صوته صلوات وتراتيل تبعث فيك السكينة والطمأنينة، وكأنك في معبد وقور يضاعف فيك الإيمان والحب والجمال. وهل أحدٌ يجحد أو يجهل صوت الفنان علي بن علي الآنسي، وإيقاعاته الملائكية الطاغية والمتوغلة في صميم وجدان الشعب اليمني، لما لأغانيه العاطفية وأناشيده الوطنية من حب وعاطفة وصدق ومجد واسع. لكن في المقابل قد يجهل كثيرٌ من هواة الفنان ومحبيه تفاصيل حياته، وما لاقى فيها من معاناة وضيق ومرض وتهميش وتجويع، بسبب مواقفه وأرائه الوطنية تجاه الأحداث والتحولات السياسية المتلاحقة. حيث استطاع أن يعكس مواقفه المعارضة للانحرافات السياسية من خلال بعض الأغاني والأناشيد الوطنية ذات النزوع الشعبي، وهو ما جعل صداها مدوياً وواسعاً. لقد كانت أغنية واحدة كفيلة أن تورث الفنان الآنسي الوجع الطويل، وهي أغنية "أنا الشعب يا أفندم" التي تعد من أكثر أغانيه قرباً من بسطاء الشعب وفقرائه، وأكثر تداولاً بينهم في فترة زمنية ما، كما تعد أكثر بغضاً لدى الحاكم السياسي حينه، إذ لاقت على المستوى الشعبي احتفاء وانتشاراً واسعين، لأنها راجت في البداية سراً، وبعيداً عن عيون الحاكم، وظلت هكذا فترة من الزمن في عهد الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني. ولكنها ظهرت إلى العلن وبلغت الآفاق في بداية حكم الشهيد إبراهيم الحمدي، الأمر الذي جعله يعتقد أنه المقصود من ال (أفندم)، وبالتالي ساءت العلاقة بين أجهزة الرئيس الإعلامية والحكومية وبين الفنان الآنسي، بلغت أحياناً إلى درجة توقيف راتبه، وتضييق الخناق عليه، وإبعاده عن وسائل الإعلام والمشهد السياسي والفني بشكل عام. نعم، لقد كانت أغنية (أنا الشعب يا أفندم) السبب في جفوته ومضايقته، مع أن الأغنية كانت تستهدف الممارسات الخاطئة من مراكز القوى، ومن أبيات هذه الأغنية (أنا الشعب يافندم أنا الشعب يا وزير/ أنا الشعب بانيكم وباني لكم سرير/ وباني كراسيكم مذهب مجلسة/ أنا الشعب يافندم أنا الشعب يا وزير حميتك وعلمتك وخليتك الأمير/ ولأجلك تسلقت الجبال المملسة/ أنا الشعب يافندم أنا الشعب يا وزير وطاردتهم بالجندي الكادح الفقير/ ودافعت عنك الشر وأنا محارسة...). وقراءة أبيات الأغنية تشير إلى وجود اختلال كبير في بنية الحكم، وتذمر واسع من أبناء الشعب تجاه رأس النظام الذي بناه الثوار الكادحون والمناضلون. المهم، لقد أورثت تلك الأغنية الفنان حسرة ووجعاً، وثمة فيلم وثائقي عن الفنان الآنسي بثته قناة "السعيدة"، تحس عند سماع شهادات رفاقه بفظاعة الآلام والأوجاع التي لحقت بالفنان بسبب هذه الأغنية، حيث حورب في وظيفته ومعيشته وفنه، إلى درجة يجمع فيها كافة أصدقائه أنه عاش حياة مادية صعبة وبائسة جداً في معظم حياته وأوقاته، اضطرته مرة إلى إغلاق بيته على نفسه لكي لا يعلم أحد عن حالته المأسوية، ومرة ثانية اضطرته إلى أن يعمل سائق (تاكسي بيجو) خط صنعاء - تعز؛ ليوفر لأسرته لقمة عيش شريفة،، وكانت فرزته تمشي متى وصل ودون اعتراض من أحد، كعلامة حب الناس له وإجلال شخصه وفنه. يقول صديقه المنشد (قاسم زُبيدة) أنه عاش حالة الكفاف المدقع، وأنه ذات مرة اشترى له مربط قات وذهب إلى منزله وأجبره على النهوض من النوم، فإذا بالفنان يرد عليه (ناهي مربط قات بدون غداء). إنه موقف مؤلم جداً. ومع ذلك يؤكد (زُبيدة) أنه عاش نزيه النفس لم يستجد أحدا، ولم يمد يده يوماً مطلقاً لأحد من المسئولين. هكذا عوقب الفنان الكبير علي بن علي الآنسي ليعيش حياته فقيراً ومريضاً ومطارداً، وهو من غنى للوطن (173) أغنية وطنية وعاطفية وزراعية، منها (34) نشيداً وطنياً. لقد كانت لديه نية لإثراء التلفزيون بتسجيلات متنوعة، لكنهم ضايقوه وتعاملوا معه بنوع من البرود فأصيب بخيبة أمل. لقد كانت الالتفاتة الهامة نحو الفنان عام (1980) من قبل الرئيس السابق علي عبد الله صالح، حين أعطاه منحة علاجية إلى روسيا، استمرت لمدة ثلاثة أشهر، وبعد عودته سجل آخر أنشودة له وهي أنشودة "نحن الشباب" . ليس غريبا أن يُظلم الفنان الآنسي حياً وميتاً، كما يقول أصدقاؤه، فهذه هي حياة المبدعين الأحرار في مختلف فنون الإبداع، إنهم عرضة للقهر والمضايقة والإذلال.