من نافلة القول أن استخدام فلسفة ومنطق المذهب الذي يراد هدم فلسفته ومنطقه هو خطأ جوهري.. إذ إن هذه الطريقة تفضي إلى نتيجة واحدة.. وهي إثبات صدقية ما يراد هدمه ونسف مسوغ ما يراد بناؤه.. وعليه فإنه يستحيل أن نحاجج دعاة التعصب بتعصب مضاد.. لأن هذا ما يريدون.. إذ إنه يسوغ الأساس الذي تقوم عليه دعوتهم.. بغض النظر عن النتائج التي تفضي إليها المحاججة والجدال.. ولكي يتضح الأمر فإننا نقول: إن اليمن -هذا الحيز الجغرافي المتعارف عليه- مثله مثل كل بلاد الله، جعله الله بيئة صالحة للاستخلاف والعمارة.. وذلك على أساس قانون التدافع بين قوى الحياة، حتى يفضي هذا التدافع لبقاء الحق النافع وزهوق الباطل الذي لا طائل من وراء بقائه.. وغني عن القول إن أصول الرسالات قائمة على أن من التزم مضامين الرسالة السماوية نجا وأفلح.. ولو كان من البعد عن النبي بُعْد امرأة فرعون عن نبي الله موسى عليه السلام.. وأن النسب لا يشكل شيئا ذا بال في مقام العلاقة بين العباد وبين ربهم.. حتى لو كان من تمرد على شرائع ربه بمقام الولد من النبي؛ كما كان الشأن مع نوح وابنه.. وإعمالا للقواعد أعلاه.. فإن كل من عاش على هذه الأرض هو يمني مهما كان العرق الذي تحدر منه أو الأرض التي قدم منها.. غير أن هناك سمات تخص ساكني هذا الصقع من الأرض اختصتهم بها الأقدار دون خلق الله.. وذلك بصريح خبر السماء.. هذه السمات الفارقة أصبحت بمثابة الشاطئ الذي يستقبل الماء مالحا.. ثم يهديه لما خلفه من الأرض عذبا زلالا.. يشهد لهذه الحقائق الطباع المشتركة لكل من استقر في أرض اليمن عبر الحقب والأزمان.. كما يشهد لها سمات اليمنيين التي لم تتبدل حيث حلوا وارتحلوا.. ولا أدل على ذلك من الملامح الإنسانية المائزة لمجتمعات جنوب شرق آسيا حيث امتزج اليمنيون بالشعوب التي فتحت قلوبَها أخلاقُهم.. بالإضافة إلى السمعة الطيبة التي تعطر ذكر الجاليات اليمنية حيث ألقت عصا الترحال وطاب لها المقام.. وقد ظهرت هذه السمات جلية لكل ذي لب.. ولم يصدف عنها إلا كليل النظر رديء الاستبصار.. كل هذا الجلاء لهذه الميزات التي تطبع سلوك اليمني حيث كان.. تنفي نفيا قاطعا أن يكون كل من يضادد هذه السمات قد انتمى بصدق لهذه الأرض أو آمن بروحها التي تكفر بالحقد والتعالي كفرها بأن يستعبد الإنسان أخاه الإنسان تحت أي مسمى أو حجة.. ومن ثم فإنك تقرأ الدهشة في وجوه اليمانية وهم يتابعون إخراج أهل دماج من أرضهم التي ولدوا فيها ودرجوا عليها.. ولم يعرفوا لهم أرضا سواها.. أخرجوا تحت الإكراه.. إخراجا لا يقل بشاعة عما ارتكبه اليهود في فلسطين من تهجير لأهلها الأصليين.. وتحت حجج ليست بعيدة عن هذه الحجج العارية من أي غطاء أخلاقي أو إنساني.. مما يقطع بأن هذه الواقعة وغيرها من الممارسات التي برزت أخيرا في أجزاء متفرقة من اليمن ليست من سمات اليمنيين الأصلاء الذين لا يسألون من وفد إليهم من هو؟ ولا ما جاء به؟.. كما هو شأن المدن الساحلية التي وفد إليها الكثير من المهاجرين وعاشوا فيها بأمان وسلام، أو غيرها من المدن الداخلية التي استوطنها كثير من غير أبنائها.. بل وصاروا فيها أصحاب الحول والطول.. بل والإمارة في كثير من الأحيان.. كما كان الحال مع الأمراء والملوك الرسوليين والنجاحيين والأيوبيين وغيرهم.. بما فيهم أجداد الحوثيين الذين حكموا لأكثر من ألف ومائتي عام أشد عَجَفًا من سني يوسف.. أكلن ما قدم اليمنيون من صور ناصعة في التاريخ الطويل العريض.. لكن هؤلاء الأخيرين ورغم طول المكث مع اليمنيين ظلوا على جلافتهم واحتفظوا بطباعهم الغليظة، ولم ترققها مخالطة اليمنيين الذين شهد لهم الرسول الكريم بأنهم أرق قلوبا وألين أفئدة، فبقوا على حالتهم التي وفدوا عليها أول مرة.. وعبر التاريخ كانوا سببا للكثير من الفتن والحروب وعلة لاقتتال اليمنيين فيما بينهم إرضاء لنزوات الاستعلاء لدى أئمتهم وكبرائهم.. وأظن أن الوقت قد حان للاستفادة من دروس التاريخ.. بحيث توضع ضوابط صارمة لمنع كل عتل جواظ من أن يتسنم قيادة شعبٍ دينُه الحُب، كما وصفه الله في كتابه الحكيم بقوله: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} علما أننا ندين استهداف أحد لنسبه أو لمذهبه وعقيدته، إن لم يكن ممن يحاول إكراه الناس على اعتقاد ما يؤمن به أو يحقرهم ويتعالى عليهم بنسبه.. فجميع من سكن هذه الأرض شركاء في هذا الوطن لهم ذات الحقوق وعليهم ذات الواجبات الوطنية.. كما ضمنته الشريعة الإسلامية وتضمنته الدساتير المتعاقبة.. لكن الحديث يخص كل من يستعلي على اليمنيين ويعتبر نفسه فوقهم نسبا أو دينا -أيا كان نسبه ومذهبه-.. ولهؤلاء نقول: لا مقام لكم فارجعوا..