الثالثة خلال ساعات.. عملية عسكرية للحوثيين في البحر الأحمر وتدمير طائرة    اشهر الجامعات الأوربية تستعين بخبرات بروفسيور يمني متخصص في مجال الأمن المعلوماتي    الإطاحة بشاب أطلق النار على مسؤول أمني في تعز وقاوم السلطات    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    الوجع كبير.. وزير يمني يكشف سبب تجاهل مليشيا الحوثي وفاة الشيخ الزنداني رغم تعزيتها في رحيل شخصيات أخرى    رجال القبائل ينفذوا وقفات احتجاجية لمنع الحوثيين افتتاح مصنع للمبيدات المسرطنة في صنعاء    حقيقة وفاة ''عبده الجندي'' بصنعاء    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    حضرموت هي الجنوب والجنوب حضرموت    الزنداني يلتقي بمؤسس تنظيم الاخوان حسن البنا في القاهرة وعمره 7 سنوات    حقائق سياسية إستراتيجية على الجنوبيين أن يدركوها    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    الضربة القاضية في الديربي.. نهاية حلم ليفربول والبريميرليغ    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدولة، بين الديني، والمدني
نشر في الجمهورية يوم 05 - 09 - 2012

لن أدخل وأنا أقرأ هذه الفقرة من البحث حول الدولة المدنية الحديثة في الجدل السفسطائي، والعقيم، حول أن (الإسلام دين، ودولة)، ومنها أن (الحل في الإسلام) ومن ضرورات قيام دولة الخلافة، التي قدمنا لها قراءة سريعة في مواضع مختلفة من مقدمة هذا البحث، ولن أخوض في غمار المناقشات الجدلية الدينية، المذهبية، الفقهية، التي يفضلها البعض ليحرف النقاش عن مساره، وعن طابعه المحدد، وهي الدولة، التي ينشدها الناس ويرجونها، والكلام هنا واضح ومحدد، أن الحديث مقصود به علاقات الناس في الدولة (السلطة) وليس في الدين المقدس ... الدولة التي يفترض أنهم يقعون في ظل إدارتها، وحمايتها، ورعايتها، ويقفون على مسافة واحدة منها، ولا يدور الحديث عن عباداتهم، ومعتقداتهم أو طبيعة أديان الناس المنضوين تحت ظل هذه الدولة، وتقسيمهم على أساس من ذلك، فالدولة موضوعياً، وتاريخياً، وفي سياق تطورها التاريخي وجدت قبل الأديان السماوية لتنظم وترعى مصالح أبنائها، وهي كيان ونصاب متعالٍ، وكلي محايد لا علاقة لها بالدين، تمثل وتعبر عن مصالح جميع الأفراد (المواطنين) أو الواقعين تحت ظل أنظمتها وقوانينها، وحمايتها وقد اهتمت وركزت الكتابات شبه المتخصصة في تاريخنا العربي الإسلامي الوسيط بقراءة الواقع السياسي التاريخي السلطاني وأنتجت جملة من الكتابات المتناقضة، المبررة ،والمفسرة، والمشرعة، لقيام الدولة السلطانية باسم المذهب، والدين، وهي دويلات وأنظمة قامت على الفردية، والعصبية، والغلبة، والشوكة القبلية أو المذهبية، أو العائلية في غالبها، وخاصة في منطقة المغرب العربي وكذا مشرقه كتابات: (علي بن عمر بن حبيب الماوردي) ابن الخطيب (لسان الدين) ابن رضوان (أبو القاسم) أبو حمد موسى الزياني، ابن الأزرق (أبو عبد الله) ابن أبي الربيع (أحمد بن محمد) السيوطي (جلال الدين) الطرطوشي (سراج الدين) المرادي ( أبو بكر)، فالإسلام لم يعرف الدولة الدينية الصرفة، والكاملة التمثيل الديني، شأن المسيحية، ولكن الكثير من دول الخلافة الإسلامية منذ الأمويين والعباسيين، وغيرها من السلطنات والممالك والدول الوسيطة حتى دولة الخلافة العثمانية، جميعها كانت في واقع الأمر دول، شبه دينية، شبه مدنية في واقع الممارسة، ولا تفسير لذلك تاريخياً سوى أن هذه الأنظمة والدول، وظفت واستخدمت الدين أداة لخدمة الدولة، والسلطان، لتكريس حكمها أكثر فأكثر باسم الدين، والشواهد التاريخية على ذلك أكثر من أن تحصى.
كما أن الدولة العربية الإسلامية منذ دولة الخلافة الأموية، وما بعدها هي حصيلة -كما سبقت الإشارة- الحضارة، والخبرة الفارسية الساسانية، وكذلك الثقافة اليونانية الهيلنستية، والروحية الدينية الإسلامية، ومن هنا حضور ذلك الخليط في تشكُّلها والذي عبَّر عنه وجودها السياسي التاريخي. وللعلم فإن مصطلح أو شعار (الإسلام دين، ودولة) إنما هو مصطلح ومفهوم معاصر أبدعه وقدمه للفكر السياسي الإسلامي الأستاذ الشيخ حسن البناء، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في الاسماعيلية عام 1928م، حيث يرى أخوه المفكر الإسلامي جمال البناء أن الشيخ الأستاذ حسن البناء هو من (أظهر وأبدع شعار “الإسلام دين ودولة” ونقله من دائرة المتخصصين -سواء كانوا فقهاء أو علماء سياسة- إلى الجماهير بحيث اكتسب شعبية وشهرة مدوية، ولكن الحقيقة -كما يقول- إن حسن البناء عندما وضع شعار (الإسلام دين ودولة)(40) لم يكن يستهدف إقامة الدولة الإسلامية كما تصورها بعد ذلك، المودودي، وسيد قطب، والخميني، ولكنه أراد نظاماً للحكم يستلهم القيم والمبادئ الإسلامية والأصول الإسلامية، وهذه الأصول هي التي عرفتنا عليها النظم الأوروبية، وتحدث عنها الإمام البناء، كما يتحدث الأوروبيون، وليس على طريقة الفقهاء(...) وهذا هو ما يستخلص من رسالته الهامة (مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي، فهو يبني نظام الحكم على ثلاث دعائم، الأولى، الحكم، الثانية، وحدة الأمة، والثالثة، إرادة الأمة)(41) والوقائع السياسية التاريخية تؤكد نظرياً، وعملياً وقوف الشيخ الأستاذ حسن البناء مع دستور 1923م الذي كان إفرازاً للثورة العربية، ولثورة 1919م على وجه الخصوص، وكان مع المؤسسات الدستورية البرلمانية للدولة حينذاك مع عرض لرؤيته التي تتضمنها كتاباته المختلفة.
أن الدولة الدينية أياً كانت وتحت أي عنوان أو مسمى،، يهودية، مسيحية، إسلامية، هي دولة الدين الواحد، وهي إقصائية، وعدائية تجاه الأديان الأخرى، فالقول بدولة تقوم على أساس ديني (إسلامي، مسيحي، يهودي) يشير مباشرة إلى الدولة الدينية، ويفتح الباب واسعاً أمام جميع التقولات والاجتهادات (النظرية، والعملية) حول مضمونها الوطني، والسياسي، والديمقراطي، إن مقاصد الشريعة الإسلامية العليا كما تؤكدها النصوص القرآنية الصريحة الواضحة ،هي مقاصد: العدالة، والحرية، ولمساواة، والكرامة الإنسانية، والعلم، والعقل، إن الدولة الدينية هي مرحلة تاريخية في تطور معنى، ومفهوم، وواقع الدولة، هي دولة سادت في المراحل التاريخية القديمة، والوسيطة بالمعنى الأوروبي أي في عصور الظلام، هي دولة لا علاقة لها بالدين إلا من حيث توظيفه أداة ووسيلة أيديولوجية لقهر المعارضين باسم المقدس السماوي هذا أولاً، ولخدمة السلطة، والسلطان، والدولة الاستبدادية، وهو ثانياً، فالدولة الدينية الكهنوتية ليست مرتبطة بالتاريخ المسيحي فقط ،بل هي تنطبق على أي لحظة سياسية دولتية تاريخية تعمل على توظيف واستخدام الدين لخدمة السلطة، والسلطان، فالكهنوتية (الكهانة) ارتبطت بالمسيحية كواقع تاريخي، ومفهوم نظري ايديولوجي، مؤسسي، ولكنها قطعاً لها تجلياتها وتعبيراتها الواقعية والسياسية، والايديولوجية، في جميع ممارسات وتطبيقات الأديان السماوية، وغير السماوية، فماذا تسمى دولة الخلافة العربية المختلفة (في المشرق، والمغرب) التي حكمت باسم الدين الإسلامي، وكانت في جوهرها استبدادية مطلقة، وملكاً عضوضاً، وراثياً، عائلياً، باسم الدين حكمت وقتلت، واستبدت، وهي في العديد منها دول ثيوقراطية، كهنوتية وفي أكثر نماذجها سوءاً، ألم تكن دول، ودويلات دينية، مذهبية، طائفية (سلطانية) في لباس عربي إسلامي؟ ثم ماذا نسمي دولة الإمامة الزيدية الهادوية التي حكمتنا باسم المذهب الديني، وبالحق السلالي (البطنيين) طيلة عدة قرون من الاستبداد والتخلف الديني والمذهبي؟! مما لا خلاف حوله أن الكهانة، والكهنوتية (كصفة) ارتبطت تاريخياً بالفكر المسيحي، والنظام السياسي الغربي المسيحي، في مرحلة من مراحل التطور التاريخي للدولة الأيديولوجية الكنيسة المسيحية، حيث الكنسية ظل الله في الأرض، ولكن هذه المنظومة الأيديولوجية والسياسية، جرى تجاوزها منذ عدة قرون، ولم يعد لها وجود ،كما تجاوز العرب، والمسلمون دولة الخلافة، ودول السلطنات والإمامة، والإمارات، والمشيخات، والممالك القديمة، (التبابعة، والمكاربة، والأقيال).
والغريب أن نسمع اليوم في اليمن من يقول ويكتب من (أن الإسلام لا يعرف ولا يعترف بأي سلطة كهنوتية تدعي الوساطة بين الله وخلقه، وأن قياس الإسلام على المسيحية قياس باطل من أساسه، فالمسيحية تقوم على نظام كهنوتي معترف به، له سلطانه، ونفوذه، وأملاكه، ورجاله على اختلاف مراتبهم، ودرجاتهم، في سلم القيادة المسيحية، ولا يوجد هذا في الإسلام)(42) وتعليقاً على القول المذكور أولاً: أتفق مع ما يذهب إليه مؤلفا الكتاب المذكور في الفقرة المشار إليها، من أن الإسلام كدين، لا يعرف ولا يعترف بأي سلطة كهنوتية تدعي الوساطة بين الله وخلقه، فالدين الإسلامي كدين بريء من أي وساطة أو كهانة، وثانياً: أن جميع الدول الغربية، الأمريكية، والأوروبية، هي اليوم ليست دولاً دينية، بل علمانية ولكل منها تطبيقه واجتهاده الذاتي الخاص في تطبيق العلمانية، ولم نسمع عن أن أياً من هذه الدول تناصب الدين كدين، العداء، أو تدعو للحرب على الدين، أياً كان هذا الدين، ففي ظل هذه الدول العلمانية (الكافرة) يعيش مئات الملايين من المسلمين، ولهم جميع حقوقهم الدينية، الكاملة، ولا تتدخل الدولة في حياة الناس العبادية وشعائرهم وطقوسهم الدينية الخاصة بهم، بل إنه في معظمها، يسمح لهم ببناء مساجدهم الإسلامية الخاصة، ومراكزهم الثقافية الدينية، -باستثناء دولة أو دولتين، حادت عن هذا الحق- وهي دول مسيحية، بمعنى انتماء غالبية أو معظم سكانها للدين المسيحي وليس بمعنى أن الدولة مسيحية دينية، علماً أن مشكلة بناء الكنائس في مصر ما تزال إحدى دوائر العنف والاضطراب في مصر اليوم، والأهم أن الكنيسة اليوم في الغرب المسيحي تمارس دورها كمؤسسة دينية، لا دخل لها في شأن السياسة، والدولة، ثالثاً: إن المؤسسات الدينية الإسلامية (سنة أو شيعة) لها أملاك الأوقاف، وأملاك الحوزات، وملكية المؤسسة الدينية (الحوزات) وهي في إيران، وفي العراق تصل في الشهر الواحد لأرقام كبيرة من ملايين الدولارات، في العراق حسب احصائية أوردها د. فالح عبد الجبار في مقالة له في صحيفة الحياة اللندنية، والحقيقة، أن أرقام الأرصدة، المالية للحوزات الإيرانية الآتية من مصادر الضريبة (الخمس) وغيرها تصل إلى عشرات إن لم يكن أكثر من مليارات الدولارات المستثمرة في جوانب اقتصادية، ومالية مختلفة، ومعلوم اليوم أن الحركات السياسية في كل المنطقة العربية (المشرق، والمغرب)هي من أكثر وأغنى الحركات السياسية الإسلامية، ولهم استثمارات مالية، واقتصادية، وتجارية كبيرة، داخل بلدانهم، أو في خارجها، وقدراتهم الهائلة على تمويل الانتخابات وإشراك المال السياسي في دعم انتخاباتهم أكبر دليل على ذلك، ومصادر ذلك عديدة ومتنوعة، (السعودية، ودول الخليج، والدول الإسلامية في العالم الإسلامي، إضافة إلى التبرعات الداخلية) ثم ماذا نسمي ظاهرة (المطاوعة) العاملين تحت اسم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في السعودية ، ونماذجها بدأت تنتشر في أكثر من بلد عربي بما فيه اليمن، لفرض إسلامهم الخاص على الناس بالقوة والإكراه، مع أن القرآن الكريم يقول في محكم كتابه (لا إكراه في الدين..) (وجادلهم بالتي هي أحسن...). وقوله تعالى (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) آية (29) الكهف.
صحيح أن الدين الإسلامي كدين لا يعترف بالوساطة، والرهبنة، والكهانة، بين الله، وخلقه، ومع ذلك فعلى صعيد الممارسة والتطبيق السياسي، والاجتماعي التاريخي، عرفنا أنظمة، ودولاً حكمت باسم الدين الإسلامي وقدمت وما تزال تقدم، أسوأ نماذجها في التاريخ السياسي للدول.
إن حديث البعض اليوم عن دولة إسلامية، وخلافة إسلامية، يذكرني بالشعار السياسي الذي رفعته القوى الإمامية، والملكية، بعد قيام ثورة 26سبتمبر 1962م قبل مؤتمر الطائف وبعده، فقد رفع مؤتمر الطائف 1965م شعار (الدولة الإسلامية) (والدولة الدينية) في مواجهة جمهورية سبتمبر، وثورة 26سبتمبر، ولا أرى في حديث البعض اليوم عن دولة دينية، ودولة إسلامية، أو حديث (عبد المجيد الزنداني، ومحمد الصادق المغلس، وغيرهما) عن دولة خلافة إسلامية، سوى رجع صدى لخطاب القوى الإمامية، والملكية في مواجهة ثورة الشباب الشعبية، ومطالبتهم بقيام دولة مدنية دستورية حديثة، دولة تقوم على عقد اجتماعي مدني، مصدر وصاحب السلطة فيه هو الشعب وحده، وكما يرى المفكر الإسلامي خالد محمد خالد، (لكي يكون الشعب حراً يجب أن يسود، ولكي يسود يجب أن يحكم، وهذه هي الديمقراطية، حكم الشعب) (43) وفي هذا السياق وتأصيلاً لحكم الشعب وسيادته، ورفضاً للدولة الدينية يقول الأستاذ خالد محمد خالد في كتابه الآخر (من هنا..نبدأ) (إن أجل خدمة نؤديها للدين، أن نجعله قريباً من قلوب الناس، عميقاً في نفوسهم، وتطعيم الدولة والمجتمع بروحه الحي ومعنوياته الفاضلة، لأنك أن تأتي بحكومة تستغله في تقديس ذاتها وتبرير اطماعها، واستكراه الناس لجبروتها.. وأن الدين يجب أن يظل كما أراده ربه نبوة، لا ملكاً، وهداية، لا حكومة، وموعظة، لا سوطاً(...) وحيث أن الدين شيء، ودعاة الدين والحكومات الدينية شيء آخر، ولا يعد الطعن في هؤلاء الدعاة، أو، في هذه الحكومات طعناً في الدين(...) فالدين حقائق خالدة ثابتة، أما هؤلاء الدعاة، ومتولو شؤون هذه الحكومات فهم بشر من الناس يصيبون ويخطئون)(44) وحديث المفكرين الإسلاميين، وكذا فتاوى رجال الدين الإسلاميين -بمن فيهم رجال الدين المستنيرين- حول قضايا الدولة، وبنائها وشروط قيامها، ومفهومها، هي اجتهادات أيديولوجية سياسية، وليس القول الفصل الديني، القرآني ،وكذلك فإننا لا نرى في حديث البعض اليوم عن دولة دينية، أو دولة إسلامية، أو دولة مدنية، دينية، وهي حالة جمع بين المتناقضات التي لا تجتمع، كما يصرح البعض، أو دولة خلافة إسلامية سوى معارضة ومقاومة ماضوية لمشروع الدولة المدنية الحديثة الذي يقول به شباب الثورة بمختلف تياراتهم ومكوناتهم، وهي اليوم دعوة دينية لدولة ثيوقراطية في شروط عصر مغاير، ولا تمتلك أدنى شروط ومقومات القدرة على الوجود، والحياة، وهي دعوة سلفية ماضوية، صلتها بالسياسة، والمصالح أكبر وأعمق من صلتها بالدين، الإسلامي الذي لم يقل بالدولة الدينية، ولم يعرف في تاريخه دولة دينية، بالاسم الصريح للدولة الدينية، أو الإسلامية، فقط الحكام (الخلفاء، والملوك، والسلاطين، والامراء، والأئمة) هم من كانوا يلحقون بأسمائهم العديد من الصفات والنعوت، والألقاب الدينية، لأهداف سياسية, سلطوية (دنيوية)، مثل الحاكم بأمر الله، الناصر لدين الله، المتوكل على الله، المستنصر بالله، المستعظم بالله، مع أن الخليفة عمر بن الخطان اكتفى بلقب “أمير المؤمنين” بدلاً عن خليفة رسول الله، ودلالة تسمية عمر بن الخطاب هنا تحمل دلالة سياسية اجتماعية بشرية تعني علاقة بين حاكم، ومحكوم، علاقة بين رئيس، ومرؤوس حددها في خطاب توليه الخلافة في صورة العقد الذي قدمه للناس بعد مبايعته سبق أن أوردنا مختصره، وهو لا يختلف عن قسم تولية الخليفة أبو بكر الصديق.
ويمكننا القول إن معظم الدول العربية الإسلامية التي تدعي أنها دول دينية إسلامية، أو تحكم باسم الدين الإسلامي، هي من أكثر الدول والأنظمة ابتعاداً عن روح الدين الإسلامي، والأكثر إغراقاً في الاستبداد الثيوقراطي، وفي التخلف الاجتماعي: بدءاً من السعودية، ونظامي جعفر النميري، والبشير ومعهم د. حسن الترابي، إلى نظام دولة باكستان، ودولة طالبان، حتى دولة ولاية الفقيه المذهبية في جمهورية إيران الإسلامية.
فلا يزايدن أحدٌ علينا اليوم في الحديث عن نموذج لدولة تدعي صلتها بالدين، وتحكم باسمه، ولا يشار إليها بالبنان بأنها دولة ثيوقراطية، مستبدة، كهنوتية، تستخدم الدين الإسلامي أداة ووسيلة لخدمة السلطة، والسلطان .. وهنا أجد نفسي متفقاً مع ما يقوله المفكر الإسلامي الأستاذ خالد محمد خالد (فما حاجة الدين إذاً إلى أن يكون دولة؟ وكيف يمكن أن يكونها وهو عبارة عن حقائق خالدة لا تتغير، بينما الدولة نظم تخضع لعوامل التطور والزمن المستمر، والتبدل الدائم؟ وهل الدين أدنى مرتبة من الدولة حتى يتحول إليها ويندمج فيها؟ ثم أن الدولة بنظمها الدائمة التغيير عرضة للنقد والتجريح وعرضة للسقوط والهزائم، والاستعمار، فكيف نعرض الدين لهذه المهاب، أو بعضها؟ إن الذين يريدون أن يجعلوا الدين دولة، ويؤمنون بوجوب قيام حكومة دينية يبررون ذلك بثلاثة أمور: الأول القضاء على الرذائل، الثاني: إقامة الحدود، الثالث: تحرير البلاد، والعمل لاستكمال استقلالها، وإنعاش أهلها)(45) والأمور والقضايا الثلاثة التي أشار إليها الأستاذ خالد محمد خالد، يمكن أن تقوم بها أي دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تقوم على العدل والحرية، والمساواة بين الناس، كما أن إجابات التاريخ السياسي العربي الإسلامي حول الأسئلة الثلاثة اختلفت، وتعددت، بل وتناقضت، فليست إجابة خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، ومن بعدهما عمر بن عبد العزيز، هي إجابة عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان، وولده يزيد، ولا هي إجابة أبي جعفر المنصور، وعبد الملك بن مروان، حتى الخلافة العثمانية، وصولاً لإجابة الدولة الوهابية السعودية، والإثني عشرية الشيعية الإيرانية (الجمهورية الإسلامية)، حتى دولة طالبان وإرهاب القاعدة وجميعهم يقولون إنهم يحكمون (بما أنزل الله).
إن أحكام الله سبحانه وتعالى في النص القرآني، ليست أحكاماً حول قضية الدولة، وبناء الدول، فذلك ما لا يقول به النص القرآني، ولا السنة النبوية الشريفة، ولا أي كتابة موضوعية تعاطت مع النص القرآني في جوهره، وروحه، وبالعودة إلى القرآن الكريم لا نجد هذه المعاني، ولا تلكم القيم، أو الأفكار والدلالات التي تشير أو تؤكد على الدولة، وأهمية بناء الدول، بل إن مفهوم أو مصطلح الدولة الواجب بناؤها لم يرد في النص القرآني، وهناك من يتعسف النص القرآني ويحمله ما لا يحتمل في مجال بناء الدولة، ويسعى للمماهاة بين خطاب العبادات، وخطاب المعاملات، بالعمل على تأويل نصوص تتحدث عن علاقة المؤمن، والمسلم بربه، وتحولها إلى فكر سياسي في بناء الدول والمجتمعات، وهناك اليوم دون شك فكر سياسي إسلامي يتحدث بهذا المعنى، ولكن ليس هناك نص قرآني محكم، ولا سنة نبوية مباشرة تقول بذلك ،فالنص الديني القرآن شيء والفكر السياسي الإسلامي، أو الفكر الديني شيء آخر مختلف تماماً، الأول: صناعة إلهية، والثاني: صناعة أيديولوجية بشرية متغيرة، ومن هنا عدم دقة حديث البعض في هذا السياق عن (مبدأ اختصاص الله سبحانه وتعالى بالسيادة)، والسيادة هنا عند البعض تتحول إلى سيادة بمعنى الحكم في الدولة، وليس السيادة، بمعنى القدرة الإلهية التي تسع كل شيء في الوجود بالمعنى الديني الإيماني، ولا اختلاف في أن بعض اتجاهات الفكر السياسي الإسلامي تذهب إلى الخلط بين السيادة الإلهية السماوية، وبين سيادة الشعب، مسقطة بهذا المعنى على الدين الإسلامي، ما ليس فيه، كما لا اختلاف في اجتهاد بعض الإسلاميين بقولهم إن (الفكر السياسي الإسلامي يعتبر تفرد الله تعالى بالحكم والأمر، أهم المبادئ المميزة للدولة الإسلامية) (46) وهو في تقديرنا اجتهاد أيديولوجي، سياسي، وليس القول الفصل الديني القرآني، في مسألة بناء الدول، هو اجتهاد بشري يحتمل الصواب والخطأ، ولا صلة لها بالدين، هو تأويل أيديولوجي خاص بصاحبه، لا علاقة له بالدين، ومن هنا واجب وضرورة التفريق بين الدين، والفكر الديني، فالعقيدة شيء، والشريعة والتشريع شيء آخر مختلف. ففي العقيدة (الدين) لله وحده مصدر جميع القول، والأمر والنهي، وفيما أوصى به يكون القول الفصل، أما في الشريعة والتشريع فالشعب (الأمة) هو صاحب ومصدر السلطات جميعاً عبر مؤسسته التشريعية (المجلس النيابي المنتخب ديمقراطياً)، وفي هذا الخطاب ليس هناك أي دعوة لفصل الدين، عن المجتمع، والحياة، وإنما فصل للدولة، عن الفكر الديني، أي فصل الأيديولوجي السياسي للسلطة والدولة، عن الدين المقدس.
أما حديث البعض عن لجنة(تقنين أحكام الشريعة الإسلامية) ووضعها في موازاة سلطة المجلس النيابي التشريعية، والرقابية، وهو المجلس المنتخب ديمقراطياً من الشعب، فهو قول جديد لم نسمع به من قبل في أي دولة من الدول العربية الإسلامية(47) بذريعة أن لا تتصادم تشريعات المجلس النيابي، مع نصوص الشريعة، وكأن أعضاء المجلس النيابي المنتخبين غير مسلمين، ولا يستندون في تقديم مشاريع قوانينهم التشريعية المختلفة على لجان اختصاصية عليا دقيقة، ومراكز خبرة قانونية وتشريعية اختصاصية بكل أمر من هذه الامور.
ولا نرى في هذه الدعوة سوى محاولة للالتفاف على إرادة الشعب، وعلى سلطة المجلس النيابي التشريعية وغيرها، ومحاولة فرض حالة حق الوصاية (الكهانة) على إرادة الشعب عبر بعض رجال الدين ،وهو افتئات على إرادة الشعب لصالح جماعة أيديولوجية سياسية باسم “هيئة العلماء”، أو رجال الدين..، واليوم نحن نشهد كيف انقسمت جماعات رجال الدين، وهيئات، وجمعيات العلماء إلى أكثر من اتجاه في موقفهم من الثورة الشبابية، ومن السلطة، والحاكم، منهم من أفتى بواجب طاعة ولي الأمر الحاكم وعدم الخروج عليه تحت أي ظرف، ووقفوا إلى جانب الحاكم ضد ثورة الشباب، والشعب، وهناك من أقر فكرة ومسألة “الخروج” على الحاكم ولا طاعة لحاكم في معصية الله، أو في إقراره الظلم والفساد، ووقف داعماً ومسانداً في فتاوى فقهية شرعية إلى جانب الثورة، كما أن هناك طرفاً آخر فضل الصمت والانعزال بنفسه عن الطرفين، إذاً نحن أمام بشر يجتهدون فيصيبون ويخطئون، وجميعهم يقولون إنهم يمثلون الدين، ويعبرون عن روح الإسلام، وهم جميعاً ينطلقون من المرجعية الإسلامية، إنه الرأي والاجتهاد وكما قال الإمام الشافعي (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).
إن المجلس النيابي المنتخب ديمقراطياً من الشعب هو جهة التشريع الوحيدة، ولا ينازعه في ذلك أحد، بالإستناد إلى المبادئ العليا للدين الإسلامي، وذلك هو المبدأ الأول في بناء الدول، وتحديداً الدولة المدنية الدستورية الديمقراطية، وهو ما أكد عليه البند أولاً، في وثيقة الأزهر الشريف الذي جاء فيها (دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة، ويحدد إطار الحكم ،ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب، بما يتوافق والمفهوم الإسلامي الصحيح، حيث لم يعرف الإسلام لا في تشريعاته ولا حضارته، ولا تاريخه ما يعرف في الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية(...)
بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم..)(48) ذلكم هو نص الأزهر الشريف حول سلطة الشعب وكيف يحقق إرادته عبر مؤسسة مجلس النواب، المجلس التشريعي، المنتخب ديمقراطياً والذي قطعاً لن يحل ما حرمه الله، ولن يحرم ما أحله، ولن يشرع شيئاً إلا بما يتوافق والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية، (العدل، الحرية، والكرامة، والمواطنة، والمساواة) ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الفكر السياسي الإسلامي ليس طبعة واحدة، كما هناك فكر سياسي إسلامي ظلامي جامد ومتحجر اتباعي، هناك بالمقابل فكر سياسي إسلامي عقلاني نقدي تنويري تحرري ديمقراطي،
وإلا فكيف نفسر مضمون وجوهر وثيقة الأزهر الشريف المذكورة. وفكرة الجماعات التكفيرية، والجهادية (القاعدة) و(أنصار الشريعة)، وكذا فكر السلفية التكفيرية المتشددة المطالبة باستعادة دولة الخلافة الإسلامية اليوم.
فالفكر السياسي الإسلامي اليوم يقول في اتجاهاته الغالبة بالديمقراطية، ويعتبرها تطويراً لفكرة الشورى، ويقابلها بها، وهم اليوم يشتركون في العملية الانتخابية، ويتحالفون مع القوميين، والليبراليين، والماركسيين، والاشتراكيين، وصيغة اللقاء المشترك الناجحة في اليمن، حتى اللحظة خير دليل على ذلك، وكذلك تجربة فوز حزب النهضة في تونس وتحالفه في تشكيل الحكومة مع تيارات قومية ويسارية، واتفاقه معهم على توزيع مواقع الدولة العليا فيما بينهم بالتوافق السياسي، وكذا اتفاق وتحالفات الإخوان المسلمين في مصر مع تيارات قومية، وليبرالية، قبل الثورة وبعد قيامها وبعد نجاح الانتخابات البرلمانية، والرئاسية، كما أتوقع ذلك، وهو ما لم يكن متصوراً قبل ثلاثة عقود، وحتى عقدين من الزمن، ذلك أن قضية بناء الدول، شأن بشري واجتهادي إنساني (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) وأن الحاكم أو الرئيس، أو الخليفة (بالتعبير القديم) هو ممثل للشعب، هو أجير لدى الشعب لمدة من الزمن يحددها العقد المشترك في ما بينهم (الشعب، الحاكم) حيث يقوم الحاكم أو الرئيس، أو النائب في البرلمان، بدور نائب أعلى عن الشعب ينوب عنه ويمثله في تحقيقه مصالحه، والشعب بإرادته الحرة هو من يختار من ينوب عنه في المجلس النيابي، أو في رئاسة الدولة، ضمن عقد اجتماعي دستوري تعاقدي..، والمجلس النيابي، ورئيس الجمهورية خاضعان لسلطة وإرادة الشعب في حال خروجهما على ما اتفق عليه، وإلا فإن الثورات عليهما، وتغييرهما هو المصير المحتوم لهما، وهو ما تعلنه الشعوب لحظة إدراكها ذلك الخروج على النص التعاقدي، وهو ما قامت به الثورة الشبابية الشعبية في اليمن اليوم بعد أن أخل الحاكم بمبادئ، العدل، والمساواة، والحرية، وتحول إلى ما يشبه الملك العضوض (العائلي)، والثورة الشبابية الشعبية فيما مارسته من فعل إنما حققت مهام عزل الحاكم عن منصبه وجميع مواقعه التي صار فيها نافذاً غصباً عن إرادة الشعب..، بعد أن خرج الشعب بكليته (معظمه) إلى الساحات وميادين الحرية والثورة والتغيير مطالبين بعزله واسقاطه تحت شعار (ارحل) والشعب يريد إسقاط النظام، وليس توقيع المبادرة الخليجية في 23/11/2011م في الرياض وتحوله إلى ما يشبه الرئيس الشرفي الفخري سوى الخطوة الأولى لتحقيق إرادة الشعب، التي تحققت في صورة الانتخابات الرئاسية في 21/2/2012م.
هناك إصرار عميق لدى أغلبية ائتلافات، ومنسقيات الثورة، وكذا لدى أغلب القوى السياسية، لتسمية دولة الثورة القادمة، بالدولة المدنية، أو بالدولة الوطنية المدنية الدستورية الديمقراطية، الحديثة، وهو إصرار آت من كونها ليست دولة دينية، ولا دولة عسكرية، ولا دولة قبلية، ولا دولة طبقية شمولية، على الطراز الثوري القديم، ولا دولة مذهبية، سلالية (إثنية) إمامية/سلالية، وإنما دولة دستورية مدنية تمثل وتعبر عن توجهات ومصالح جميع اليمنيين، بكل أطيافهم، ومذاهبهم، وأيديولوجياتهم وقبائلهم، وطبقاتهم، وأحزابهم، وجهاتهم، باعتبارهم مواطنين أحراراً متساوين في الحقوق والواجبات..، مواطنين، لا رعايا حسب عنوان كتاب خالد محمد خالد.
إن الدولة المنشودة (هي دولة تعاقدية يتوافق الناس على مبادئها ودستورها، وشكل مؤسساتها، الدولة المدنية هي أساساً دولة نظام وقانون، تقوم على إنفاذ القانون، دون تهاون مع من ينتهك القانون، فضلاً عن أن الدولة المدنية تبنى على أساس توزيع السلطات وتوازنها، والرقابة المتبادلة بين السلطات، وفيها لن تكون السلطة مركزة بيد فرد أو جماعة لوحدها، بل ينبغي أن يكون معيار التنوع هو أساس قيادة الدولة، وفقاً للنظام الديمقراطي(...) دولة فيها برلمان مستقل وغير خاضع للسلطة التنفيذية، وفي ظل قضاء حر ونزيه ومستقل وعادل...)(49) على صعيد الممارسة، فإنه من المهم التأكيد هنا أن الإصرار على التمسك بمفهوم المدنية آت:
أولاً: من أنه تجاوز وإلغاء لما علق في الذهن الأيديولوجي، والسياسي من معانٍ، ودلالات، بل وحتى ممارسات سلبية ارتبطت بمفهوم ومصطلح العلمانية، والدولة العلمانية في الغرب والشرق معاً.
وثانياً: إن مفهوم المدنية في تاريخيته هو ابداع عربي إسلامي تقدم به أول من تقدم الأستاذ: الإمام الشيخ محمد عبده، ويمكن العودة إلى ذلك في العديد من صياغاته الفقهية والفكرية حول هذا المعنى وخاصة في كتابه (الإسلام بين العلم، والمدنية) وفي قوله المشهور إن السلطة في الإسلام مدنية من كل الوجوه.
وجاء مفهوم الدولة المدنية لتصفية حساب أيديولوجي وسياسي تاريخي مع مفهوم ومصطلح العلمانية، والدولة العلمانية (الأيديولوجية الليبرالية، أو العسكرية، أو الشمولية الحزبية تحت هيئة الحزب الواحد) وما رافق ذلك من ممارسات وإجراءات تنفيذية سلبية ضد حرية المعتقد، وحرية الرأي، والفكر، والتعبير، في بعض تجلياتها السياسية التاريخية.
وثالثاً: إن مفهوم الدولة المدنية يعني أنها ليست دولة دينية، ولا طائفية مذهبية وليست كذلك دولة طبقية احتكارية ديكتاتورية، ومن أنها ليست دولة عسكرية ولا قبلية، ولا سلالية (عرقية / إثنية).
رابعاً: القول بالدولة المدنية الحديثة، يعنى القطيعة السياسية التاريخية مع الدولة التقليدية الاستبدادية في التاريخ العربي الإسلامي، والعالمي بكل مسمياتها.
خامساً: إن الدولة المدنية هي دولة سلمية قانونية مؤسسية في تعاطيها مع جميع مواطنيها ،بما يعني أنها لا تحتكم للعصبية، والشوكة، والغلبة، دولة لا ترتكز على الحق الإلهي، ولا على الحق السلالي، للأفراد والجماعات، وكذلك دولة لا تحكمها التقاليد والاعراف (الطاغوت) ولا موازين قوة السلاح كأمر واقع ،بل تحتكم لسلطة القانون والنظام، والطابع المؤسسي لعملها، وهي لذلك دولة مدنية سلمية، يقرر مصيرها ووجودها، ودورها، ووظائفها أبناؤها المواطنون جميعاً (إن الغاية من تأسيس أي دولة هو حماية المصلحة العامة، أما الوظيفة الأساسية للدولة، هي إقامة العدل، وحماية الحقوق والحريات، وحماية الأرواح والممتلكات .. إلا أن بعض الأنظمة العربية تحولت إلى كتائب بوليس أخلاقي، وتنازلت كلياً عن وظائفها كدولة، مدنية، ففي ظل الدولة المدنية لا يهتم المواطنون بمن يحكم، ولكن المهم هو كيف يحكم)(50) وحول قضية لا يهم من يحكم، ولكن كيف يحكم يخطر لي بعض ما جاء في التراث الفقهي الإسلامي الوسيط وهو ما قاله (الإمام أحمد بن حنبل، عندما اعتبر بأن الإمام الفاسق العادل خير للأمة من الإمام الصالح الضعيف، ذلك أن الأول فسقه لنفسه، وعدله للمسلمين، بينما الثاني صلاحه لنفسه وضعفه للمسلمين، وكذلك قول الإمام بن تيمية: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ويذل الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة)(51) وفي المثالين الواردين أمامكم تأكيد على قضية أساسية وجوهرية وهي دحض لمسألة ربط الدولة، بالدين، وفي أن الدولة الدينية أو الدولة الإسلامية ليست جزءاً من العقيدة الإسلامية، ومن أن الدولة الإسلامية ليست مطلوبة بحد ذاتها، ذلك أن الدولة ووجودها يرتبطان بالعدل، والمساواة، ورفع الظلم..، وحيثما كان العدل، ومصلحة المسلمين، فثم وجه الله كما يقول الفقهاء الإسلاميون جميعاً، وهو تأكيد تاريخي على أن الدولة بطبيعتها مدنية .
سادساً: الدولة المدنية الحديثة هي في تقديرنا تجاوز سياسي فكري تاريخي للدولة التقليدية، ومحاولة لتخطي عتبة المجتمع التقليدي تدريجياً إلى مجتمع الدولة المدنية، تحدد مسافة فاصلة موضوعية بين الحاكم، وبين المؤسسة، ما يعني أولاً عدم احتكار الحاكم للسلطة، باعتبارها سلطة تتحقق عبر التداول السلمي للسلطة، وثانياً: أن المؤسسة عبر أجهزتها الإدارية والتنظيمية هي التي تنظم هذا الانتقال عبر المؤسسة، حيث الحاكم أو الرئيس هو شاغل للمؤسسة، وليس مالكاً لها، وهو يخضع بذلك للمؤسسة، وليس فوقها، يديرها، ولا يملكها، يحكم ولا يتملك، كما هو الحال اليوم في منطقتنا العربية حيث الحاكم غير مفصول عن المؤسسة ومن هنا قتاله الشديد حتى الموت أو السجن، من أجل البقاء في قمة المؤسسة (الدولة / السلطة) وهو لذلك يقاتل بكل الوسائل من أجل البقاء في السلطة، يقاتل قتال الدفاع عن المحارم، (العرض) والشرف، والسبب عائد كما قلنا في إحدى فقرات البحث إلى واقع استمرار ثنائية السلطة، والدولة، وثنائية السلطة، والثروة، وثنائية، الدين، والسياسة، وهنا تكمن المشكلة الجوهرية في تقديرنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.