هل الصدام حتمي بين الاسلاميين والعلمانيين أم ثمة فرصة لبناء توافقات وطنية؟ الصدام ليس حتميا وهناك فرص كثيرة لبناء توافقات وطنية ولكن قبل ذلك لابد من أن تقوم النخب بمراجعة لخلفياتها الفكرية والعلمية ثم التكيف مع المتغيرات الواقعية حتى تصل الى التوافق من خلال الحوار الجاد والصادق, وتجربة اليمن في اللقاء المشترك إنما هي نتيجة لما كان يجري من حوار في المؤتمرات الإسلامية والقومية ولذلك عندما شعر النظام بهذا التقارب بين الحزب الاشتراكي والاصلاح وبقية الاحزاب قام بقتل مهندس اللقاء المشترك الشهيد جار الله عمر في 28/11/2002 وفي المؤتمر العام للإصلاح وبهذه الجريمة أراد النظام القضاء على المشترك في مهده ولكن قيادة الحزب الاشتراكي وقيادة الأصلاح كانوا في مستوى المسؤولية فعرفوا من وراء عملية القتل والهدف منها فاستمروا في تحقيق ما بدأه الشهيد جار الله عمر, فالأنظمة الاستبدادية القمعية لا تريد لأحزاب المعارضة أي تقارب ولذلك سيظل اللقاء المشترك حتى يحقق كامل أهداف الثورة قد يكون عشر سنوات أو اكثر وجاءت ثورات الربيع العربي التي حررت الإنسان العربي من الخوف وستظل هذه الثورات هي المراقبة للأوضاع واعادة انتاج الثورة عند أي انحراف أو عودة الاستبداد سواء كان اسلاميا أو علمانيا وهذا يقتضي تحقيق المواطنة المتساوية وذلك بتكريم الإنسان من خلال اعطائه حقوقه. ولقد اختلفت تجربة الحكم في دول الربيع العربي من دولة إلى أخرى بين التوافق في اليمن والتحالف في تونس والمشاركة في مصر وكلها جاءت بعد انظمة استبدادية دكتاتورية عملت بقايا الأنظمة فيها بكل ما في وسعها لتثبت قاعدة أنه (ليس بالإمكان أحسن مما كان) وشكلت ثورة مضادة استطاعت من خلالها استمالة بعض أطراف الثورة إليها وتجلى ذلك في مصر فإذا وجد صدام فهو نتيجة طبيعية لحالة غياب الدولة ورؤيتها لدى الطرفين أو فشل تجربة الدولة بمختلف توجهاتها العلمانية واللبرالية واليسارية والإسلامية ,كون الصراع يدور حول أن كل طرف ينظر الى أن الدولة هي عبارة عن سلطه سياسية يمكن تسخيرها لأهدافه وأغراضه, وخاصة وأن الحزب الواحد الذي حول الدولة الى سلطة استبدادية تدار حصريا من قبل الحزب وكوادره وأفراده, واقصاء كل القوى والتيارات الأخرى. وبالتالي فإن الصراع ظل قائما حتى والطرفين الاسلامي والعلماني يكتوون بظلم واقصاء تهميش السلطات العسكرية المستبدة الحاكمة أو الحاكم الظالم المستبد, ولم يحاولوا تجاوز مثل هذا التخندق وتشكيل تحالفات سياسية للوقوف في وجه الحاكم والظالم المستبد المعتمد على القوة العسكرية, مع استثناء بسيط في الحالة اليمنية التي انبثقت فيها معارضة وطنية تضم كل الاطراف المتباينة أيدلوجيا وضمت القومي واليسار والاسلامي في تكتل اللقاء المشترك وهو التكتل الذي مثل الحامل السياسي الأكبر لثورة 11 فبراير 2011م الشبابية السلمية ,وظل حتى اللحظة فاعلا سياسيا رغم كل المتحولات الكبرى التي تمر بها البلاد. وبالتالي فإن ايجاد الدولة المؤسساتية القوية والديمقراطية هي البوابة الوحيدة كانت وستكون الضامن الوحيد لخلق حالة التوافق بين الاسلاميين والعلمانيين. كون الدولة هي القاسم المشترك الأوحد بين مختلف التوجهات والتيارات والاحزاب وهي ما اثبتته تجارب كثير من الشعوب كالحالة الأوروبية والأمريكية وغيرها الكثير, حيث تمثل الدولة قاسما مشتركا لكل مواطنيها, ولا يمكن أن يسعى أي طرف تفرزه العملية الديمقراطية بإعادة صياغة الدولة وهويتها ووظيفتها حسب توجهه وأيدلوجيته. أما في الحالة العربية فقد مثلت تجربة الدولة القطرية أو الوطنية فيما بعد الاستقلال الى مثال سيئ للدولة, وقدمت تجربة مهينة ومتناقضته مع شعاراتها التي كانت ترفعها, حيث تحول الإنسان العربي إلى إنسان مقهور الإرادة ومنقوص المواطنة, ومسحوق الكرامة حيث عاش محاصرا حتى في تفكيره من قبل اجهزة قمع بوليسية, رغم كل شعارات الحرية والكرامة والوطنية والعدالة التي كانت ترفعها تلك السلطات الحاكمة. لقد أضفت تطورات الثورة المصرية وقبلها السورية, حالة من الفرز بين مختلف القوى والتوجيهات, فظهر الكثير من التناقض حتى على مستوى الثورات التي كانت ترفعها تلك القوى حول الحرية والديمقراطية والعدل والمواطنة المتساوية والتعايش والقبول بالآخر وسقطت بعض القوى أمام هذا الاختبار الذي أبرز الكثير مما كان تحت سطح المشهد السياسي العربي من تناقضات اجتماعية مرضية. فعلى سبيل المثال, كانت تمثل الهوية العربية والإسلامية هاجسا كبيرا لدى التيارات الاسلامية, فكانت دائما ما تبدو في مواقفها السياسية وكأنها تقوم بدور الحارس لهذه الهوية, فتشدد في كل شيء حتى على مستوى الحرية الشخصية التي ترى أن عدم مراقبتها يمثل تهديدا لهذه الهوية. وفي الطرف الثاني من هذه المعادلة ,كانت القوى والتيارات العلمانية والليبرالية وغيرها حيث كانت تبدو في مواقفها وتوجهاتها وكأن لا وظيفة لها أن تسعى الى تحدي هوية المجتمع بتبني كل ما يمثل للإسلاميين تهديدا لتلك الهوية ,ومثل هذا الحال من التشابك المستمر سيجعلنا في حالة من عدم اليقين بإمكانية حصول أي توافق بين الطرفين مالم يتم النظر إلى أن الإنسان وحقوقه وحرياته وكرامته هي المدخل الحقيقي لأي نظرة حقيقية لمعالجة كل هذا الخلل والقصور والفشل على كل المستويات في العالم العربي. ورغم كل هذا فلا يزال ثمة فرصة حقيقية لخلق مجال للشراكة والتوافق بين مختلف هذه القوى السياسية والفكرية, وهو كما قلنا التوافق حول وجود وقيام دولة حقيقية دولة ديمقراطية مدنية دولة من أجل الإنسان من أجل المواطن وليس من أجل الفرد الحاكم المستبد وحزبه أو عائلته وبدون هذا المدخل الذي يجب أن يسبق عملية مراجعة وتقييم لتراثنا الإسلامي بشقيه الفقهي والسياسي ومحاولة العمل على إعادة صياغة نظرية سياسية تنبثق من المبادئ والقيم الإسلامية والكلية والمشترك الإنساني العام ,الذي يصب كله في مصلحة الإنسان كإنسان بمعزل عن لونه وعرقه ودينه بحيث تحقق المواطنة المتساوية في الحقوق والوجبات كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في وثيقة المدينة ,وهذه هي الحقيقة التي أشار لها القران الكريم لقوله تعالى((ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)). وهناك فرصة لبناء توافقات وطنية تقوم على الأسس الآتية: الإرادة السياسة لدى جميع التيارات بالاعتراف بالآخر والقبول به وبالتداول السلمي للسلطة. التنافس في البرامج لا في الأيدلوجيات. عدم التمترس حول الخلفيات والثقافات السابقة. جعل مصلحة الوطن هي المصلحة العليا المقدمة على المصالح الحزبية والفردية. الإيمان الكامل بالشراكة الوطنية لجميع القوى السياسية والمجتمعية وعدم الاقصاء والتهميش لأي قوة سياسية أو اجتماعية وأن بناء الوطن يتطلب جهود الجميع ولا يمكن أن تتفرد به قوة سياسية لحالها. الالتقاء والتعاون في القضايا المشتركة التي يلتقي عليها الجميع كالديمقراطية والحرية والعدل والمواطنة المتساوية والكرامة والانسانية على قاعدة (نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه) ونبذ العنف بكل أشكاله وألوانه.. تحقيق أهداف ثورات الربيع وأهمها إنهاء الاستبداد والظلم والطغيان والفساد المالي والاداري. العمل على اقامة الدولة المدنية الحديثة التي تجعل من أهم أهدافها سيادة القانون وتحقيق الديمقراطية والعدل والحرية والمواطنة المتساوية. وضع خطة استراتيجية مستقبلية تتفق عليها جميع التيارات وتعمل لتنفيذها في الواقع وترك الماضي بكل سلبياته واخطائه((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون...))