الحجوري يعتبر الجنوبيين كفار وملحدين    ظهور مادة بيضاء تشبه السحب على الأرض شمال صنعاء    تنفيذية انتقالي عتق تعقد اجتماعها الدوري لشهر اغسطس    -    البنك المركزي يوقف تراخيص شركات صرافة جديدة لمخالفتها القوانين    بريطانيا تواجه "تحديا كبيرا" بسبب ضعف النمو الاقتصادي    وزارة الصحة: استشهاد وإصابة 37 مواطنًا جراء غارات العدو الصهيوني على العاصمة صنعاء    العلاقة الوجودية بين الأنظمة العربية الوظيفية والكيان الإسرائيلي    شعب إب يكتسح نور صبر في بطولة بيسان الكروية    الالتفاف خلف إصلاحات بن بريك... الطريق الوحيد لإنقاذ البلاد    حصيلة أولية بضحايا الغارات الإسرائيلية على صنعاء    اعتراف صهيوني: الطائرات "الإسرائيلية" تعرضت لتهديدات أثناء تنفيذ عمليات في اليمن    تقرير خاص : عدن ولحج وشبوة وحضرموت وأبين تواجه أسوأ منخفض جوي منذ سنوات    الرئيس الزُبيدي يبحث مع القائم بأعمال السفير الأمريكي مستجدات الأوضاع الإنسانية والتعافي الاقتصادي    زيادة الموارد الداخلية البوابة الاقرب لتعزيز الإصلاحات الاقتصادية    عاجل: إسرائيل تنفذ غارات جوية على صنعاء (تفاصيل)    بشرى الخير وقطف الثمار.. مرحبا دخول ربيع الأنوار    وزارة الصناعة والتجارة تعلن شطب وإلغاء 8781 وكالة وعلامة تجارية    وزارة الشباب والرياضة تعقد اللقاء التشاوري الرابع لمدراء المكاتب بالمحافظات    فلسطين وقضيتها العادلة ستظل حاضرة طالما هناك مقاومة حرة شجاعة    فعالية لشعبة الثقافة الجهادية بالمنطقة العسكرية الرابعة بالضالع بذكرى المولد النبوي    انفجارات عنيفة تدوي في صنعاء وسط تحليق مكثف لطيران حربي    عدن .. توتر في محيط مبنى الجوازات ينذر بمواجهة مسلحة    برشلونة يحبط مغامرة ليفانتي بثلاثية    ميلان يُسقط أمام كريمونيزي.. وروما يتجاوز بولونيا    الأرصاد: استمرار حالة عدم استقرار الاجواء وهطول الأمطار الرعدية متفاوتة الغزارة    افتتاح مكتبة الطفل الذكي بروضة الحياة النموذجية بمدينة البيضاء    انهيار منزلين في صنعاء القديمة وتجدد الدعوات لاستكمال مشروع الترميم    منتخب الناشئين للكاراتيه يحقق أربع ميداليات في البطولة العربية بالأردن    الأمم المتحدة: 18 مليون يمني مهددون بالجوع الحاد بحلول سبتمبر    ارتفاع حصيلة ضحايا لقمة العيش بغزة إلى 2,095 شهيدًا وأكثر من 15,431 إصابة    الانتقالي يؤكد دعمه لسلطة العاصمة عدن بمواجهة تداعيات السيول    إخلاصك خلاصك    الرهوي: الشقيقة الكبرى تتأمر علينا وسنؤذي من يؤذينا    علاج واعد لتلف الكبد الناتج عن مسكن شائع للألم    أولاد الحرام: صرفو أراضي بناء في مجاري السيول نتج عنه كارثة اليوم    إعفاء 250 سيارة محتجزة في حوش مرور الامانة    "إخوان اليمن" يواصلون نهب أموال الضرائب ومناهضة إصلاحات الشرعية(وثائق)    وزارة الشؤون الإجتماعية تشدد على استخدام العملة الوطنية في رسوم معاملات العمالة المحلية    ارتيتا يقلق جماهير ارسنال بشأن إصابة ساكا    الصقر يهزم وحدة التربة بسباعية ويتأهلان معا إلى ربع نهائي بطولة بيسان    الآنسي يهنئ المؤتمر بذكرى تأسيسه ويؤكد على الاصطفاف الوطني لاستعادة الدولة    الدوري الفرنسي: ليون يكتسح ميتز بثلاثية    الحماقة والتطرّف يقودان إلى الهاوية    حادثتان عنصريتان لا تُنسى في طفولتي    بحضور الفريق السامعي.. احياء الذكرى الرابعة لرحيل الدكتور عبد الوهاب محمود    المُثَقَّفُ الْأَنِيقُ / كَرِيم بن سَالِم الحَنَكِي غَادَرَنَا قَبْلَ الأوان    السيول تغرق صلاح الدين والحسوة و تتحولان إلى بحيرة    تعز !    الجمعة.. جدة تسهر مع الأوركسترا الحضرمية    أمتع خميس خريفي بضيافة أكرم الناس    عدن.. مكتب الصحة يوجه المستشفيات والمراكز الخاصة بتخفيض رسوم الخدمات الطبية    عدن.. مكتب الصحة يوجه المستشفيات والمراكز الخاصة بتخفيض رسوم الخدمات الطبية    عدن.. مكتب الصحة يوجه المستشفيات والمراكز الخاصة بتخفيض رسوم الخدمات الطبية    من يومياتي في أمريكا.. صديق بألف صديق    غموض الرؤوس المقطوعة لتماثيل النساء الأثرية في اليمن    الصحة العالمية: اليمن يسجل أكثر من 60 ألف إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    أكاذيب المطوّع والقائد الثوري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ولادة على خط النار
نشر في يمنات يوم 09 - 07 - 2025


عبد الفتاح الصناعي
في أواخر الثمانينات، عند تخوم واحدة من أكثر المراحل دموية في تاريخ اليمن الحديث، وُلدتُ في قرية نائية، لا يكاد يمر بها الزمن إلا ويترك عليها وشمًا من رماد الحروب. كانت البلاد تتقلب بين نارٍ توقدت للتو، وأخرى بالكاد خمدت. هكذا هو اليمن: الاستثناء فيه هو السلام، أما الأصل، فهو الحرب.
جئت إلى الحياة باكيًا، لا كأي وليد، بل كمن استشرف ما ينتظره: صراعٌ طويل، ومآسٍ سترافق الطفولة والشباب وحتى الكهولة. لم يكن البكاء نبوءة، بل كان الواقع نفسه يتكفل بترسيخها. وقتها كان والدي جنديًا حديث العهد في الجيش، وقد جاء إلى الخدمة مُكرهًا بعد دخول قوات صنعاء منطقتنا وفرضها التجنيد الإجباري.
ولدت في قرية صغيرة، تقع عند نقطة تماسٍ بين الشمال والجنوب، بين الاشتراكية والرأسمالية، بين الحداثة والتقليد. ولدتُ على أطلال حربٍ لم تهدأ، في ظل صراعٍ لم يمنح السلام فيه أكثر من هدنة عابرة… أشبه باستراحة محارب قبل جولة أخرى.
لم أختر أن أولد زمن الحرب، لكنها اختارتني. ومنذ لحظتي الأولى، حُملت باسمٍ سياسي بامتياز: عبدالفتاح، تيمّنًا بعبدالفتاح إسماعيل، القيادي اليساري ورمز الحزب الاشتراكي الجنوبي، وضحية مجزرة 1986 الشهيرة. كان اسمًا ثقيلاً، مشبعًا بالرمزية، لا يشبه أسماء الأطفال، ولا يسمح لحامله بأن يبقى محايدًا.
ومع ذلك، لم أره عبئًا. على العكس، وجدت فيه نافذةً لفهم الذات، ومرآة أتأمل بها التناقضات التي نشأت في قلبها. كثيرون حملوا الاسم نفسه، لكن ما ميّزني هو ذلك التوافق النادر بين اسمي واسم والدي، ما منحه وقعًا خاصًا، وأحيانًا… وقعًا مريبًا في بيئة محافظة.
وعيت على قرية تشبه ثكنة عسكرية، لا في شكلها فقط، بل في روحها. حطام الطائرات المنفجرة، وبقايا الدبابات والمدرعات، تحوّلت إلى أسقف منازل، وأدوات للمطبخ. الحرب لم تكن عابرة، بل مقيمة، تحاصرنا في تفاصيل الحياة اليومية. حتى باطن الأرض لم يسلم، فقد ظلت الألغام المدفونة تتربص بنا، تنفجر فجأة لتذكّرنا أن الهدوء، في اليمن، ليس إلا استراحة قصيرة بين موتين.
وكان الفكر المتطرف، لا يقل فتكًا. زُرع في العقول كما زُرعت الألغام في الأرض. كانت قريتي مسرحًا لصراعات متوالية، الجيش دخلها بالطائرات والمجنزرات، والشباب سُحبوا قسرًا إلى المعسكرات. أبي كان أحدهم، وجدي، شيخٌ تقليدي بسيط، وجد نفسه متعاونًا مع السلطة في صنعاء رغم عدم إلمامه بخيوط السياسة. تقول الروايات إن من اختار اسمي كان عمي غير الشقيق "شايف"، المتأثر باليسار والجبهة الوطنية، وكأن الاسم كان في حد ذاته موقفًا، أو صرخة تحدٍّ ضد القتلة.
كبرتُ وسط هذا الخليط المتفجر. أدركت مبكرًا أن الاسم في اليمن ليس تعريفًا، بل ساحة معركة. ولأني نشأت بين بيئة محافظة، ثم لاحقًا بيئة "متدينة"، شعرتُ دائمًا بالتناقض بين اسمي ومحيطي. اقتربت من الفكر اليساري في شبابي، لكني لم أستسلم له. شغفي لم يكن بالانتماء، بل بالفهم. وكنت أوقّع مقالاتي دائمًا ب"عبدالفتاح الصناعي"، متجنبًا اسم أبي "إسماعيل" لتفادي إسقاطات أيديولوجية جاهزة، خصوصًا حين أكتب آراء مستقلة.
قرأت كثيرًا عن عبدالفتاح إسماعيل. تأملت مقتله، شخصيته، إرثه السياسي. لكن انحيازي الحقيقي كان للرئيس سالمين، الزعيم الذي حاول أن يخرج من عباءة الأيديولوجيا ويصنع وطنًا برفقة الحمدي شمالًا. كنت أرى فيه مشروعًا وطنيًا جادًا تم اغتياله قبل أن يرى النور. كتبت عنهما كثيرًا، لا لأُصنّف نفسي، بل لأفهم: لماذا قُتل كل من أراد الخير لليمن؟
في طفولتي، كنت أرى الجبل القريب من قريتنا، "جبل العود"، مسرحًا لمعارك قديمة، لكني لم أكن أعلم أنه يخفي تحته تاريخًا أعمق. في بداية الألفينات، جاءت بعثة ألمانية للتنقيب، فاكتشفت مدينة حميرية بأكملها. قصور، تماثيل، نقوشٌ لملكة تُدعى "شمس". كنت وقتها طفلًا، أرقب الحدث من بعيد، وأشعر أن تحت كل صراع، هناك حضارة تنتظر أن نرفع عنها الركام.
بدأت أتمرد على فخرنا "بأننا أبناء منطقة اشتباك". صار يؤلمني هذا المجد الملوّث بالدم. وبدأت أنقد الجميع: اليسار واليمين، التقليد والحداثة، كل ما لم يوقف نزيف الحرب.
أنا عبدالفتاح، لم أكن يومًا مجرد اسم. أنا ابن الحرب والسلام المؤجل. أنا الباحث عن معنى يعيد لتراب هذا الوطن روحه، ولذاكرته حضارتها… لا حروبها.
في تلك الأجواء، ولدت كابن ثالث لعائلة متواضعة، وسُميت باسم زعيم سقط قتيلًا في صراعٍ داخلي. في منطقة كانت تمثل نقطة تماسٍ مشتعلة، كان مجرد اسمٍ كاسمي كفيلًا بأن يرسم ملامح قدرٍ لم أختره. واليوم، وقد أحرقت الحرب زهرة عمري، كما أحرقت أعمار الملايين، أدركت أن السلام ليس ترفًا، بل معركة مصيرية.
ولذلك، قررت ألا أكون ابن الحرب فقط… بل أن أعيش من أجل السلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.