهذا ينسجم مع نصوص الديوان التي تعد نصوصاً منسوجة باللغة العامية - ويجمع دلالياً بين الجمال ، وطيب الرائحة والعلو ، لكن المشْقُر هنا لم يعد مشقراً مألوفاً، بل هناك عملية تمرد في الصيغة البنائية جسدها الانزياح المتمثل في كون المشقر سحابةً ، مما يجعل التركيب مكتنزاً بدلالات ثرّة فالسحابة : شامخة ، مرتبطة بالخير والعطاء والنماء، من ضروعها يشرب الأنام، ومنها تستمد الأرض الخصوبة، وبها ترتبط حياة الإنسان، ولولاها لأصبحت الأرض جديبةً لا تعرف الارتواء أو الاخضرار إذن السحابة – بإيجاز- معادل موضوعي للحياة ، وحينما ترتبط بالدال “مشقّر” نكون أمام هذا التركيب الدلالي الكثيف ، فالمشقر بالسحابة مشقرٌ بالحياة ، ومعانيها، مشقر بالشموخ والعلو، بالعطاء الدائم ، وربما بالغضب الذي تطلقه السحابة بين آنٍ وآخر رعداً وبرقاً يغري القطر بالانهمار والحياة بالنماء، وفي الوقت نفسه يرعب، وقد يصيب أحياناً ، ولكن عملية التأويل تستثار بسؤال وجيه: يا ترى من هو هذا “المشقّر بالسحابة” ؟!.
إن انفتاح النص _سواء أكان نصاً أم عنواناً – والعنوان نص موازٍ في نظر النقد الحديث – إن ذلك الانفتاح من المقومات الجمالية التي تمنح التأويل خصوبة متجددة ، فالعنوان يحمل في رحمه تساؤلاً عن هذا المشقر : هل هو الشاعر نفسه، أو شخص آخر غيره، أو شيء من أشياء الكون؟.
إن العودة إلى متن الديوان يمكن أن تسعفنا بما نستضيء به في متاهة التأويل.
لقد وردت جملة العنوان في نص من نصوص الديوان معنون ب«إلى شمسان الأشم » ص67يقول فيه مخاطباً جبلَ شمسان:
عدتْ يا (شمسان) لكْ
بعد السنينْ
عدت متحدي السنين
عدت .. لا خنت عهدي معك
ولا ساومت في(عيبان)
ولا أحنيت جبين
ما نسيتك يوم ودعتك ودمعي عالخدود .
إلى أن يقول : جاك (هنس) وراح(تريفيليان)
وأنت اليوم ما أروعك
شامخ مشقر بالسحابة
لقد كانت جملة العنوان فاتحة للديوان، وخاتمةً للقصيدة .
إن هذا النص يكشف عن هوية المشقّر بالسحابة إنه شمسان الجبل /المكان/الوطن .. تحول رمزاً للمحافظة على الهوية والتمرد على الاستسلام ، رمزاً للرفض للأجنبي « هنس » «وتريفيليان » وغيرهما ، شمسان متحدٍ ، رافض ، شامخ، عصيٌ على الانصياع .
“ سلّم للكون شماريخه مجللةً مهابة “ لكن الإيغال في النص يمنحنا دلالات أُخَر؛ فالشاعر حينما يخاطب شمسان يقول : عدت يا شمسان لك _بعد السنين – عدت متحدي السنين ... فالشاعر الفتيح يعمد إلى مماثلة في الصفات بينه وبين شمسان في التحدي فأسقط على شمسان وغير شمسان«صبر ، نقم ، عيبان » تلك الصفات المنتمية إلى حقل التحدي والشموخ ، إن الشاعر يتحد بالمكان ويمتزج به امتزاج عاشق ومعشوق والفنان هو القادر على محاورة مفردات الكون، ومنحها الخصوبة والتفاعل معها بحميمة ،ينفخ فيها الروح ، ويعقد بينه وبينها ألفة واقتراناً، ويتمنى الفتيح في لفتة تستبق الزمن : “آه لو تحضن( نُقُم ) في يوم تكونوا عاشق ومعشوق » وهذه تبشيرة بقيام الوحدة اليمنية؛ لأن القصيدة قيلت في مطلع الثمانينيات بحسب الإشارة في هامش النص.
لا شك في أن عملية “الحلول” بين أنا الشاعر و«أنت»المكان مجسدة في النص الشعري للفتيح ، بما يجعل الشاعر نفسه مشقراً بالسحابة، بالجمال بالشموخ بدفء الحياة ، فالنص يحيل إلى التكوين النفسي للشاعر الذي يتتوج بالرفض والشموخ في عصور الانكسار و الانحناء والخضوع .. والرفض هو لحظة التحقق بالوجود الحقيقي والكينونة الفعلية في مضمار الفعل الإنساني ولايمكن أن يقوم به من لم يرتكن إلى موقف حياتي واضح، وفلسفة خاصة لا تتبنى الجاهز، ولا تؤمن بالأفكار المعلبة.
المشقر بالسحابة قادر على الرفض والاختيار وذلك لا ينطلق إلا من ذات متحررة تدرك قيمة الفن وسمو رسالة الفنان في تعرية نواقص الحياة ومحاكمة الواقع “مشقر بالسحابة” سباحة ضد التيار، ضد الانهزامية، إنه إعلان صارخ في أرجاء المكان والزمان لإدراك الذات والتشبث بالهوية، وحماية «الأنا » من الانسحاق.
ثانيًا البنية المضمونية للديوان:
هناك عدد من المضامين التي تدور حولها نصوص الديوان أبرزها:
1 الحب
تتصدر (ثيمة) موضوعة الحب الديوانَ؛ فأول قصيدة فيه بعنوان: (كذا فليعشقوا)[2] وهي آخر ما نلقاه في الغلاف الخلفي للديوان، يقول فيها الشاعر:
بانمضي على درب الهوى لا منتهاه[3]
محالْ لو لامنا عاذلْ نتوبْ
واحنا اللي زرعناه في القلوب
ومن نهر الصفاء اسقيناه وبانجني جناه
هوانا ألهم الحُمَّامْ[4] سجعُهْ والهديلْ
نطَّقْ عودي وأوتاري
وفجَّرْ نبع أشعاري
يصبْ في مسمع العشاق من فني الأصيلْ
*****
بحسي كل لحظة أنت... وحلمي في المنام
ودقات الفؤاد باسمك
وفي البال انحفر رسمك
كذا فليعشقوا، وِلاّ على الدُنيا السلام
*****
نقشنا موعد اللقيا على دمع الغيول
عزمنا الأهل والجيرة
وشهَّدْنا رمال (صِيْرَة)[5]
وجبينا لهيب الشوق ذكرى للعذول
فالحب على رغم العذال طريق إجباري لدى الشاعر، وهو زرع الشاعر في القلوب سقاه من نهر الصفاء، هنا الحب الحقيقي النابت في أعماق القلوب وهو في الوقت نفسه أي الحب ألهم الطير لحونه، بالحب يعزف الشاعر ألحان الحياة وحياة اللحن الحب يفجر الطاقات الإبداعية للشاعر وهو سفير الشاعر إلى مسمع العشاق.
هنا يصبح الشاعر محبًا وعاشقًا استثنائيًا،«كذا فليعشقوا وإلا على الدنيا السلام».
لأن هناك مظاهر استثنائية للعشق منها تملك المعشوق لحياة الشاعر منها الحضور الدائم للمحبوب في خياله، ودقات القلب النابضة باسمه، والرسم المحفور في الفؤاد لهذا المحبوب “ بحسي كل لحظة أنت” “ودقات الفؤاد باسمك، وفي البال انحفر رسمك” وهي كلها مؤكدات وشواهد ذلك الحب الخالد .
وفي نص آخر بعنوان (حَنِّيتْ)[6] يقول :
أبو مطر حَبَّك يا كحلا، واخلص
وغازلكْ وشقَّركْ وعرقصْ
يا ويل من عابكْ أو بك تربّص
والله العظيم لا فلِّقُهْ بمفرص
ونجد أن الشاعر الفتيح لا يحتفي في موضوع الحب بالمرأة جسدًا بل يتجاوز البعد الجسدي إلى الأبعاد المعنوية حباً ووفاءً وأماناً، ففي قصيدة (عشقت)[7] يقول:
وجدت الوفا عنده
سقاني صفا وده
وفي عشرته يا ما جنيت شهد (دوعاني)[8]
وفي قصيدة (عجب يا حب)[9]يسجل الشاعر تفاعل عناصر الكون مع حبه فيقول:
وترقص لي الربا والغيل يشعر
مفرح مثلي بالوصل المقدر
ولك أهدى ولي كاذي معطر
كعرفك وانت عرفك حاجه ثاني
وفي نص (راحوا) [10]يحاول الشاعر أن يبرز تجربة حبيبة غاب عنها زوجها في المهجر : لمايصلني جواب الخل ترسم بناني
لبهجتي قوس قزح
أرقص وعيد ويتبسم زماني ومكاني
ويطير قلبي فرح
ولما أجوب له تتعقد فصاحة لساني
واحس بمعنى الترح...
ولا تنسى عدسة الشاعر في نص (من ألف ليلة)[11] أن ترصد لحظة اقتران حبيبين في مهرجان فرائحي تهتز له الحياة .
وهكذا نجد أن تجربة الفتيح تتنوع في تناول موضوع الحب وتستوعب ملامح إنسانية مختلفة فيه.
2 - الارتباط بالأرض..
للأرض حضور وافر في نصوص الفتيح؛ فالأرض كالعرض- كما يقول في قصيدة تحمل العنوان نفسه-[12] كلاهما له قدسية وحق الدفاع عنه والإخلاص له :
وابليبل اصدح ونحنا نلالي
للساكنين في السواحل
وفي السفوح والأعالي
للجيد حادي القوافل
أيامه تجزع ليالي
للي يردّد مهاجل
بحوله ياللهلالي
وابليبل(أبو مطر)[13] قال واحكم:
مالي سوى الأرض مالي
والأرض كالعرض مالم
تحميها زِلْ من قبالي
ومن منطلق الحفاوة بالأرض يحتفي الشاعر بلحظات الشروق التي تعانق الروح وتبعث لواعج الشوق:
شمس الشروق بين الجبال لواهب
شوقي أنا
تشرب ندى (الأسوام) و(الشواجب)[14]
شربة هَنا
هنا تتفاعل الأرض مع شمس الشروق حيث تشرب الشمس ندى الأسوام والشواجب شربة هناء، تنتشي بها الروح ويتفاعل في النص الإيقاع مع الدلالة وهذا التنوع الإيقاعي وهو من سمات شعر الفتيح يسهم في تكثيف التنوع الدلالي ف(شوقي أنا)( شربة هنا)كلاهما جاء بتفعيلة واحدة على وزن (مستفعلن)، في حين السطران السابقان لكليهما جاءا بثلاث تفعيلات على وزن(مستفعلن مستفعلن فعولن.)وهذا التنويع نجده في نصوص أخرى للشاعر مثل نص (راجع)[15] ونص(إلى مقبل علي)[16]
وفي سياق احتفاء الشاعر بالأرض نجد قصيدة( سيل الفجر)[17]وهي مقدمة لرائعة عبد الرحمن الشرقاوي ( الأرض)التي يمننت لمسرح تعز، كما ورد في تصدير النص، يقول فيها:
هاجسي اسعفني بتقديم الحكاية
حكاية الناس اللي حبوا الأرض من بدء البداية
عاشوا مثل النخل وقوف
رغم طغيان الظروف
وقصة الإنسان يا حبايب
أبدًا ماليش نهاية
لو رجع ماء المحيط والبحر مداد والكل كاتب
إن الشاعر في هذه المقدمة لمسرحية الشرقاوي الممسرحة يؤرخ لقصة الأرض والإنسان الأرض أينما كانت وفي أي زمن هي قصة ليس لها نهاية حتى ولو كتب فيها الكاتبون، هنا يلجأ الشاعر إلى النص القرآني ليستمد منه معنى الديمومة (قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي ....)[18] لكنه يضفي هذه الديمومة على حب الأرض كل أرض:
المكان ما اقدرش أحدد
قد يكون أرض العزيبي
قد يكون البقع أو سيحوت أو وادي الحريبي
والزمان كل الزمان اللي مضى
تقدر تقول عشرين سنة
تقدر تقول الفين سنة
تقدر تقول مليون سنة
تقدر لا بك( طافة)[19] تقول :
مليون سنة..
مثل ما تقدر تقول عمر عاشق الأرض البتول ويتحرك نص (الجلوبةفنون) في فضاء الأرض وما يتعلق بها مثل الثور والزرع والبتلة والشرحة والرعد والغادية
بالرعد والحول والثور خيبة الظن تهون
وبالبتول مستحيل خيبة ظنوني تهون
وخيبة الظن بالشراح طريق الجنون
فالنص إذ يتغنّى بالأرض نجده يحمل مغمزًا سياسيًا إذ يغدو(الشُّراح) جمع شارح وهو المسؤول عن حراسة الحقل ، معادلاً لحماة الوطن وساسته.
ونلمح الشاعر في نص(عاطر كأمجادي)ص102يتغنى بالأرض وبالبن اليمني بوصفه رمزًا وكنزًا فرط به الفلاح اليمني كثيرًا في الوقت الحاضر ،يقول:
عاطر كأمجادي في السفح والوادي
ياغرس أجدادي وكنز أحفادي
يا بننا اليمني
ويخاطب الوطن / الأرض بقوله:
هواك في الأرواح أنغام مسا وصباح
في مهجل الفلاح وبهجة الأفراح
تفيض هوى يمني
وفي مقطع من هذه الأهزوجة يؤكد علاقة الأرض بالإنسان وقيمة البذل في سبيل الأرض حين يجعل من قطرات عرق الفلاح مرجاناً يتناثر على الثرى ويعانق السنابل المتدلية بمحمولها الوفير، هناك ينتشي (المجران) فرحًا وطربًا فهو المكان الذي يحتضن ما جادت به الأرض والإنسان الذي كدّ في سبيل حرثها وتخصيبها بالحياة، في المجران تفرى حبوب السنبل وهو مكان تخزن فيه الغلال :
وكد الجبين مرجان يعانق المحجان[20]
يا فرحة المجران[21] بالأرض والإنسان
نبع العطا اليمن
إن الشاعر الفتيح يتجلى من نصوص الديوان عاشقًا للأرض ينتزع نصوصه من حياة الريفيين البسطاء يتغنى بالحول والراعية والكبش والثور والمحجان والحول وزوامل الفلاحين، وهو في كل ذلك يقدم رؤية تستأصل معاناة الإنسان اليمني وتحد من هجرته وتسهم في تنمية مجتمعه، ويعيد الاعتبار للريف .
3 الهجرة..
للإنسان اليمني قصة قديمة مع الهجرة إنه باختصار: حكاية هجرة منذ القدم وحتى اليوم، وقد عني الأدب اليمني بموضوع الهجرة؛ وبخاصة الفنون السردية: قصة ورواية فقد اتخذت من الهجرة والمهاجر مادة حكاية؛ نجد ذلك - مثلاً-في أعمال محمد عبد الولي كما في( الأرض يا سلمى) على سبيل المثال، وكذلك في أعمال زيد مطيع دماج كما في (خلف الشمس بخمس) وفي أعمال محمد مثنى وفي أعمال المبدعين الشباب كما هو في رواية(الأفق المهاجر) للشاب فهد آل قاسم.
وهي حكاية نجد حضورها لافتاً في نصوص ديوان الفتيح؛ من ذلك نص(لا أين؟)[22]الذي يسجل تساؤلاً عميقًا يكاشف المهاجر بكل تبعات الهجرة التي تمتص رحيق ورونق الشباب فتزهر بجهدهم أوطان في حين تسحق الوحشة وطنهم الذي يستوجب عليهم أن يلتفتوا لأرضه وحقله قبل أن يحييوا جديباً آخر فيكونون كما قال الشاعر العربي القديم :
كتاركة بيضها بالعراء وملبسة بيض أخرى جناحاً
يقول الفتيح :
لين اشتسافر واعندليب
تذر شبابك ورونقه
تحيي به كم من فلا جديب
ووكرك الوحشة تسحقه
يستحلفك غصنك الرطيب
بشبّتك لاتفارقه
لا تغترب دمعي السكيب
شلعب بخدي وشحرقه
هذا النص يتجلى فيه صوت المرأة التي تسائل زوجها المهاجر وتترجاه ألا يغترب حتى لا يذوي شبابها ويحرق الدمع خدها وحتى لا يستوحش حقله وتجدب أرضه. وفي ختمامه نجد القرية التي تقول كلما مر النسيم :
تقول ويلي أنا من نار غربتهم.
ولعل نص (ما أمر الرحيل )[23] يعد أكثر نضجًا فنيًا إذ تتعدد فيه الأصوات بتعدد الرؤى وهو يترجم صراع الرغبات لدى الإنسان اليمني بين الهجرة والبحث عن أشواق الروح بعيدًا عن ضنى الواقع، أو البقاء في الوطن وتجرّع مرارات ومكابدات الحياة القاسية :
الليل وابلبل دنا
غلس واسمر عندنا
غنّي غرّد بيننا
قبل ماننوي الرحيل
هنا يتجلّى صوت الراحلين وهم يتعزون بالبلبل؛ ليمرح بينهم يخفف عنهم مرارة لحظات الفراق، البلبل هنا يغدو معادلاً موضوعيًا نجده لدى الزبيري في قصيدة البلبل ونجده لدى الفتيح في هذا النص وفي سواه من النصوص إلى جانب القمري والجولبة والعندليب ...إلخ وهي حيلة رمزية يلجأ إليها الشاعر وتقنية فنية من تقنيات البناء النصي لديه.
وفي المقطع الثاني يطل صوت المرأة الطرف الثاني والضحية الأولى لهجرة الرجال من الريف إلى الخارج:
يا بليبل والصراب دق(بإيده)[24] كل باب
والغواني في عذاب
تدعي : وارب من لنا
الرجال أنووا الرحيل
ثم يأتي صوت الراحلين مفعمًا بأسىً قاتل:
كلنا سقّى وبتل
كلنا كان له أمل
يجني من كده عسل
وما جنى غير الضنى
والتغنّي بالرحيل
الرفافيح[25] في يدي
والجراح في ساعدي
وانا شارح موعدي
والبلاد ضاقت بنا
ما بقى غير الرحيل
ويعقبه صوت ثالث هو صوت اللائم الذي يحاول أن يثني المهاجر عن الهجرة يقف في مواجهة صوت الرحيل والهجرة خارج الوطن، برؤية واقعية يكشف فيها عن ضرورة الكباد في الحياة لنيل الأمنيات لا التفكير بالهجرة :
أيها الشاكي لمن
تشتكي جور الزمن؟
ما رأيت من غير ثمن
حدْ[26] قد نال المنى
لا تفكربالرحيل
وحين يقدم هذا الأمر(لا تفكر) يقوم بالكشف عن مسوغاته :
أنت في أرضك كريم
في الشقاء أو في النعيم
والمهاجر كاليتيم
مهجله لا ...الليل دنا
«آه ما مر الرحيل»
إن هذا النص إذ تتعدد فيه الأصوات وهي سمة فنية تضفي على النص نوعًا من الدرامية والحياة؛ ليكشف عن صراع الإنسان اليمني مع ظروف واقعه مع الرغبة في الهجرة بعيدًا عن الأهل والوطن والبقاء في الوطن، نجد فيه أيضاً تلاعبًا في الزمن فلدينا زمن قبل الهجرة؛ إذ يقول المهاجر: « ما بقي غير الرحيل » وزمن الهجرة “ آه ما مر الرحيل” يختزل النص تلك المداءات في حيز نصي وجيز يفتح أفق التوقع لكل ما عاناه المهاجر عبر سنوات هجرته حتى خرج بتلك القناعة المجسدة لمرارته الملخصة لمعاناته.
أما قصيدة (واقُمري غرّد) ص41 فإنها تتناول قضية الهجرة من زاوية أخرى إذ تتمحض لتجسيد معاناة المرأة التي يهاجر عنها زوجها ويهيمن على النص صوت الأنثى بأحاسيسها المرهفة، ومعاناتها المؤلمة وهي تناجي (القُمري)الذي يعد معادلاً موضوعيًا يسهم في حركية النص وبث الحياة فيه، فوجوده في بنية النص يسوغ بوح المرأة له بوصفه آخر له تبث شجونها وشؤونها ومن خلاله تفتح نوافذ المقارنة بينه وبينها هو مع إلفه وهي دون إلفها :
واقُمري غرّد ما عليك من هم
خِلك معك وانت بقربه تِنعم
مش مثلي أتجرع كؤوس علقم
سقيم بحالي بس ربي يعلم
أشكي بُعاد خلي أيحين شاشوفه
لمن ترك وردُه خيار قطوفه؟
صباح مسا أحلم ولو بطيفه
يا قمري والخل ما ذكر أليفه
نيسان هيجني واشعل كياني
والشوق يضني والفراغ براني
ما له الحبيب يا هل ترى نساني؟
يا ليته يدري بالذي أعاني!!
هنا نجد المرأة تستحلف الريح المرسلة أن تبلغ الحبيب رسائل شوقها لعله يؤوب إلى عشها قبل أن يفوت الشباب :
والريح حلفته ونجم سحره
يقول له: يكفي اغتراب وهجره
شبابنا شسرح يا ألف حسرة
لو ذبلت زهورهْ زهره زهرة
ثم تذهب في عملية استباق زمني استشرافي ليوم وصوله لعل ذلك يكون من مغريات العودة؛ تتخيل يوم عودته:
يوم السلا يا قمري يوم وصوله
شاواجهه بالفل شاكيد عذوله
حتى الطريق بالورد شفرشه له
واطعِّمُه بيدي جهيش سبولُه
إن النص يجسد مكابدات المرأة التي اغترب عنها زوجها، ولكنه يقدم رؤية إيجابية لتلك المرأة التي ظلت مرتبطة بالأرض تعبيرًا عن الوفاء لزوجها،ولم تنس في غمرة فرحتها أن تلتفت تلك الالتفاتة الجميلة حين تقول: « واطعمه بيدي جهيش سبوله».
هذه الالتفاتة الجميلة تحمل شعلة الحياة للنص وللمرأة وللمهاجر في آن: فهي تفتح النص على أفق الممكن تملأه بحياة الفن، وفن الحياة حين يجعل الشخصية تقاوم الانهزام، تجمع بين عاطفتها في استقبال زوجها المهاجر ورسالتها في الحياة في تقديم حلول ناجعة لمسألة الهجرة حين تحتفي بالأرض، وتعشق سَبُولَها، وتصر على أن تستقبل زوجها بوردة وسبولة ،بالحب والحياة في آن ، وكأنها تقول له: الأرض فيها الغنى عن الارتحال، وفيها عطاء غير مجذوذ.
إن هذه الشخصية تلتقي بشخصية (سلمى) في قصة محمد عبد الولي حيث «الأرض يا سلمى إذ هي الحل الحقيقي لمشكلة الهجرة، المرأة لم تخن رسالتها بل ظلت وفية تحفظ الأرض والعرض، وتحفظ لزوجها حياة كريمة، ولعل تعبيرها “واطَعِمُهْ بِيْدِيْ جَهِيْشْ سَبُولُهْ” إصرار على أن يتذوق الرجل المهاجر عطاء الأرض من يدها التي عشقت الأرض، وتحنَّتْ بترابها،وهاهي اليوم تحصد أغلى كنوزها وتقدم ما لذ وطاب منه هدية لزوجها ضمن مراسيم الاستقبال لعله حين يتذوق من يد المحبوبة طعم سنابله المشوية يكون ذلك رادعًا له لينثني عن استمراء البقاء بعيدًا عن الأرض وعاشقة الأرض.
ويلتقي مع هذا النص نص آخر هو نص (راحوا)[27] الذي يعلو فيه صوت المرأة وهي تسكب حنينها لإلفها المهاجر، وتسرد تفاصيل تلك المعاناة ولحظات استقبال رسائل زوجها ولحظات الرد عليه، لكنها لم تنس قضيتها في زحمة هذه المشاعر الأنثوية الخصيبة، لم تنس قضية الأرض وتتمنى لو يعود المهاجر ليرى الأرض وهي تختال بسنابل الحقول:
أذهب هواجس وما فكر بغير التداني
واسهن لبارق لمح
ليته معي والسبول عناق يثير الصوان
فقلت مسكين من
هجر قدس والسحول ورا سراب الأماني
وبات رهين الشجن
وفي الجبال والسهول صدى حنين الغواني
لاحبابهن يا زمن
راحوا وخلّوا الغيول تذرف دموع الهوان
على شباب اليمن.
إن المرأة هنا تتسلح بوعي إيجابي يتجاوز هموم الذات الفردية، فحين تذهب في هواجسها وأشواقها بعيدًا ترى بارقًا ينقلها لفضاء الأرض تمنى أن يكون زوجها برفقتها حين كنوز الأرض في عناق يثير قلب الصخر، هنا تقوم المرأة بعملية استبدال وتتحول المرأة بوعيها من تمني عناق الحبيب إلى تمني أن يرى حبيبها عناق السنابل في الحقول، وتصدع المرأة بقناعتها ؛ فقلت مسكين من هجر قدس والسحول ورا سراب الأماني وبات رهين الشجن.
إننا أمام «وعي ممكن» كما يسمى في البنيوية التكوينية يتجاوز من خلاله المبدعُ الواقع الكائن ليرسم أحلام الطبقة التي ينتمي إليها ولايقف عند تخوم تضاريس الواقع واصفًا إياه وصفاً تقريريًا، وهي سمة تلازم كثيرًا من نصوص الفتيح فهو مزود بوعي ممكن يتطلع ويستشرف ويرسم آفاق واقع منشود على أنقاض واقع مؤلم .
ونجد النص الموسوم ب(راجع)[28]يحمل صوت المهاجر،الذي وصلت به القناعة للعودة للأرض والحبيبة هو نص يعزف على وتر العودة ويحمل الحنين وكأنه يترنم مع محمد عبد الولي في عنوان مجموعته القصصية «شيء اسمه الحنين»
راجع أنا لك وادودحية
راجع معي لك أغلى هدية
أباشر الحول مع الحوية
واهنا بعمري لايضيع عليه
....
تتملكه قناعة عميقة في العودة للأرض ومشاركة الحبيبة في إعادة شباب الأرض وحيويتها هنا يأتي هزيج العائد بشكل إيقاعي جميل كل سطر فيه يشكل تفعيلة واحدة بعد أن كان المقطع الأول يتشكل من تفعيلتين:
يا طير يا اللي
عنّي مولي
بلغ سلامي
وشوقي لخلي
*****
ويشكل المقطع الثالث نغمة إيقاعية جديدة
بكل حبي إلى حبي الكبير شارجع
أسكب لحوني بسمعه مرتين واربع
واشرب من النور ذي في ناظره يلمع
كبرق قِبْلِي
ثم يعود الإيقاع المترنم في مقاطع تالية ومنها قوله
أمانه قل له
يرصّ فُلّه
أنا شصل له
جبا بكلّي
يا طير يا جازع
أنا بكره راجع
إلى المرادع
أهجل بحولي
أبوس ترابه
واشوف ما به
واعيد شبابه
أنا وخلِّي.
وكأن هذا النص يسجل استجابة لنداء المرأة والأرض الذي ألفيناه في نصوص سابقة، ويقدم الرؤية الإيجابية والقيمة العليا في عشق الأرض والخلاص من الغربة التي تمتص هناءة الحياة، ليقبل الأرض ويعيد شباب الحقول مع خله التي ما فتئت تحن وتئن تحت وطأة غربة وعناء في تحمل مسؤولية الأرض فضلاً عن مسؤولياتها الاجتماعية،ولاشك في أن التأمل في النصوص السابقة يكشف عن مدى حضور قضية الهجرة في نصوص الفتيح التي تجعله في صدارة الشعراء اليمنيين في الاحتفاء بهذه الإشكالية الكبرى التي تؤرق حياة المجتمع اليمني وتكشف عن وفاء الفتيح للأرض والإنسان وهيمنة البعد الإنساني في نصوصه فهو إنسان شاعر وشاعر إنسان.
4 - النقد السياسي والاجتماعي:
إن الإنسان كائن رافض كما يقال، ولا شك في أن حياة الفتيح مفعمة بالرفض، فالرفض عبادة وثوابه يوازي ثواب ألف قمة من قمم السياسيين العرب:
«بالرفض والرفض عبادة
تسوى ثواب ألف قمة »[29]
إن هذه اللفتة وردت في قصيدة (إلى أطفال الحجارة)[30]في سياق إعجاب الشاعر الفتيح بثورة أطفال الحجارة الذين غيروا معادلة الصراع العربي الصهيوني على أرض فلسطين وفي النص يقدم نقدًا سياسيًا للجيوش العربية بأسلحتها :
سلاحنا والجبروت
أمان( لشارون) و(سارلوت)
من غير تفصيل الأخبار
ويشير الشاعر إلى المفارقة الكبيرة حين يكون الصراع داخليًا:
لكننا بيننا البين
نرد به الصاع صاعين
وثلجنا يشتعل نار.
وهذه التقنية الفنية –أعني بها المفارقة- تتجلى في كثير من نصوصه وتأتي مجسدة لشعور الفتيح بمدى التشوهات التي تعتري حياتنا المعاصرة، فقوله ثلجنا يشتعل نار مفارقة تكشف عن طبيعة موقف الحكام حين يكون الخلاف داخليًا، (أسد عليّ وفي الحروب نعامة)ويؤكد الشاعر في النص القيمة العليا للرفض والثورة وكأنه يبشر بالربيع العربي الذي هز عروشاً طاغية:
قال المتيم بأرضه
ما يجبر الكسر جابر
غير ثورة اليأس في الناس
لما تموج في الشوارع
غضب وطوفان زوابع
باردأ زمن ترفع الرأس
إن الشاعر في هذا النص يمزج بين نقده للوضع السياسي العربي ورفضه لكل ألوان الانهزامية والتبعية، وإعجابه بأطفال الحجارة الذين غدوا في صورة(طائر الفينيق(الأسطوري الذي يطل من رماده كلما احترق:
تجوروا بالعواصم
فما لقوا فيها عاصم
ولا محافظ لذمه
فاتحولوا اطيار فينيق
تنفض رماد المحاريق
وانهار ثورة ونقمة
وفي سياق النقد السياسي والرفض لكل تشوهات الواقع يستدعي الشاعر رمزًا شعريًا صوفيًا وثوريًا كان مدرسة في التصوف الثائر على أشكال الظلم من خلال مواقفه ونصوصه هو ابن علوان، رحمة الله عليه يستشهده على هذه الأمة في حوارية مع السروري :[31]
قال السروري لابن علوان :
طار من قلبي الأمان
وشاب رأسي وانا في عز الشباب
من بلطجة عتريس والقبضاي وأحمد شوربان
اللي اوصلوا الأمة إلى واقع مشين مرفوض مدان
مذبوحة الأحلام والإحساس بالذات والكيان
معزولة عن حاضرها والآتي وماضيها اللي كان
وفي نص (بازحف)[32] يقول:
هم قيدوني ونامن قيدهم باسخر
وبازحف وهيهات زحف الكادحين يقهر
وهذا النص كما يشير في الهامش«الزحف على المجلس التشريعي» ألقي في عدن في ساحة المؤتمر العمالي في 24/9/ 1962م كعمل تعبوي.
وهو يجسد مرحلة من مراحل الالتزام الإيديلوجي لدى الشاعر ويتجلى في النص عنفوان الشباب في مقارعة الاستعمار الإنجليزي .
وفيه تأكيد على الزحف يجسده التكرار الذي يستفتح كل بيت من أبيات المقطع الأول بعد المطلع.
كما يتجلى الرفض في نص (ما لينوا عودي)[33]الذي يفتتحه الشاعر بتأكيد رفضه ومقاومته لكل دواعي الانكسار :
الليل والغدرة وغول الجوع(وأحمد شوربان)
ما لينوا عودي ولامن دهري القاسي ترجيت الأمان
تصايحوا هانوا
ودوخوا لانوا
تقلقوا من يدي اليمنى (دقامة)
ومن يساري كأس أشعاري وإصراري كأهوال القيامة
جبيت لهم من لهب ناري جرحي(دكاك)
....
ويختتم النص بقوله :
والقلب جوَّب: لا تعاتبهم أنا من هندوان.
وفي نص( قهري محال )[34] يقول في الخاتمة كإيقاع وتوقيع ختامي :
مش عنتريات كلامي ..ذا كلام الرجال
ياما صلف جاءني مأفون وراح بالوبال
جنى الهزائم ونا أجني شموخ الجبال
وانقش على التاريخ: قهري محال
وفي قصيدة (ياللي قلبك حديد)[35]يقول مجسداً علاقة الفن بالثورة،[36] وموقف المبدع من السياسي المتسلط :
من عبير التراب
في الشطوط والهضاب
ومحاجين آب
جاب حادي الركاب
لحن ما أعذبه
لشباب اليمن
درعه عند المحن
صب قمري الفنن
روحه شلال فن
من معين ليلبه
يا شباب اهجلوا
واسجعوا وازجلوا
الرضا ما اخيبه
والغضب بر أمان
ما بَعُدْ قرَّبُهْ
...وفي نهاية النص يطلق الشاعر صرخته المدوية في إشارة غاضبة ثائرة:
ياللي قلبك حديد
خلي لاخوك عصيد
وانت تعرف سعيد
لاجوع ما (أزأبه)
وهذا النفَس الثوري الذي يتجه فيه بالخطاب للسياسي مرموزاً له ب ( اللي قلبك حديد) في النص السابق يتجلى في نص (قهري محال)مرموزاً له ب (أخي المكرر) وإن كان الثائر يتجلى من خلال الرمز(سعيد) الذي يعادل كل مقهور يتعرض لتجويع من السلطة السياسية فهو بهذا النص يتجلى عن طريق ضمير المخاطِب حين يقول الشاعر:
أخي المكرر كما حسك (تطعفر) حقيني
حكم تمام قبل ما نصبح نقول يا عيني
كما قد الكيل عندي فاض وقاربت جنوني
شاعصد أبوها عصيد، وكلهم يعرفوني
ونلحظ النكهة الخاصة التي تقدمها المفردتان العاميتان (ما أزأبه)و(تطعفر) فالأولى تعني ما أوحشه، وما أشرسه، فالمواطن حين يجوع سيثور ثورة لا مرد لها ، أما تطعفر فهي تعني تبعثر بنوع من الاستهانة، وهي تشير إلى عبث الساسة بالثروة التي ينتزع لها الشاعر مرادفًا ريفيًا يعتمد عليه الريفي في غذائه (حقيني).
ويحاول الشاعر في نص شعري بعنوان (صورة الآتي)[37]أن يستشرف آفاق المستقبل اليمني في ظل تجربة الوحدة وتطل رؤاه التنبؤية وقرءاته للواقع حين يقول:
يا وحدة الأرض والإنسان بوادي سبأ
مسيرتك ظافرة ورايتك غالبة
واعراق نخلك بأعماق ذاتنا ضاربة
لكن خطأ التعبئة ولد أمور سالبة
ما زال أثرها يهدد روعة التجربة
وعاد حبال العمالات راخيةسايبة
ونارها تحرق الكاذي وورد الربا
تعزف بقيثارتك لحن القوى الغاصبة
وترهن الحول بمفتاح العتب والجبا
ويرى الشاعر أن العلاج لن يكون بغير تسييج الذات والتنبه لكل المكائد والبذل والغربلة:
فغربلي جبهتك قفي بوضع انتباه
وسيجي ذاتنا وأرضنا الطيبة
يا احباب أيلول وأكتوبر فصيل الإبا
بالبذلين مش بناس المافيا الحالبة
ولا فحلم السنين منثور مع الريح هبا
ويشير إلى الشلل التي تتقاسم المكاسب وتتكالب عليها في حين تهرب من النضال الصادق:
شِلَلْ وجودها عدم تضج متكالبة
على المكاسب ومن صدق النضال هاربة
تشعبت بعدما التمت أيادي سبأ
وتدعي (هلس) حضورها وهي غائبة
إن الشاعر إذ يشير إلى النخب السياسية وإلى المتنفذين بعين ثاقبة ويرسم صورتهم المفارقة المتكالبة على المكاسب الهاربة من النضال الصادق نجده يرسم صورة مقابلة للراعية الكحلا التي تتلمس حلولاً صائبة وهو بهذه اللفتة الخاطفة يعمق رؤية الانتماء لعالم البسطاء الفلاحين الذين يغيبون عن المشهد وهم أجدر بالحضور من سواهم :
والراعية الكحلا تتلمس حلول صائبة
المحها ترقب بحس رافض وروح غاضبة
سود الليالي حبالى بأسوأ العاقبة
لبنها في الصيف يضيع ويضيع أحلى اللبا
إن الشاعر يحمل تلك الرؤية عبرالراعية المنتمية للأرض وهي ترقب الليالي الآتية تضيع ثروتها ويهدد مستقبلها، إن الشاعر في هذا النص يقدم قراءة للمشهد السياسي الذي نعيشه اليوم حيث تهدد تجربة الوحدة وتتعالى دعوات الانفصال، وبذلك يجسد الشاعر رسالة المثقف الذي يحافظ على الوحدة بالولاء لها وتعرية كل السلبيات والمخاطر التي تحاك ضدها من الداخل والخارج.
وفي سياق النقد السياسي يقدم الشاعر نصًا مفعمًا بالنقد حين يرسم مشاعر أنثى غاب عنها زوجها مع (زوار الفجر) في إشارة لعناصر الأمن الذين اعتقلوه، فراحت المرأة تشكو معاناتها (للجولبة)[38] :
عيشك حلا واجولبه
مع جولبك ومع الصبا
يا ساكبة ألحان الغرام
على السوائل والربا
عشك مطرز بالسلام
والهجر في شرعك حرام
وعلى الوفا إلفك ربا
يزغيك حنانه والهيام
من سقف إلى سقف اسجعي
اتمايلي وادلعي
الجو لك والأرض لك
تجنحي وتربّعي
*****
بنت الغصون زيدي سجيع
صبّي سلا فوق الجميع
وبشريها بالربيع
******
سليني روحي معذبة
من غير حنان مسيبه
وبلا ربيع عمري يضيع
وأشيب في عز الصبا
أظمأ فأتجرع دموع
وشبابي يحرق كالشموع
طير الأمان من قلبي طار
وأنا متيم بالرجوع[39]
*****
واجولبة رفّي علي
نار الفراق تكويني كي
خلي غطف من غير وداع
فمتى متى يرجع إليْ؟!
لقد أجاد الشاعر فنيًا في هذا النص حيث يمارس النقد السياسي ببراعة فنية بعيدًا عن المباشرة يضفي فيه الشاعر نوعاً من الحيوية والحياة من خلال حوارية المرأة مع اليمامة وهي تبث حزنها على فقيدها وذلك أدعى للتأثير على المتلقين والاستجابة لقضية إنسانية عميقة تتعلق بالحرية التي تتجلى فيها المرأة مستنصرة بشكل غير مباشر.. ولم يتوقف الشاعر في نقده السياسي والاجتماعي على المستوى المحلي بل تجاوزه إلى النطاق العربي والإسلامي والعالمي من ذلك قضية مرثية للعالم[40]
يقول فيها مخاطبًا(خير أمة):
واليوم جاك من يلوث سماك ويفسد ترابك
يهز يقينك يجعثث أبوك يملي اغترابك
وكذلك في نص (مخ مغسول)[41] وفيه ينتقد السلبيات التي طرأت على خير الأمم وأنها دقت أبواب القرن العشرين بمخ مغسول عن التاريخ الجهادي “ بعيد عن عين جالوت وحطين” وفي السياق نفسه يأتي نص خارج التاريخ[42]لكننا نجده في نص ( الكرملين)[43] يأسى على مصير التجربة الاشتراكية السوفيتية:
الكرملين سبعين سنة تمركس
وشكّل أحلام الشعوب وهندس
وجا الرفيق جوربي يشل ريوس
وهو نص يشف عن مشاعر إعجاب بالتجربة الماركسية بدليل نعتها بأنها شكلت أحلام الشعوب وهندستها، وأن ما قام به جورباتشوف هو رجوع للوراء (ريوس).
وختامًا: فإن هذا الديوان يمنح المتلقي خارطة لرؤية الشاعر الفتيح التي تمتزج بتلقائيته العذبة وهو ينسج هذه النصوص دون أن يعمد للتجريب الإيقاعي أواللغوي بل ينساح بتلقائية فاتنة لغةً مخصبة بروح الريف وحياة البسطاء، وإيقاعاً ينتظم تارة ويتنوع تارات أخر مستجيبًا لدواعي المعنى، يتوسل أحيانًا بالرمز وأحياناً بالمفارقة وربما يستدعي المثل الشعبي العربي أو النص القرآني وهي تقنيات تقتضي التوقف أمامها لكنا ألمحنا لبعضها لمحات عجلي في طي تناول مضامينه التي مضامينه بين الحب والعشق للأرض وتناول قضية الهجرة، والرفض السياسي والاجتماعي وهو في كل ذلك يسكب روحه عن شلالا دفاقا بحب الحياة وحياة الحب.
الهوامش:
[1] - صدر الديوان عن اتحاد الأدباء والكتاب ومركز عبادي للدراسات والنشر صنعاء 1424ه/2003م.
[2] - الديوان ص 7.
[3] - لا منتهاه: إلى منتهاه
[4] - واحد الحمام .
[5] - منطقة في عدن وفيها قلعة صيرة الشهيرة.
[6] - الديوان ص 9.
[7] - الديوان ص 59.
[8] - الدوعاني : نسبة لمنطقة دَوْعَنْ الحضرمية المشهورة بالعسل المتميز.
[9] - الديوان ص 50.
[10] - الديوان ص 53.
[11] - الديوان ص 56.
[12] - الديوان ص22.
[13] - أبو مطر : كنية الشاعر .
[14] - الأسوام: جمع سُوْم: حافة الحقل ، والشواجب : جمع شاجبة: وهي مدرج زراعي.
[15] - الديوان ص 47.
[16] - الديوان ص86.
[17] - الديوان ص 11.
[18] - سورة الكهف، الآية (113)
[19] - طافة: قدرة.
[20] - المجران: ماكن تجميع وتخزين الغلال.
[21] - المحجان : سنبلة الذرة البيضاء.
[22] - الديوان ص 44.
[23] - الديوان ص 37.
[24] - أي: بيده.
[25] - هي الفقاعات التي تظهر في اليد عند كثرة العمل أشبه بالحروق.
[26] - حدْ: أي أحد.
[27] - الديوان ص35
[28] - الديوان ص 47.
[29] - الديوان ص 112.
[30] - الديوان ص 106.
[31] - الديوان ص 116.
[32] - الديوان ص 73.
[33] - الديوان ص 94.
[34] - الديوان ص 81.
[35] - الديوان ص 64.
[36] - يتجلى تأكيد الشاعر على رسالة الفن في الحياة في نصوص كثيرة منها : اللي قلبك حديد، اليمن بلوحات هاشم علي ، إلى مقبل علي، إلى أطفال الحجارة، زبيرية، ياخير أمة...إلخ.
[37] - الديوان ص 83.
[38] - الديوان ص 17والجولبة هي اليمامة.
[39] - وردت في الديوان “ وبقيت أحلم بالرجوع” لكني وجدت تصويبا يبدو أنه بخط الشاعر بإحدى النسخ المودعة بمؤسسة السعيد “ وانامتيم بالرجوع” فاستحسنته لبلاغته.
[40] - الديوان ص 61.
[41] - الديوان ص 120
[42] - الديوان ص 97
[43] - الديوان ص 119.
* أستاذ الأدب والنقد المشارك بجامعتي إب والملك خالد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.