تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    حضرموت هي الجنوب والجنوب حضرموت    الزنداني يلتقي بمؤسس تنظيم الاخوان حسن البنا في القاهرة وعمره 7 سنوات    حقائق سياسية إستراتيجية على الجنوبيين أن يدركوها    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    الضربة القاضية في الديربي.. نهاية حلم ليفربول والبريميرليغ    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    اليمن: حرب أم حوار؟ " البيض" يضع خيارًا ثالثًا على الطاولة!    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    شبوة تتوحد: حلف أبناء القبائل يشرع برامج 2024    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    وفاة نجل محافظ لحج: حشود غفيرة تشيع جثمان شائع التركي    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو نظرية لنظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي
نشر في الجمهورية يوم 25 - 05 - 2013

لقد كان العام 2011م عاماً عربياً بامتياز، ففي بداية هذا العام تفجّرت الثورات العربية في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا (والبقية على الطريق) مؤذنة برسم خارطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط والعالم، وكانت النتيجة الثانية لتلك الثورات بعد إسقاط الأنظمة القائمة وصول الأحزاب والتيارات الإسلامية إلى سدة الحكم بعد نجاح هذه الثورات كنتيجة طبيعية لعدد من الأسباب أهمها حجمها الكبير في الشارع العربي، وتعبيرها الحقيقي عن نسيجه الديني والثقافي والفكري والتاريخي ودورها الكبير في إذكاء تلك الثورات وإدارتها ونجاحها، وإخفاق جميع الأنظمة والتيارات غير الإسلامية القائمة في تحقيق أهداف الشعوب العربية وتوفير الحد الأدنى من العدل والحرية والمساواة والحياة الكريمة، وعجزها عن مواجهة التحديات الكبرى التي تواجه الأمة وعلى رأسها العدو الصهيوني، علاوة على تورطها المباشر والصريح في العمالة لجميع القوى المعادية للأمة العربية، فكان التيار الإسلامي هو البديل المنطقي والوحيد لسد الفراغ السياسي الذي نتج عن هذه الثورات وإدارة شؤون هذه الدول في المرحلة القادمة في إطار اللعبة الديمقراطية..
إلا أن المشكلة الكبرى التي تواجه الفكر الإسلامي حتى هذه اللحظة عامة والأحزاب والتيارات الإسلامية العاملة في المجال السياسي خاصة تتمثل في عدم قدرتها حتى الآن على إنتاج نظرية سياسية محددة المعالم في الحكم والسياسة كالنظرية الديمقراطية والنظرية الاشتراكية مثل، والاكتفاء بالحديث عن الخلافة الراشدة والقول إن الإسلام لديه أفضل ما في الديمقراطية وما في الاشتراكية أو التعميم الواسع والمجرد لشعار (الإسلام هو الحل) دون وضع برنامج عملي لتحقيق هذ الشعار على أرض الواقع؛ ولأن هذه التيارات لم تجد سبيلاً لممارسة العمل السياسي في العصر الراهن إلا من خلال تبنّي الديمقراطية كنظام للحكم تحت تأثير الضغوط الشعبية الكبيرة المطالبة بالمزيد من الحريات والمشاركة السياسية في مختلف الدول العربية والإسلامية أولاً، وتحت ضغط وتأثير حركة التطور العالمية التي تتجه بالعالم أجمع نحو تبنّي الديمقراطية كنظام عالمي في الحكم والسياسة ثانياً، وليس استجابة لتطور فكري واجتماعي واقتصادي وثقافي خالص أدّى إلى إنتاج نظريات سياسية خالصة نابعة من قيم وثقافة وخصوصيات ومتطلبات هذه البلدان، فلم تجد تلك التيارات بداً من رفع شعار الديمقراطية كغيرها من الحركات الأخرى؛ لأن ذلك هو السبيل الوحيد الذي سيمكنها من ممارسة العمل السياسي والوصول إلى سدة الحكم.
وهذه محاولة لوضع نظرية سياسية معبّرة عن الفكر السياسي الإسلامي لكاتبها نضعها أمام أبناء أمتنا العربية والإسلامية والعاملين في المجال السياسي لدراستها وإثرائها بالنقاش والحوار والإضافة والتعديل أو حتى التبديل في حال إثبات مجانبتها الصواب.
جوهر المشكلة
إن مشكلة العمل السياسي في التاريخ والفكر الإسلامي والأحزاب والتيارات السياسية الإسلامية المعاصرة تتخذ وجوهاً متعددة أهمها:
1 - غياب الإطار النظري الخاص بنظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي عامة ولدى الأحزاب والتيارات الإسلامية العاملة في المجال السياسي بشكل خاص (غياب النظرية).
2 – عدم التفريق بين قضيتين جوهريتين في موضوع نظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي وهما:
- القضية الأولى: الحكم كنظام: وهي قضية دنيوية بحتة، فكلمة «نظام» هنا تعني أمرين أساسيين:
الأول: الإطار التنظيمي الذي يحدّد الشكل العام لنظام الحكم من حيث شكل السلطة – مؤسسات السلطة - طرق الوصول للسلطة - طرق ممارسة السلطة - طرق انتقال السلطة.
الثاني: الإطار التنظيمي الذي تمارس السلطة الحاكمة من خلاله وظائفها المختلفة، وهذه قضايا دنيوية فكرية متغيرة ومتطورة بتغير وتطور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية وغيرها.
- القضية الثانية: الحكم كممارسة، وهي قضية دينية ودنيوية، وتتمثل هذه القضية في أداء وتنفيذ وظائف الدولة من خلال السلطة الحاكمة (الممارسة العملية للحكم) ومدى اقتراب تلك الوظائف والممارسات من الأحكام الشرعية (القطعية الدلالة في القرآن الكريم والقطعية الثبوت والدلالة في السنة النبوية الشريفة) وتحقيق العدل والحرية والمساواة وممارسة الشورى (المشاركة السياسية) وتحقيق الأمن والاستقرار ونُصرة المظلوم؛ وغير ذلك من وظائف الدولة التي يتفق فيها العلم مع الدين.
3 - عدم قدرة التيارات السياسية الإسلامية على حسم موقفها بشكل واضح وصريح من قضية الديمقراطية الغربية باعتبارها أفضل النظريات السياسية التي أنتجها العلم البشري حتى الآن وأقربها إلى تحقيق القيم السياسية الكبرى كالعدل والحرية والمساواة في نظام الحكم من حيث:
1 - هل يوافقون على الديمقراطية كنظام للحكم أم يرفضونها؟.
2 - ما هي الأمور التي يوافقون عليها في الديمقراطية (كنظام للحكم) وما هي الأمور التي يرفضونها؟.
3 - إقناع الآخرين أنهم لن يتخذوا من الديمقراطية مطية للوصول إلى قمة السلطة وأنهم لن ينقلبوا عليها بعد ذلك.
المدخل المنهجي للنظرية:
توجد لدينا مجموعة من الأسس المتينة التي تمكننا من إعداد نظرية سياسية للحكم يمكن لها أن تعبّر عن نظام الحكم في الفكر الإسلامي بشكل مشرق وخلاق تتركز في:
1 - الإطار الإسلامي النظري المتمثل بمجموعة النصوص القرآنية والنبوية المتصلة بهذا الموضوع.
2 - الإطار العملي المتمثل بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم للجماعة المسلمة بشكل عام ودولة المدينة المنورة، أول دولة إسلامية بشكل خاص.
3 - الإطار العملي المتمثّل بإدارة الخلفاء الراشدين لشؤون الحكم في فترة الخلافة الراشدة التي تمثل النموذج الأول والوحيد لنظام الحكم الإسلامي حتى الآن.
4 - نفي صفة الخلافة (نظام الحكم الإسلامي) عن جميع الدول التي قامت في تاريخنا الإسلامي وحتى الآن ابتداء بالدولة الأموية والدولة العباسية مروراً بالدولة الفاطمية والعثمانية عملاً بقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «الخلافة بعدي ثلاثون عاماً ثم يكون ملك عضوض، ثم يكون حكم جبري، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» أو كما قال.
5 - التطور الكبير في العلوم السياسية بشكل عام وأنظمة الحكم بشكل خاص وعلى رأسها نظرية الديمقراطية الغربية في نظام الحكم والتي ساعدتنا بشكل كبير على فهم حقيقة نظام الحكم في الفكر الإسلامي من خلال السلوك العملي للرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، وتوصيف ذلك السلوك على ضوئها.
6 - بالرغم من التطابق الكبير بين نظرية الحكم في الفكر الإسلامي ونظرية الديمقراطية القائمة في الفكر الغربي إلا أنه توجد فروق عميقة وجوهرية بين النظريتين وإن كانت قليلة كما سنذكر لاحقاً.
7 - التحديد الدقيق لمفهوم الشورى الذي يرى بعض الكتّاب والمفكرين أنه مرادف أو مساوٍ للديمقراطية؛ ولكن الحقيقة التي نراها أن الشورى مازالت حتى الآن أهم مبدأ من مبادئ الحكم الإسلامي العادل ولم تتطور حتى تصبح نظاماً دقيقاً محدد المعالم للحكم كالديمقراطية الغربية القائمة, فقد تم تغييب الشورى عن المجال الفردي والجماعي منذ قيام الدولة الأموية وحتى الآن من ثلاثة جوانب:
الأول: حصرها بمفهوم أهل الحل والعقد الذي اتسم بالعمومية والغموض والاستخدام النفعي البعيد عن حقيقة الدين من ناحية وعدم فهم حقيقة أن القضايا العامة الكبرى كاختيار الحاكم الأصل فيها توسيع دائرة المشاركة في اتخاذ القرار إلى أبعد مدى ممكن وليس حصرها في دائرة ضيقة، وأن تم تسميتها ب«أهل الحل والعقد».
الثاني: القول بعدم إلزامية الشورى وهو خطأ فادح لا يجيزه شرع ولا يستسيغه عقل؛ الأمر الذي عطلها تماماً على مستوى الفكر والممارسة الجماعية والفردية.
الثالث: عدم النظر إليها كأصل ديني ملزم كبقية الأصول وتعطيله كغيره من الأصول المعطلة في حياة الفرد والمجتمع كأصل إكرام اليتيم وأصل الحض على إطعام المسكين ونصرة المستضعفين.
8 - إن الشورى تعد بحق أهم مبادئ الحكم العادل والرشيد؛ لأن الهدف الرئيس للشورى يكمن في أربعة أمور أساسية (وهذه الأمور هي هدف الديمقراطية الغربية وجوهرها)
الأول : منع الاستبداد.
الثاني: توسيع دائرة المشاركة في اتخاذ القرار.
الثالث: اتخاذ القرار بناء على قاعدة الأغلبية.
الرابع: تعليم المجتمع وتدريبه على إدارة شؤونه بنفسه.
وعليه فإنه يمكن للشورى أن تتطور وتصبح نظاماً دقيقاً للحكم كالديمقراطية.
9 - نظام الحكم قضية غير جامدة بل تتغير وتتطوّر بتغير الظروف وتطورها
10 - المنهج العلمي الذي يفرّق بين أمرين أساسيين:
الأول : الأهداف والوظائف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها وهي قضية تتسم بالثبات والجمود.
الثاني: النظام كآلة ضرورية للدولة لتحقيق تلك الأهداف، وهي قضية متغيرة ومتطورة بتغير الظروف والأحوال والزمان والمكان.
وهو ما يفسر:
1 - تركيز الإسلام في القرآن والسنة على (وظائف الحكم) بشكل واضح وقاطع ومحدد باعتبارها قضايا ثابتة، فالعدل والحرية والمساواة وتنفيذ الحدود ونصرة المستضعفين في الأرض وغيرها كلها قضايا ثابتة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
2 - سكوت الإسلام (القرآن والسنة) عن الحديث عن نظام الحكم باعتبارها قضية متغيرة ومتبدلة ومتطورة ولا تتسم بالثبات.
11 - إن التشابه الكبير بين نظام الحكم في الفكر الإسلامي (حسب النظرية التي نطرحها) سببه حتمية التطابق بين العلم السليم (في أي فرع من فروع العلم وعلى رأسها علم السياسة) والدين القويم وليس إضفاء صفة الديمقراطية على نظام الحكم في الفكر الإسلامي.
نظرية نظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي:
من خلال فهمنا وإدراكنا لحقائق نظام الحكم في الإسلام كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة (كوظائف سياسية ثابتة) والممارسة العملية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده أبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً (كنظام حكم متغير ومتطور) وفهمنا للنظرية الديمقراطية الغربية باعتبارها أفضل ما أنتجه علم السياسة في نظام الحكم, والذي يأتي تطابقها الكبير مع نظام الحكم في الفكر الإسلامي على قاعدة التطابق الحتمي بين العلم السليم والدين القويم, يمكننا أن نضع هذه النظرية للحكم في الفكر السياسي الإسلامي، وعليه فإن نظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي هو النظام الذي يقوم على القواعد التالية:
1 - نظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي نظام جمهوري حصراً.
2 - نظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي دستوري تعاقدي.
3 - الشعب مالك السلطة ومصدرها (مبدأ السيادة الشعبية) ويقوم بممارسة هذا الحق من خلال الترشح والانتخاب لجميع المناصب العامة (مبدأ النظام التمثيلي) والاستفتاء.
4 - مسؤولية الحاكم أمام الشعب وحق الشعب في مساءلته ومحاسبته وإقالته واستبداله إذا أخل بواجباته (مبدأ مسؤولية الحاكم, ومبدأ الرقابة الشعبية على الحاكم ومساءلته ومحاسبته).
5 - نظام الحكم في الفكر الإسلامي يقوم على الشورى الملزمة التي هي ضد الاستبداد (مبدأ المشاركة الشعبية الواسعة).
6 - نظام الحكم في الفكر الإسلامي يقوم على أربع سلطات – السلطة التشريعية – السلطة النيابية - السلطة القضائية - السلطة التنفيذية (مبدأ الفصل بين السلطات).
7 - سيادة السلطة التشريعية على كل السلطات الأخرى في حدود النصوص القطعية الدلالة من القرآن الكريم والنصوص القطعية الثبوت والدلالة من السنة النبوية الشريفة (تحقيق مبدأ الحاكمية ونطاقه في إطار نظام الحكم).
8 - المواطنة المتساوية هي القاعدة الرئيسة في تحديد علاقة الفرد بالدولة (مبدأ المواطنة).
9 - الإقرار بالحريات العامة وحمايتها كحرية الدين والعقيدة وحرية التعبير وحرية الاجتماع والتنظيم.
10 - حرية التعددية السياسية والمعارضة السياسية السلمية (الآلية الجماعية للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وممارسة العمل السياسي.
11 - مبدأ التداول السلمي للسلطة.
12 - مبدأ سيادة القانون.
13 - نظام الحكم في الفكر الإسلامي نظام مدني، فالحاكم ليس بإله ولا نائباً عن الإله، ولا يعيّن من قبل الإله كما هو حاصل في الدول الدينية وهو ما نعنيه بمدنية الدولة في الفكر الفكر السياسي الإسلامي.
14 - نظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي يقوم على قاعدة اللا مركزية.
15 - مبدأ حماية حقوق الأقليات الدينية والسياسية والاجتماعية والقانونية.
أدلة النظرية من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين:
إن النظرية الموضوعة لنظام الحكم في الفكر الإسلامي قامت على ممارسات واضحة وصريحة من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، كما أنها تتطابق مع علم السياسة كغيرها من القضايا التي لا يتناقض فيها الدين الإسلامي مع العلم, وأهم تلك الأدلة نورده في ما يلي:
أولاً: الدليل على أن نظام الحكم في الفكر الإسلامي جمهوري حصرياً.
يتجلى في أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يورّث الحكم لأحد من أقاربه, وجميع الخلفاء الراشدين من بعده (أبوبكر وعمر وعثمان وعلي) لم يقم أحد منهم بتوريث الحكم لأحد من أبنائه بالرغم من أن أبناءهم كانوا من رموز الأمة وكانوا جديرين بهذه المهمة, وكان يمكن للناس أن يقبلوا بهم لكفاءتهم وأمانتهم, بل إن من المسلمين من طلب من الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب أن يستخلف عليهم ولده عبدالله؛ ولكنه رفض ذلك, بل إنه لم يجعل ولده عبدالله من الستة الذين رشحهم للأمة ليختاروا من بينهم من يحكمهم.
ثانياً: الدليل على أن نظام الحكم في الفكر الإسلامي دستوري تعاقدي يتمثل حقيقة في أن جميع العلاقات بالإسلام تعاقدية، وأعظمها العلاقة مع الله سبحانه وتعالى الموثقة في القرآن الكريم, وعليه فإن جميع العلاقات الأخرى يجب أن تكون موثقة ومكتوبة وأهمها العلاقة بين الحاكم والمحكوم بعد علاقة المخلوق مع الخالق, وهو ما تجسّد في وثيقة المدينة المنورة التي حرّرها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة مباشرة بين المسلمين واليهود والقبائل العربية الذين كانوا يسكنون في المدينة وما حولها.
ثالثاً: الدليل على أن الشعب مالك السلطة ومصدرها (مبدأ السيادة الشعبية) وأنه يقوم بممارسة هذا الحق من خلال الترشح والانتخاب لجميع المناصب العامة والاستفتاء.
يتمثل في أول ممارسة سياسية قام بها المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة وعلى غير مثال سابق أو خبرة سياسية تاريخية في إدارة الدول من خلال البيعة للخلفاء الراشدين واحداً تلو الآخر أولاً، وانتفاء صفة توريث الحكم ثانياً، وترك الأمر لاختيار الناس ورضاهم ومبايعتهم, مع أن الأمثلة التي كانت ماثلة أمامهم من الدول المحيطة بهم كانت جميعها أنظمة ملكية وراثية كالدولة الفارسية والرومانية والدول اليمنية القديمة ودولتي المناذرة والغساسنة، فلو كان الأمر اجتهاداً شخصياً أو رأياً دنيوياً لاختار المسلمون لدولتهم الفتية النظام الملكي على غرار الدول المحيطة بهم، لكنهم لم يفعلوا ذلك لعلمهم أن الحكم في الإسلام يقوم على الاختيار الشعبي؛ الأمر الذي يجعل الشعب مالك السلطة ومصدرها, وأنه وحده صاحب الحق في اختيار من يتحمّل هذه المسؤولية، وكانت ممارسة الرسول صلى الله عليه وسلم للشورى وعدم توريث الحكم لأحد أقاربه الدليل الأعظم على ذلك, ولهذا كان نظام الحكم في الإسلام جمهورياً حصراً.
رابعاً: الدليل على مسؤولية الحاكم أمام الشعب وحق الشعب في إقالته واستبداله إذا أخل بواجباته، (مبدأ مسؤولية الحاكم, ومبدأ الرقابة الشعبية للحاكم ومحاسبته.
يتجسّد ذلك في المواقف العملية التالية للرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ومنها:
1 - موقف الرسول صلى الله عليه وسلم في مرضه الأخيرة عندما طلب من الصحابة الكرام الاقتصاص منه قبل وفاته في دم أو مال أو عرض.
2 - موقف أبي بكر الصديق، الخليفة الأول بعد توليه الخلافة عندما خطب في المسلمين قائلاً:
أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.
3 - موقف عمر بن الخطاب، الخليفة الثاني بعد توليه الخلافة عندما خطب في المسلمين قائلاً: إن رأيتم فيّ خيراً فأعينوني، وإن رأيتم فيّ اعوجاجا ًفقوموني, ورد احد الصحابة عليه بقوله: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا, والارتياح البالغ الذي ظهر على الخليفة عمر بن الخطاب عند سماعه لهذ الرد.
4 - موقف عثمان بن عفان، الخليفة الثالث في مواجهة الجماعة الخارجة عنه، وعدم مواجهتهم بأي عنف حتى وصل بهم الأمر إلى قتله.
5 - موقف الخليفة الرابع علي بن أبي طالب من الخوارج ومنعه الاعتداء عليهم بأي شكل من أشكال العدوان ما لم يبدأوا بالقتال.
وكلها مواقف توضح حقيقة فهم الخلفاء الراشدين لمسؤولية الحاكم أمام الشعب تجسيداً للأصل الإسلامي الثابت مبدأ المسؤولية التي جسّدها القرآن الكريم بقوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون .....) وحديث الرسول (ص): (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته .... إلخ) أما مبدأ الرقابة الشعبية على الحاكم فتتجسّد في ثلاثة أصول إسلامية ثابتة هي:
1 - أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2 - أصل النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم.
3 - أصل الجهاد في سبيل الله بقول كلمة الحق في وجه الحكام الظالمين.
خامساً: الدليل على أن نظام الحكم في الفكر الإسلامي يقوم على الشورى الملزمة التي هي ضد الاستبداد (مبدأ المشاركة الشعبية الواسعة) يتمثل في:
1 - الأمر الواضح والصريح من الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم بالشورى بقوله تعالى:
(فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر..) آية 159«آل عمران».
2– الشورى ركن من أركان المجتمع المسلم، فالله سبحانه وتعالى يصف المجتمع المسلم بأنه يقوم على الشورى قال تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلواة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) آية 38 «الشورى» فإذا غابت الشورى فقد غاب ركن من أركان المجتمع المسلم.
3 - الممارسة العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده في الشورى بكل شؤون الحياة وعدم خروجهم عنها.
سادساً: قصص عظيمة تدلّل بشكل عملي لا نظري على الكثير من بنود هذه النظرية: القصة حدثت في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وخلاصتها:
أنه ضاع درع لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب, وشوهد الدرع بعد ذلك لدى مواطن يهودي من رعايا الدولة الإسلامية, فما كان من أمير المؤمنين إلا القيام برفع شكوى ضد اليهودي إلى قاضي المدينة (القاضي شريح) الذي قام بدوره باستدعاء اليهودي لمواجهة خصمه, وعند وصول اليهودي إلى مجلس القضاء طلب القاضي من أمير المؤمنين (الخليفة/رئيس الدولة) أن يجلس إلى جوار خصمه على قدم المساواة ليعرض دعواه وليسمع رد اليهودي على تلك الدعوى, وكان القاضي يخاطب الخليفة (علي بن أبي طالب) منادياً إياه بكنيته (أبا الحسن) وليس بصفته السياسية – خليفة المسلمين أو أمير المؤمنين - وفي مجلس القضاء يدّعى أمير المؤمنين أن الدرع له, ويقوم اليهودي بإنكار الدعوى, فيطلب القاضي من أمير المؤمنين شهوداً على صحة دعواه, فيجيبه أمير المؤمنين أن له شاهداً واحداً هو ابنه الحسن, فيرفض القاضي السماع لشهادة ابن أمير المؤمنين لصلة القرابة بينهما, ويحكم لصالح اليهودي بملكيته للدرع ضد أمير المؤمنين, وعندما انتهى الموقف لاحظ القاضي ضيقاً على وجه أمير المؤمنين؛ فسأله عمّا إذا كان سبب في ضيقه أنه ساواه بخصمه, فيجيبه أمير المؤمنين أن سبب ضيقه أن القاضي كان ينادي اليهودي باسمه مجرداً وينادي أمير المؤمنين بكنيته, الأمر الذي اعتبره الخليفة تمييزاً له عن خصمه تحرياً لأقصى درجة المساواة أمام القضاء.
فعلى ماذا تدل هذه القصة العظيمة؟ إنها تدل على القضايا التالية:
1 - مبدأ المواطنة المتساوية بأرقى صورها وأشكالها بين الخليفة/رئيس الدولة ومواطن يهودي عادي يخالفه في العقيدة.
2 - مبدأ الفصل بين السلطات, فرئيس السلطة التنفيذية يلجأ إلى السلطة القضائية لأخذ حقه ولا يتجاوز حكمها وهو رئيس السلطة التنفيذية.
3 - مبدأ استقلالية القضاء.
4 - مبدأ سيادة القانون, فلم يلجأ الخليفة إلى القوة لأخذ حقه بل احتكم إلى القضاء وهو رئيس السلطة التنفيذية, بل إنه عمل بالقانون وخضع لحكم القانون.
5 - مبدأ حرية العقيدة وحماية حقوق الأقليات؛ فلو لم تكن هنالك حرية تامة للعقيدة وحماية تامة لحقوق الأقليات ما وقف مواطن يهودي موقف المساواة التامة مع رئيس الدولة المسلمة (الخليفة) أمام قاضٍ مسلم، ويكون الحكم في النهاية لصالح المواطن اليهودي, كما أن حرية العقيدة هذه مؤشر حاسم على توفر بقية الحريات كالفكر والتعبير والمعارضة السياسية وغيرها.
ومثل هذه القصة قصة الخلاف الشهير الذي حدث بين ابن والي مصر (عمرو بن العاص) والمواطن القبطي، فبعد أن قام ابن والي مصر بضرب المواطن القبطي غضباً منه لأنه تفوّق عليه في أحد سباقات الخيل, ذهب المواطن القبطي إلى المدينة واشتكاه إلى الخليفة (عمر ابن الخطاب) الذي بدوره استدعى والي مصر وابنه وجعل المواطن القبطي يقتص بنفسه من ابن والي مصر, بل إن الخليفة طلب من المواطن القبطي أن يضرب والي مصر على رأسه أيضاًَ؛ لأن ابنه لم يكن ليعتدي عليه إلا استقواء بمنصب أبيه؛ ولكن المواطن القبطي رفض ذلك واكتفي بالقصاص من ابن (عمرو بن العاص) والي مصر, وعندها يوجّه الخليفة إلى عمرو ابن العاص كلمته المشهور والخالدة: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!»، وهذه القصة تدل على نفس المعاني العظيمة الواردة في القصة السابقة.سابعاً: الدليل على مبدأ التداول السلمي للسلطة، نفهم ذلك من خلال المسار السلمي لانتقال السلطة من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخليفة الأول أبوبكر الصديق وانتقالها بعد ذلك إلى عمر وعثمان وعلي, فلم ينقلب الخلفاء الراشدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم ينقلب أحد من الخلفاء الراشدين على الخليفة الذي قبله, وإنما وصل كل خليفة إلى السلطة بشكل سلمي واختيار شعبي.
ثامناً: الدليل على حرية التعددية والمعارضة السياسية السلمية والاجتماع والتنظيم، يتجسّد من خلال موقف الخليفة الرابع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من الخوارج الذين كانوا جزءاً من جيشه وانقلبوا عليه في لحظة الحرب, وتحوّلوا إلى جماعة سياسية معارضة وصل بها الأمر إلى تكفيره وقتله, فعندما أراد بعض أصحابه وصفهم (أي الخوارج) بأنهم كفّار؛ ردّ عليهم بأنهم من الكفر فرّوا, وعندما أرادوا وصفهم بأنهم فسّاق؛ ردّ عليهم بأنهم يقومون الليل ويصومون النهار, عندها قالوا: ما نقول فيهم، قال: إخواننا بغوا علينا, ولهم علينا ثلاث: أن لا نبدأهم بقتال, وأن لا نمنعهم مساجد الله، وأن لا نمنعهم حقهم في بيت مال المسلمين.
وهنا نجد أن السلطة السياسية ممثلة بالخليفة أقرّت لهم بالحقوق التالية:
1 - حق المعارضة السياسية.
2 - حق الاجتماع والتنظيم.
3 - حرية الفكر والرأي والعقيدة.
4 - حرية نشر الفكر والدعوة إليه من خلال المساجد (المنبر الإعلامي الوحيد في ذلك الوقت).
5 - الحقوق الاقتصادية (أن لا نمنعهم حقهم في بيت مال المسلمين).
6 - عدم الاعتداء عليهم بالقول (من خلال رفض اتهامهم بالكفر أو اتهامهم بالفسق).
8 - عدم الاعتداء عليهم بالفعل بعدم مقاتلتهم ما لم يبدأوا هم بالقتال (أن لا نبدأهم بقتال).
9 - الإقرار بحق المواطنة بالرغم من خروجهم (إخواننا بغوا علينا).
والملاحظة الأخطر في هذه القضية أن السلطة (الخليفة) تقرّ بكل هذه الحقوق لجماعة معارضة لم تقر هي نفسها للسلطة بتلك الحقوق، فلم تقر بالحق السياسي للخليفة كسلطة مختارة من الشعب, ولم تقر بحق السلطة الديني والفكري فاتهمت الخليفة بالكفر, ولم تقرّ بحق السلطة في عدم الاعتداء عليها فبدأتها بالقتال وقتلت الخليفة باغتيال غادر، وهذه مفارقة معكوسة لا يمكن أن تتكرّر إلا في ظل حكم رشيد هو حكم الخلفاء الراشدين, وخليفة راشد هو علي بن أبي طالب.
تاسعاً: الدليل على أن نظام الحكم في الفكر الإسلامي نظام مدني، فالحاكم ليس بإله ولا نائب عن الإله ولا يعين من قبل الإله كما هو حاصل في الدول الدينية وهو ما نعنيه بمدنية الدولة في الفكر السياسي الإسلامي يتمثل في ما يلي:
- عندما يتناول علم السياسة القائم الدولة المدنية فإنه يتناولها من المنظور الغربي الصرف كأنها معادلة حسابية لا تقبل الخطأ, وهذا خطأ كبير، فلكل مجتمع خصوصياته, ولكل مجتمع دولته الدينية, ولكل مجتمع دولته المدنية أيضاً.
- لا يمكن فهم حقيقة معنى الدولة المدنية إلا من خلال إيجاد تعريف عام للدولة الدينية يمكن تطبيقه على كل المجتمعات، وهنا يمكننا من إيراد التعريف العام التالي للدولة الدينية:
- فالدولة الدينية: هي الدولة التي يكون فيها الحاكم إما إلهاً أو نائباً عن الإله أو معيناً من قبل الإله، ومن الأمثلة على ذلك:
1 - الحاكم الإله كالفراعنة في مصر القديمة، فقد قال فرعون مصر: «أنا ربكم الأعلى».
2 - أما الحاكم النائب عن الإله فقد تجسّد في دولة الكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى.
3 - أما الحاكم المعين من قبل الإله؛ فيتبدى في الفكر الإسلامي الشيعي بدرجات متفاوتة بين المكوّنات المختلفة لهذا التيار من أثني عشرية واسماعيلية وزيدية.
– أخطر القضايا في الدولة الدينية تتمثل في قداسة الحاكم المطلقة، ونفي أي دور للشعب في الاختيار والمعارضة السياسية والرقابة والمساءلة والمحاسبة وتداول السلطة, وهو ما لم يكن موجوداً في رؤية المسلمين وتعاملهم مع رسول الله عليه الصلاة والسلام, ولا في رؤيتهم وتعاملهم مع الخلفاء الراشدين كما بيّنا سابقاً.
– إن قيام نظام الحكم في الفكر الإسلامي على أساس النظام الجمهوري, والسيادة الشعبية والانتخابات, والدستور, والفصل بين السلطات, والمواطنة المتساوية, وسيادة القانون, ومسؤولية الحاكم, وحرية الدين، والرأي والتعبير والمعارضة السياسية, واللا مركزية وحماية حقوق الأقليات كما أسلفنا؛ كلها قواعد تدل على مدنية الدولة في الفكر الإسلامي.
عاشراً: الدليل على أن نظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي يقوم على قاعدة اللامركزية؛ يتجلى من خلال القاعدة الدينية الثابتة في أنه لا يؤم الرجل في سلطانه كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن خلال تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع من أسلم من الحكام في كل من صنعاء وحضرموت وعمان وكندة والبحرين وغيرها فقد أقرّهم على حكمهم للمناطق الخاضعة لهم وهي حقيقة ثابتة في التاريخ, مع إرساله من يعلمهم أمور دينهم.
أحد عشر: الدليل على أن نظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي يقوم على مبدأ حماية حقوق الأقليات الدينية والسياسية والاجتماعية والقانونية يتضح بجلاء من خلال:
1 - الحكم القطعي الثابت في القرآن الكريم على حرية الدين والعقيدة (لا إكراه في الدين... من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ... أفانت تكره الناس على أن يكونوا مؤمنين...) صدق الله العظيم, وإذا ما تم احترام حرية الدين والمعتقد فإن ذلك يترتب عليه وبشكل تلقائي حماية الحقوق الأخرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية (في إطار كل أقلية على حدة) لأن الدين والمعتقد هما المصدر الأساسي لتلك الحقوق، فحماية الأصل تضمن حماية الفرع.
2 - ممارسات الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كما ظهر في القصص السابقة.
3 - من القواعد الثابتة في الإسلام أن تدير كل أقلية شؤونها الاجتماعية في إطارها الداخلي من زواج وطلاق ومواريث وعلاقات اجتماعية واقتصادية وغيرها, وفق ما تؤمن به من ديانات أو تتعارف عليه من عادات وتقاليد, تحت إشراف الحكومة المسلمة (وفق التنظيم اللازم) ولا تخضع هذه الأقليات للأحكام الإسلامية العامة إلا في الحالات التالية:
1 - أن يكون الطرف الآخر مواطناً مسلماً.
2 - أن يكون الطرف الآخر مواطناً من أقلية أخرى غير تلك الأقلية.
3 - أن يحتكم الطرفان من نفس الأقلية طواعية للأحكام الإسلامية.
4 - سيادة الأحكام الإسلامية العامة في كل الأمور غير مقننة وغير منظمة في الأطر الداخلية لكل أقلية، والأساس المنظم لذلك كله إيماننا القاطع أن أحكام الإسلام أعدل وأرحم بالفرد والمجتمع من أي أحكام أخرى.
4 - إن حماية حقوق الأقليات هي القاعدة العامة والثابتة التي عملت بها كل الدول المسلمة عبر التاريخ وحتى الآن على اختلاف فرقها ومذاهبها، وهذه حقيقة تاريخية لا تقبل الجدل.
أوجه الاختلاف بين نظرية الحكم في الفكر السياسي الإسلامي ونظرية الديمقراطية:
لقد أشرنا سابقاً إلى أنه يوجد تشابه كبير بين نظرية الحكم في الفكر السياسي الإسلامي ونظرية الديمقراطية, وأشرنا إلى أن السبب الرئيس في هذ التشابه يعود إلى حتمية الاتفاق بين العلم السليم والدين القويم ليس في علم السياسة وحدها وإنما في مختلف العلوم النظرية والتطبيقية مصداقاً لقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق) صدق الله العظيم, إلا أن ذلك لم يمنع من وجود خلافات جوهرية عميقة بين نظرية الديمقراطية ونظرية الحكم في الفكر السياسي الإسلامي كما نتصورها, وأهم هذه الفوارق تتمثل في ما يلي:
1 - نظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي جمهوري شوروي (ديمقراطي) مدني حصرياً, أما الديمقراطية فيمكن لها أن تطبق على النظام الملكي (كبريطانيا) والدولة الدينية (كالدولةّ الصهيونية).
2 - نظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي كما تصوّرناه يقوم على أربع سلطات:
- السلطة التشريعية (وهي سلطة الشريعة الإسلامية من خلال أحكامها القطعية الدلالة في القرآن والقطعية الثبوت والدلالة في السنة) - والسلطة النيابية (البرلمان) – والسلطة القضائية - والسلطة التنفيذية، بخلاف الديمقراطية التي تقوم على ثلاث سلطات فقط: هي النيابية والقضائية والتنفيذية.
3 - نظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي يحفظ حتى الحقوق القانونية للأقليات, فلا يفرض على الأقليات أحكامه القانونية إلا في الحدود التي وضحناها سابقاً، بخلاف الديمقراطية التي تفرض على جميع المواطنين باختلاف دياناتهم وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم قانوناً موحداً، وهذا فرق خطير جداً يوضح مدى عظمة الإسلام في حماية حقوق الأقليات سواء أكانت دينية أم وثنية, كما أن هذا المبدأ حقيقة معاشة في جميع فترات التاريخ الإسلامي على مدى أربعة عشر قرناً؛ لا مجرد كلام نظري أجوف.
4 - الفرق الجوهري الرابع يتمثّل في أن نظرية الديمقراطية في جوهرها إنما جاءت استجابة لتنوّع وتعدد مراكز القوى في المجتمع بشكل أساس, ولم تنطلق مباشرة من الرغبة الصادقة في تحقيق القيم السياسية الكبرى للحكم من حرية وعدل ومساواة (وهذا ما يوضحه بجلاء مسار التطور التاريخي الدموي الطويل للديمقراطية على مستوى الفكر والممارسة واللذين هذبهما علم السياسة حتى اقتربت الديمقراطية إلى حد كبير من نظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي) بخلاف نظام الحكم في الفكر السياسي الإسلامي الذي انطلق من التطبيق العملي للقيم السياسية الكبرى – العدل والحرية والمساواة والحماية - مباشرة باعتبارها قيماً دينية واجبة التنفيذ مضمونة الحماية قبل أن تكون قيماً سياسية, واتجاهه نحو التطبيق العملي المباشر قبل التنظير الفكري طوال فترة قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم للجماعة المؤمنة وطوال فترة الخلفاء الراشدين.
الخاتمة:
إننا في ختام هذ الموضوع وفي سعينا لإنتاج نظرية سياسية في الحكم نابعة من الفكر السياسي الإسلامي؛ نجد أنفسنا ملزمين بالتأكيد على الفرق بين الدين الإسلامي والفكر الإسلامي, فالدين الإسلامي هو مجموعة التعاليم المتعلقة بالتوحيد والغيب والتعاليم المتعلقة بالعبادات والتعاليم المتعلقة بالحلال والحرام والأوامر والنواهي المنظمة للسلوك الإنساني في جميع مناحيه كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة, والتي تتسم جميعها بالبساطة والنقاء والوضوح بحيث يفهمها الإنسان العادي دون عناء, أما الفكر الإسلامي فهو كل جهد فكري يضعه المسلمون لإنتاج المعارف المختلفة والحلول اللازمة لكل مشاكل وشؤون الحياة القائمة والمتجددة في إطار الهدي السماوي من القرآن الكريم والسنة المطهرة وعدم التعارض مع أحكامهما القطعية، كما نجد أنفسنا ملزمين أيضاً بالتأكيد على أن هذه النظرية مستلهمة من الروافد الأساسية التالية:
- الرافد الأول: القرآن الكريم.
- الرافد الثاني: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
- الرافد الثالث: سيرة الخلفاء الراشدين.
- الرافد الرابع: نظرية الديمقراطية.
وقد مهّد لنا الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم هذا الطريق منذ أربعة عشر قرناً من الزمان عندما حدّثنا قائلاً: «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، أولاها الحكم وآخرها الصلاة» وقائلاً: «الخلافة بعدي ثلاثون عاماً، ثم يكون ملك عضوض، ثم يكون حكم جبري، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتحدث هنا عن ثلاثة أنظمة للحكم، نظامان معروفان للناس بشكل كبير: وهما نظام الحكم الملكي الوراثي الذي أصبح متسماً بدرجة كبيرة من القبول لدى الناس (المواطنين) بحكم العادة والجهل, والنظام الجبري الذي يتحقّق بفعل القوة وفرض الأمر الواقع (كالنظام الامبراطوري مثلاً) والقاسم المشترك بينهما غياب القيم السياسية الكبرى - العدالة والحرية والمساواة والحماية ونصرة المستضعفين في الأرض حيثما كانوا ومن أي قوم كانوا – بسبب غياب الإرادة الشعبية والاختيار الشعبي والمعارضة السياسية والمواطنة المتساوية والفصل بين السلطات وسيادة القانون والرقابة والمساءلة والمحاسبة والتداول السلمي للسلطة وغير ذلك, ثم يتحدّث الرسول الكريم عن نظام سياسي ثالث لم تعرفه البشرية من قبل يحقّق كل تلك القيم السياسية ديناً وممارسة وفكراً هو نظام الخلافة الإسلامي الذي لم يمكث بعد رحيله سوى ثلاثين سنة, وأن هذ النظام يعد عروة كبرى من عرى الإسلام، وأن هذه العروة ستكون أول ما ينقض في الإسلام, وقد كان ذلك النقض بتحويل الحكم الإسلامي من نظام جمهوري يقوم على السيادة الشعبية والاختيار الشعبي والتداول السلمي للسلطة إلى نظام ملكي وراثي على يد معاوية بن أبي سفيان ومن سار معه على هذ الدرب عبر التاريخ من التيارات الفكرية والدينية والسياسية التي ألغت السيادة الشعبية والاختيار الشعبي والمواطنة المتساوية والتداول السلمي للسلطة، وألغت مسؤولية الحاكم والرقابة والمحاسبة, ثم يبشرنا رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بعودة نظام الخلافة بقوله: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة».
وإني لأرجو أن يكون هذ الجهد المتواضع خطوة صغيرة في طريق العودة المنشودة إلى الخلافة التي وعدنا بها رسول صلى الله عليه وسلم, كما أرجو من الجميع وخاصة المتخصصين إثراءها بالدراسة والنقاش والحوار والإضافة والتعديل والتبديل إن اقتضى الأمر حتى نصل مع غيرنا إلى الصورة المثلى لنظرية الحكم في الفكر الإسلامي؛ فيكون شعار «الإسلام هو الحل» حقيقة واقعة في عالم السياسة، وهذه الحقيقة سوف تقود عملية النهضة الشاملة في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية وغيرها.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.