الدين عبارة عن مشروع حياة، وعقد ينظم العلاقة بين الفرد وربه، وذلك لتحقيق الغاية التي خلق الله من أجلها الإنسان، وهي تعمير الأرض. الدين هو منجم للأخلاق، والأعمال الصالحة، وإصلاح ذات البين، وحفظ كرامة الإنسان. ولأن طبيعة البشر مجبولة على حب المال والبنين والسلطة والمكانة الإجتماعية؛ فهم يهدرون جُل أعمارهم في التنافس والصراع، والتدافع لإقتناء وحيازة مُتع الدنيا. فأدوات الحصول على زُخرف الدنيا تتمثل في العِلم والمعرفة والكفاءة والتميز، والقدرة على تقديم مشاريع إعمار وبناء وتطور. هذه الأداة لا يملكها ويحبذها ويفضلها إلا القلة من الناس؛ ومن فشل في حيازة تلك المؤهلات والقدرات، سلك مسالك أخرى، للوصول إلى مكامن المال والسلطة، ولذا تلجأ تلك الفئات إلى أدوات أكثر فاعلية وأقل كُلفة، كالقرابة من السلطان أو النفاق والخداع والأحتيال. أداة أخرى فعالة وسريعة، يلجأ إليها ويفضلها البعض، في سبيل حيازة مباهج الدنيا بطرق غير مشروعة، وهي إمتطاء مَرْكَبُ الدين، للاِستعاضة به عن تقديم مشاريع حياة وإعمار. فعلى مر العصور تنشأ وتتكون وتتكور وتتجمع وتتحلق فئات من الناس حول "مغانم" الدين لا مغارمة، وتعمد إلى تحويله لوظيفة تناسب مقاساتهم وإمكانياتهم، البدنية والعقلية والوظيفية، لجباية الناس، وإسترقاقهم واِستعبادهم بإسم الله. المجتمعات الغربية عاشت أحلك عصور الظُلم والجهل والتخلف، عندما كانت الأبواب مُشرعة أمام الموظفين ( رجال الدين) الكنسيين؛ فحدث تداخل في إدارة الدولة والكنيسة، وتضارب بين الحقوق والواجبات. فتّمكنَ الجهلة (بكيفية إدارة الدولة من موظفي الكنائس) من تطويع مؤسسات الحكم ونوافذ المال لصالحهم، بمقاسات دينية في ظاهرها، شخصية إنتهازية مصلحية في باطنها؛ فحلت الحروب والمجاعات والتخلف. عندما قررت الأمم الأوروبية الخروج والتخلص من ربقة الجهل والتخلف والدمار، سارعوا إلى سن تشريعات تنظم العلاقة بين الدين والقائمين عليه والمتحلقين حول مغانمة، وبين الدولة وأجهزتها، وسيجوا مؤسسات الحكم بتشريعات تُقدس الإنسان وتحافظ على كرامته، بعيداً عن معايير التدين أو القُرب والبعد من الله؛ وتُعلي من قيم العمل والبذل والإجتهاد والعطاء والإنجاز، فتحولت القارة الأوروبية إلى واحة من التطور والرخاء والأزهار؛ ولم يصلوا إلى تلك النتيجة الرائعة إلا بعد النجاح في إِعلاء وتطبيق قيم العدالة والمواطنة المتساوية؛ وفرض حق تكافؤ الفرص في الوظائف العامة والخاصة. مازالت الأُمة الإسلامية ترزح تحت وطأة التداخل بين إدارة الدولة وإدارة المسجد. فصارت مهنة رجل الدين أو مايسمى "بالعالم" هي أنسب مهنة لكثير من الكسالى والعاطلين؛ والغير متعلمين، وذلك لنيل السلطة وحيازة الثروة، والمكانة الاجتماعية بإقل جهد وأدنى كفاءة وأهلية، وأسرع وقت. فتحول خطيب الجامع إلى وزير، ومؤذن المسجد إلى محافظ، والحافظ لعدة سور من القرآن الكريم إلى محافظ بنك؛ وصارت العمامة والدجلة والسبحة واللحية والثوب القصير والسواك مؤهلات لكثير من طلاب السلطة والثروة؛ وأدوات لقمع الناس وأخذ حقوقهم، كما هو حال بغدادي العراق وحوثي اليمن؛ وخامنئي إيران وظواهري أفغانستان.! وتحول الدين من مصدر إشعاع أخلاقي وقيّمي وتنويري للناس، إلى مُطية للبعض، لتحقيق أغراضهم الدنيوية، فظهرت المذاهب الإسلامية والأحزاب الإسلامية والجماعات الإسلامية والملابس الإسلامية والبنوك الإسلامية، وقصات الشعر الإسلامية، والأناشيد الإسلامية والطب النبوي، والماء المقروء عليه، والدول الإسلامية ( جمهورية إيران الإسلامية)، وسلاح مقاومة إسلامي وقنوات فضائية إسلامية ومأكولات إسلامية؛ وجماعات عنف إسلامية، كداعش والقاعدة وأنصار الله وحزب الله، وبوكوحرام، وجُند الله وأحباب الله، ..الخ. بالمقابل لم نرى أو نسمع أو نعلم عن سيارة إسلامية صُنعت لجمع النفايات من الشوارع، أو سماعة إسلامية لأذن شيخ أصم، أو علاج إسلامي للبواسير والسكري وضغط الدم؛ أو حتى قلم رصاص إسلامي؛ وتُرك كل ماله صله بتعمير الأرض وأحياء النفس، والحفاظ على سلامة وصحة وممتلكات الإنسان بعهدة الأمم "الكافرة" لتصنيعها وإرسالها إلينا.! نحن لا نحتاج لفصل الدين عن الدولة بل نحتاج لتنظيم علاقة الدين بالدولة، وكذلك سن تشريعات تقف حائلاً أمام العاطلين عن العمل من إتخاذ الدين كوظيفة لجني المال، وإمتطائه لإختطاف السلطة. فديننا الإسلامي دين الله، وطريق للحياة وميثاق للسلام والمحبة والعمل والعدالة والمساواة لا دين للكراهية والنصب والحروب وإستعباد الناس والتفرقة بينهم؛ فالطريق إلى الله يمر عبر تأمين مأكل ومشرب وأمن وسلامة وصون كرامة الإنسان. نحتاج فقط لفصل ماهو للدنيا عن ماهو للآخرة تحت قاعدة " أنتم أدرى بشؤون دنياكم"، لتجنب الخلط بين القانون الدنيوي والأخروي. وهناك مؤسسات داخل الدولة من الأهمية بمكان أن تُدار وتُحكم بعيداً عن رجال الدين؛ بكفاءات فنية علمية وتراكم معرفي وخِبرات متخصصة؛ فالدولة هي مظلة يستظل بأمنها وخدماتها الناس بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو لونهم أو معتقدهم. زُرت قبل أيام متجر كبير PC WORLD في لندن، فيه الآلاف من الأجهزة والمعدات المتطورة، التي لاغنى للإنسان عنها؛ ووجدت هناك كل ماله صله بتعمير الأرض وخدمة الإنسان، وحفظ حياته وكرامته، وتحقيق أمنه وسعادته. فقط شيئان لم أجدهما؛ الأول لم أجد جهاز واحد سُمي بجهاز مسيحي أو يهودي، والشيئ الثاني لم أجد جهاز واحد صُنع بأيدي عربية مسلمة!. نحتاج لثورة فكرية شاملة، تُصحح كثير من المفاهيم والقناعات والمرويات المغلوطة في ثقافتنا ومذاهبنا الإسلامية والسياسية والثقافية؛ فنحن حتى هذه اللحظة عبئ على دول العالم "الكافرة".!. * مدير مركز وعي لمواجهة التطرف المذهبي. سفير يمني سابق. لندن 28 مارس 2019م.