- أيها الناس: "إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميتا، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي". - رأينا ياخليفة رسول الله رأيك. - أمهلوني بضعة ايام حتى انظر لله ولدينه ولعباده. دار هذا الحوار في العام الثالث عشر للهجرة شهر جمادى الآخرة. لفتة لطيفة تحمل كمالا إيمانيا وذوقا إنسانيا لا تجد لها مثيلا عند حكامنا اليوم؛ متشبثون بالسلطة وهم منحنو الظهر أو مقعدون على الكراسي في حالة هم إلى القبور أقرب! - ماذا تقول في عمر بن الخطاب؟! - ما علمنا عليه إلا خيرا وامتدحوه وأثنوا عليه. توحدت آراؤهم فيه عند الإجابة على سؤال إستشاري صريح موجه من الخليفة على انفراد لعدد من كبار الصحابة (عبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، علي ابن ابي طالب وغيرهم، إلا طلحة بن عبيد الله فقد أبدى اعتراضه وخوفه من شدة عمر وقسوته). بعدها اطمأن الخليفة، وأتى لهم بطبيب حاذق لديه الرأي الثاقب والدواء الناجع لدنياهم، الذي قال فيه النبي (ص): (والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا وسلك فجا غير فجك). أطلع الخليفة عمر بما عزم فأبى أن يقبل، فتهدده بالسيف فما كان أمام عمر إلا أن قبل. ثم كتب الصديق عهدا يقرأ على الناس في المدينة وفي الأمصار. لقد مر الفكر الإنساني مر بمراحل عدة في عملية تطور إجتماعية تراكمية من التجارب والخبرات الإنسانية ومنها الديمقراطية والعلمانية، حتى وصلت إلى مانراه اليوم من أنظمة حكم ديمقراطية عالية المستوى، تعتمد الإنتخاب "الشورى" مبدأ أصيلا في اختيار الرؤساء والحكومات وممثلي الشعوب في البرلمانات، ما يضمن حقوق المواطنين البديهية والأصيلة في اختيار ممثليهم ومن يحكمهم. هذه المراحل تطورت من البدائية إلى النظام القانوني الدستوري الشامل عبر القرون حيث تشكلت فيه الرؤى والأفكار وتغيرت وتبدلت القناعات بإستمرار ولم تك وليدة اليوم والليلة. وهذا ما قام به أول خليفة للمسلمين، حيث اجتهد في تحقيق المبدأ وبرؤية جديدة عما فعله رسول الله (ص)، فأراد أن يختار المسلمون خليفتهم بأنفسهم دون قيد، وبإرادتهم الحرة بلا تدخل. - أترضون بمن استخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا! - سمعنا وأطعنا. قرأ عثمان بن عفان رضي الله عنه العهد على الناس ثم قال: - أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ - نعم! فأقروا بذلك جميعا ورضوا به وأقبلوا عليه يبايعوه. بعد الفراغ من دفنه، صعد عمر المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبى (ص)، وذكر أبا بكر بكل خير، وقال: أيها الناس ما أنا إلا رجل منكم، ولولا أنى كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله ما تقلدت أمركم، فأثنى المسلمون عليه خيرا، وزاد ثناؤهم حين رأوه يرفع بصره إلى السماء ويقول: اللهم إنى غليظ فلينى، اللهم إنى ضعيف فقونى، اللهم إنى بخيل فسخنى.وفى اليوم التالى لتوليه الخلافة خطب خطبة أخرى، يوضح فيها طريقته فى الحكم، ويزيل ما قد علق فى نفوسهم من خوف من شدته وقسوته التى صرحوا بها لأبى بكر حين رشحه للخلافة، وقال في أخرها: "واعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت - أى زادت - فارتعدوا، لكنه طمأنهم فقال: ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدى على المسلمين، فأما أهل السلامة والقصد - أى الاعتدال - فأنا ألين لهم من بعضهم على بعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا أو يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمى على الخد الآخر، حتى يذعن بالحق، وإنى بعد شدتى تلك أضع خدى على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف......وأعينونى على أنفسكم بكفها عنى، وأعينونى على نفسى بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من أمركم، أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم". طريقة إختياره رضي الله طريقة مبتكرة، حضارية أصيلة اعتمدت مبدأ الشورى أساسا إمتثالا لأمر الله عز وجل في كتابه "وأمرهم شورى بينهم". وقد طبقت هذه الإستشارة في اختياره ثلاث مرات: - مرة عندما طلب منهم اختيار خليفة لأنفسهم ففوضوه نيابة عنهم. - والثانية حين عرض عليهم شخصية عمر رضي الله عنه فقبلوا. - والثالثة حين قرأ عليهم عثمان الكتاب وسألهم: أتبايعون من في هذا الكتاب؟ فأجابوا بنعم! فقد حصل إجماع عليه فهم يعرفون قدره ومنزلته، وهذا يدحض مزاعم الرافضة أنه لم تكن شورى ولم يحصل عليه إجماع. وما إعتراض نفر من المسلمين على تولية عمر إلا دليل قوي على مبدأ الشورى وحرية الرأى وحق التصويت، وهذا هو صوت المعارضة، وليس بالضرورة ان يحصد نسبة 100% من الأصوات، فهكذا هي الديمقراطية الحقة ولكن بطريقتها الأولى. فنسبة 97% لا تتواجد إلا عند أهل الديكتاتوريات من حكام المسلمين اليوم. فوضناك أيها القارئ الكريم، فاحكم على أدعيآء الحق الإلهي والطاعنين في سيرة أعظم رجلين بعد رسول هذه الأمة، وعلى من يستميتون للوصول إليها!