ها هو يوم الغضب في مصر يثبت بجلاء أن الأنظمة الديكتاتورية العربية أضعف بكثير من أن توصف بانها انظمة فلم تكن سوى ساعات حتى بدا الحكم العتيق في مصر متهاويا وفاقدا السيطرة أمام ارادة التغيير الجارفة بل وعاجزا عن التعاطي مع انتفاضة اربكت أركانه ورموزه في نصف يوم من الغضب . لم ينته المطاف بالنسبة لملايين المصريين من الطلبة والعمال الحالمين بحياة كريمة ومستقرة وخريجي الجامعات والناشطين المطالبين بالعدالة والحرية في تظاهرات يوم 25 يناير بل عاودوا الكرة يوم الجمعة انطلاقا من المساجد في تظاهرات توسعت تاليا وتميزت بجملة سياسية واعية ومطالب حقوقية طالما أجهضها النظام مدى تاريخه الممتد لأكثر من ثلاثة عقود . في ساعات قليلة خرج الشارع المصري بكل شرائحه حتى ربات البيوت والأطفال والشيوخ للتعبير عن مطالبهم في التغيير فلجأ نظام القمع إلى تكتيك العزلة فقطع الاتصالات والانترنت ونشر قواته لقمع المتظاهرين الذين واجهوا القمع بصبر وإصرار للتوسع التظاهرات وتعلن حال الطوارئ في عموم البلاد ثم تستحيل الانتفاضة الشعبية في بعض المناطق إلى أعمال شغب وحرائق مفتعلة اشاعت مخاوف انعكست سريعا على مؤشر البورصة المصرية التي سجلت خسائر فاقت ال 40 مليار جنية مصري في غضون ساعات . قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي وخراطيم المياه لم تكن كافية في قمع المتظاهرين ولجأ رأس النظام الذي أعلن نفسه حاكما عسكريا إلى فرض حال الطوارئ واستخدم القوة المفرطة فسقط ضحايا لكن المسيرة ازدادت وتيرتها بصورة كبيرة في سائر المحافظات المصرية التي أعلنت بصوت واحد " الشعب يريد اسقاط النظام ". كما الحال في انتفاضات الغضب الخارجة من رحم الانتفاضة التونسية أطلت الماكنة الإعلامية المصرية لتسلط الضوء على كبش فداء وأطالت في الحديث عن مسؤولية الحكومة في تدهور الأوضاع المعيشة واخفاق برامج الاصلاحات في استيعاب الشباب الخريجين لتعرض تاليا حلولا في مجلس الشعب وبرامج الإصلاح الاقتصادي لحل مشكلات عمرها إلى أكثر من ثلاثين سنة. ينبغي القول أن الإعلام المصري كان أفضل بكثير من الإعلام العربي الذي يصاب بالخرس المفاجئ أمام حركات التغيير المفاجئة لكن الجميع تعاموا عن حقيقة أن النظام الاستبدادي الذي طالما انكر الحق في المشاركة لم يعد قادرا على مواكبة تطورات الشارع بأحلامه وتوجهاته وتطلعاته التي تجاوزت سقف القبضة الحديدية والإدارة الأمنية بروباجندا تشويه والوعي . كثير من وسائل الإعلام المصرية الرسمية وجدت نفسها مضطربة لمواكبة الحدث بعدما حشرها الإعلام الفضائي في الزاوية إذ لم يعد بالإمكان مع الفضاء المفتوح فرض تعتيم على حركة الشارع وانتفاضته لكن خطاب الأزمة الرسمي لم يستطع تقديم شيء جديد عدا التقليل من شأن ما حدث وفي حالات كثيرة التركيز على مواجهة إعلام دولي يتحدث عن انتفاضة شعبية عارمة . كثيرون في الواقع تعاموا في احاديثهم عن المشكلات العاصفة في بينة النظام المصري كما تعاموا عن الحديث عن اخفاقات الرجل المريض وفساد الحاشية الطفيلية وشبكة رجال الأعمال التي استخدمت الحزب الحاكم سلما في الاستحواذ على ثمار البلد والتحكم بدورته الاقتصادية . وقياسا بذلك فقد غرق الجميع في محاولات يائسة للبحث عن تفسير لما يحدث . في الواقع لم يكن يوم الغضب المصري مستجدا بل كان له اسباب ودواعي كثيرة فالانتفاضة بعثت من وسط معاناة الشارع المصري الذي يعاني من الفقر والبطالة والفساد ومن استحواذ قلة من السكان على النصيب الأكبر من الثروة ومن تضييق في الحريات في بلد يضاهي في مسيرته الحضارية دولة مثل اليابان ويضاهي في مستواه الثقافي والحضاري ما هو سائد في الضفة الأخرى لشاطئ المتوسط . الثابت أن النظام في اليمن طالما تعاطي مع أزمات البلاد على خطى النظام المصري صاحب التجربة العريقة ولعل اتجاه الحزب الحاكم إلى تعديل قانون الانتخابات والإعلان عن التحضير للعملية الانتخابية في أبريل المقبل خارج دائرة التوافق لم يكن سوى رجع صدى للانتخابات المصرية التي أجمع العالم على أنها كانت أكثر الانتخابات تزويرا في التاريخ . في التجربة اليمنية لم يكتف الحاكم بحسم الملف الانتخابي المثير للجدل بل زاد بقلب طاولة الحوار الوطني على الجميع بعدما كان الافرقاء السياسيين على وشك وضع اليمن في طريق الحل الآمن لأزماته استنادا إلى قاعدة التوافق وتاليا قدم مشروعا لتعديل الدستور كشف فيه المستور في مساعيه المحمومة التي لم تتفق يوما مع توجهات الحوار الوطني بالتأسيس للتوريث ووضع البلد في المجهول . سأم الناس في الواقع من هذا النظام الذي فشل في بناء دولة حديثة متماسكة تماما كما سئم رموزه الذين لا يجهدون سوى في ابتكار وسائل كبح الإرادة الشعبية للتغيير والهروب بعيدا من التزامات الشراكة . سأم الشارع القدرة العجيبة للنظام في التغرير بالشارع والتحايل على الاستحقاقات المتواضعة التي لا تزايد عن حكم محلي واسع الصلاحيات يخفف من وطأة هيمنة الفرد والأسرة الحاكمة ويتيح شراكة سياسية تشعر الجميع بأنهم شركاء في وطن يستحق الدفاع عنه وعن مقدراته . أثبت رموز الفساد أنهم لا يستطيعون تقديم جديد لصالح هذه البلاد فاكثر ما باستطاعتهم أنجازه هو دبج الاتهامات والشتائم للآخر وأكثر من ذلك تعبيد الطريق امام الرئيس للبقاء رئيسا مدى الحياة وتجنيبه عناء فزاعة تدوير منصب الرئاسة التي صارت في قاموس الحاكم أمرا غير معقول في بلد كاليمن . انتكاسات كثيرة شهدناها في الشهور الأخيرة لم تكن سوى محاكاة رسمية غبية للتجربة المصرية في انتخابات 2010 حيث آلت سفاهة الحزب الوطني الحاكم إلى ابعاد كل الخصوم السياسيين والتفرد بمقاعد مجلس الشعب المصري. مشهد بدا وكأنه انجاز كبير لحزب الرئيس مبارك لكنه في المقابل انتج حال احتقان تفاعلت تحت الرماد وانتجت ثورة ضد نظام فشل تماما في الصمود أمام عاصفة التغيير الشعبية التي لم تعد تطالب فقط بالتغيير الديمقراطي بل باجتثاث النظام. معلوم أن أحزاب المعارضة المصرية لم تكن موجودة في الصفوف الأولى للانتفاضة الشعبية الحاصلة في مصر كما لم يكن لها أي وجود في مسار حركة الاحتجاجات التي نبعت من معاناة هذا الشعب وهمومه اليومية. الدرس المصري لا شك سيجبر مغامري الحزب الحاكم في بلادنا على أعادة حساباتهم فتكرار نفس التجربة يعني أن القادم سيكون خارج نطاق السيطرة في حين أن الحلول التي اعتدناها من الحكم في التعاطي مع الازمات الكبيرة والتي تعتمد التسويات مع الخصوم السياسيين وصفقات اللحظة الأخيرة لن تكون مجدية هذه المرة لأنها لن تكون على الأرجح طوق نجاة مثالي من طوفان التغيير الذي يداهم الجميع . ....................// [email protected]