لم يكن لأحد أن يتنبأ بما كان يدور في تجويف جمجمته الصغيرة من أفكار، ولو أن عرافا تنبأ بأن عيسى بائع الماء -الطفل الفقير- سيصنع تاريخا، ويغير في مجريات الأحداث، وأن العالم سيتحدث يوما عن إنائه ذاك لاتهم بالجنون، وأحيل إلى مصحة نفسية، لكنه لن ينتظر طويلا -بين المجانين-، ولابد أنه سيتلقى الإعتذار المناسب أيضا، لأن "عيسى محمدسيف" أبهر الجميع فعلا، وصار محل إجماع غير مسبوق بأنه شخصية خارقة للمألوف في وقت وجيز... كان يتجاوز العاشرة من العمر بقليل حينما وصل عيسى إلى عدن، وفي مدينة صاخبة مثلها، لم تكن لتأبه لذلك الوافد الجديد أن يكون قدره الانضمام لطوابير المتشردين على أرصفتها، لكن الطفل ظهر وكأنه كان يتحسب لما هو أصعب على احتماله، فلم يفاجئ بشئ، رغم قسوة الأقدار، مظهرا أولى مؤشرات شخصيته العبقرية، بانجازه أحد أسرع العمليات الحسابية في اتخاذ قرار، ووفقا لامكاناته التي لم تكن لتسمح له باقتناء أكثر من إناء يمنحه وظيفته من خلال بيع الماء للمارة على رصيف ما، في عدن -درة المستعمرات البريطانية- وبدوام يأخذ نهاره بالكامل ... تفوق عيسى على مقتضيات الزمان والمكان، وبتلقائية عجيبة انطلق يتصرف بعقلية شاب في ضعف سنه، ويبتكر الحلول بفطنة خبير يدرك تفاصيل أرض المعركة، معركته التي جاء إليها خصيصا، وبدا الفتى كأنه قد خاض التجربة مرارا في حيوات سابقة، والحقيقة أن الأيام كشفت سره لاحقا، وثبت للجميع أن الجزء الذي يعلو رقبة الفتى كان مضخة للأفكار العملاقة، مضخة لا تهدأ أبدا... ثم جاء قراره التالي سريعا، القرار الاستراتيجي بالانضمام لأحد المعاهد الليلية، ولم يتخلف عيسى عن أي منهما إلا للمشاركة في المظاهرات المناهضة للاستعمار البريطاني وعملائه، حتى قامت ثورة 26 سبتمبر 62م، فغادر إلى تعز ليلتحق بالدراسة فيها، وليقوم بدور نضالي أكثر تأثيرا في الحركة الطلابية، وقد تم انتخابه عام 1964م -بالاجماع- “كأول رئيس لاتحاد طلابي في «الجمهورية العربية اليمنية »... لكنه ترك رئاسة الاتحاد بعد فترة بسبب إختلاف في التوجهات مع زملائه (الطلاب البعثيين والحركيين)، ليؤسس ما سمي ب«القاعدة الطلابية» والتي كانت نواة ل«تنظيم الطلائع الوحدوية »، ومن نشاطه النضالي الطلابي إلى الأندية الثقافية والنقابات، متبنيا مواقف مصر عبد الناصر ومدافعا عن ثورة يوليو وتوجهها القومي ودورها في الدفاع عن الثورة اليمنية، وواجه من خلاله حملات الدعاية “المنظمة “ ضد الوجود المصري باليمن... إن القائد ليس هو الرجل الأول في مكان ما وكفى، فلطالما رأينا كثيرا من الحمقى في الصدارة، كما أن القائد ليس هو ذلك الآمر والمتحكم فحسب، لأن هذا قد ينطبق على أي دكتاتور وضيع، قد يصل به الشطط ليظن نفسه إلها، وعلى الأقل فإني أحسب أن القائد هو "القدوة"، والقائد هو النواة والبؤرة ومركز الجاذبية للمجموع، كما في المجموعة النجمية والكواكب السيارة التي تدور في افلاكها، لهذا نقول أن عيسى قائد حقيقي، فقد فعل كل ذلك قبل أن يتم دراسته الثانوية، وقبل تأسيس العمل التنظيمي الشامل للناصريين... ولابد أن سيبويه نفسه، لو كان حاضرا، لم يكن ليعترض على أن المآثر الخالدة أعظم من أن تقاس بميزان القول، لأن الوقائع أكثر بلاغة من ثرثرة فرسان الكلام التي لا يفتتن بها إلا الغاوون، أما في قواميس مدرسة النضال فلا مكان للاستسلام وأشباهها، أوالخضوع والخوف ومرادفاتهما، وتعد هذا النصف من اللغة ممنوع من الصرف في تعاملات الثوار، غير قابل للاشتقاق فى مناهج النضال الحداثي، فتكتفي بالنصف الآخر من لغة الأولين، فقط النصف الذي لا يعترف بالمستحيل... لقد استطاعت القاعدة الطلابية - بعد سنتين أو ثلاث فقط من إنشائها- أن تسيطر -بالوعي والانتماء الناصري- على معظم القطاع الطلابي، بما كان يمثله هذا القطاع حينها من ريادة وقيادة للعمل الوطني بشكل عام، لتكون هي صاحبة الفعل الثوري، والقائد للحركة الوطنية بتعز، ثم تجاوزت الاطار الطلابي ليمتد تأثيرها إلى القطاعات العمالية وصغار التجار وسائقي السيارات... إننا عادة ما نهز رؤوسنا بمعنى الموافقة أمام عبارات جاهزة، ومقولات معلبة، فقط لأننا اعتدنا سماعها، وليس لأننا ندركها، بل أننا عادة ما نستهلك الكثير منها، لكن نوعية خاصة من البشر لديها نزوع للتفكير المنطقي في التعامل مع المعطيات كالحواسيب، وليس من المبالغة أن نقول أنها قد تهزم الحاسوب نفسه في السرعة والدقة للوصول لنتائج (قرارات) منطقية، وهذا يحدث كثيرا، وهناك من يهزم أرقى الحواسيب في لعبة الشطرنج المثيرة مثلا... إنه النبوغ البشري، وما يحوزه هذا المخلوق العبقري من الملكات والقدرات الخارقة، ولكن الأكثر إثارة للإعجاب تلك التي تتجلى دون مقدمات، وتأتي كمواهب فردية في شخص ما، دون تدخل خارجي محسوس، وكأنها تفوق جاء بالفطرة، وشخصية القائد الناصري عيسى تندرج ضمن هذه الفئة النادرة من البشر... *البطل: القائد الناصري الشهيد عيسى محمد سيف، أمين عام الحركة الناصرية في اليمن، قائد حركة 15 اكتوبر 1978م الناصرية المجيدة. يتبع...