هم شهود زور على انهيار وطن    السقلدي يكشف عن القوى التي تسيطر على المهرة واسباب الحضور الباهت للانتقالي    تغاريد حرة .. سيحدث ولو بعد حين    منظمة تكشف اختطاف مليشيا الحوثي 12 شخصًا من أسرة الشيخ حنتوس وتعرضهم للتعذيب    ولادة على خط النار    صنعاء .. الاعلام الحربي ينشر تسجيل مرئي للسفينة "ماجيك سير" من الاستهداف إلى الغرق    صنعاء .. الاعلام الحربي ينشر تسجيل مرئي للسفينة "ماجيك سير" من الاستهداف إلى الغرق    صنعاء .. الاعلام الحربي ينشر تسجيل مرئي للسفينة "ماجيك سير" من الاستهداف إلى الغرق    (دليل السراة) توثيق جديد للفن والأدب اليمني    تأثيرات الطقس الحار على القلب    مصير غامض يكتنف السفينة "إترنيتي سي" بعد اصابتها باضرار جسيمة ..!    أمل جديد لمرضى السكري من النوع الأول.. دواء واعد يؤخر الحاجة للأنسولين    تظاهرات في مدينة تعز تطالب برحيل المرتزقة ..    لندوة علمية بعدن حول (حوكمة الجامعات)    اختتام ورشة تدريبية حول السند القانوني لاستعادة الدولة الجنوبية بالعاصمة عدن    الدكتور الحاج يترأس اجتماعاً لممثلي المجلس الانتقالي في الخارج لمناقشة المستجدات السياسية    رئيس انتقالي أبين يؤكد دعم التلاحم الاجتماعي وتعزيز التعاون لخدمة مديرية أحور    فعاليات نسائية في همدان بذكرى استشهاد الإمام الحسين    تصل لخلل الجهاز العصبي.. أخطار الشاشات الرقمية على نمو الأطفال    أضرار السهر وتأثيره على الصحة الجسدية والنفسية    التعرفة بالريال السعودي.. كهرباء المخا من منحة إماراتية إلى مشروع استثماري    مايضير أوينفع الشاة بعد ذبحها    تدشين العمل بمشروع طريق اللصيب – خدير البريهي في ماوية    ضربة قوية لمبابي وروديجر قبل مواجهة سان جيرمان    ذمار تحصد 17مركزا ضمن أوائل الجمهورية    إلقاء القبض على قيادي حوثي في منفذ صرفيت بمحافظة المهرة    الزهري يترأس اجتماعًا للجان المجتمعية بخور مكسرالزهري يترأس اجتماعًا للجان المجتمعية بخور مكسر ويؤكد على تعزيز دورها الخدمي والتنموي ويؤكد على تعزيز دورها الخدمي والتنموي    مقتل 29 فلسطينيا بغارات إسرائيلية في غزة    جيش الاحتلال: أكثر من 70% من الإصابات كانت نتيجة العبوات الناسفة    السدة تسجل أعلى نسبة في كمية الامطار المتساقطة    استقرار أسعار الذهب عالميا مع تزايد القلق من الرسوم الجمركية الأمريكية    - وفاة عميد المخترعين اليمنيين المهندس محمد العفيفي صاحب الأوتوكيو ومخترع ال 31 ابتكارا    الرصاص يتفقد سير العملية التعليمية والتربوية في البيضاء    النجدة بصنعاء تستعيد 41 سيارة مسروقة    مونديال الأندية.. فيفا يلغي مباراة المركز الثالث    كمبيوتر عملاق يتوقع بطل كأس العالم للأندية 2025    اكتشاف مدينة مفقودة في بيرو عاصرت حضارات مصر القديمة وبلاد الرافدين    القدس يحرز كأس الفقيد الحكم الدولي المروني للكرة الطائرة    الهلال السعودي يتعاقد مع اللاعبة الفرنسية حمراوي    أمم أوروبا سيدات.. إسبانيا تكتسح بلجيكا بسداسية    شرطة تعز تمهل الجهات المختصة 24 ساعة لحل أزمة مياه الشرب وتؤكد أنها لن تقف عاجزة    الخبير المعالج الصلوي: الطب الشعبي مكملاً للطب العام ، في عدة مجالات    الفصل الخامس    عاجل: مقتل 5 جنود إسرائيليين شمال غزة    بعد ليزا نيلسون.. فنان فرنسي يتهم مها الصغير ب"سرقة" لوحاته    الامارات تنجز 90% من مشروع محطة الطاقة الشمسية لكهرباء عتق    صنعاء .. التأمينات الاجتماعية تعلن صرف مرتبات المتقاعدين وتستعد للانتقال للمحفظة الإلكترونية    تحسن ملحوظ في خدمة الكهرباء بعدن عقب وصول شحنة وقود إسعافية    اليافعي يكرّم الفنانة التشكيلية من ذوي الاحتياجات الخاصة هبة الفقير    مدرب الناشئين:سنتيح الفرصة لاستكشاف المواهب على امتداد خارطة الوطن    الإعلام الأمني: تسجيل 23 حالة انتحار خلال يونيو ومأرب وتعز تتصدران القائمة    مصر.. اكتشاف مقابر أثرية تحمل زخارف مدهشة في أسوان تعود للعصرين اليوناني والروماني    أين علماؤنا وفقهاؤنا مع فقه الواقع..؟    العام الهجري الجديد آفاق وتطلعات    (نص + فيديو) كلمة قائد الثورة بذكرى استشهاد الإمام الحسين 1447ه    لا يحق لإمام المسجد رفض أمر ولي أمر المسلمين بعزله من الامامة    دراما اللحظات الأخيرة.. الريال يعبر دورتموند ويصطدم بسان جيرمان    عاشوراء.. يوم التضحية والفداء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ولادة على خط النار
نشر في يمنات يوم 09 - 07 - 2025


عبد الفتاح الصناعي
في أواخر الثمانينات، عند تخوم واحدة من أكثر المراحل دموية في تاريخ اليمن الحديث، وُلدتُ في قرية نائية، لا يكاد يمر بها الزمن إلا ويترك عليها وشمًا من رماد الحروب. كانت البلاد تتقلب بين نارٍ توقدت للتو، وأخرى بالكاد خمدت. هكذا هو اليمن: الاستثناء فيه هو السلام، أما الأصل، فهو الحرب.
جئت إلى الحياة باكيًا، لا كأي وليد، بل كمن استشرف ما ينتظره: صراعٌ طويل، ومآسٍ سترافق الطفولة والشباب وحتى الكهولة. لم يكن البكاء نبوءة، بل كان الواقع نفسه يتكفل بترسيخها. وقتها كان والدي جنديًا حديث العهد في الجيش، وقد جاء إلى الخدمة مُكرهًا بعد دخول قوات صنعاء منطقتنا وفرضها التجنيد الإجباري.
ولدت في قرية صغيرة، تقع عند نقطة تماسٍ بين الشمال والجنوب، بين الاشتراكية والرأسمالية، بين الحداثة والتقليد. ولدتُ على أطلال حربٍ لم تهدأ، في ظل صراعٍ لم يمنح السلام فيه أكثر من هدنة عابرة… أشبه باستراحة محارب قبل جولة أخرى.
لم أختر أن أولد زمن الحرب، لكنها اختارتني. ومنذ لحظتي الأولى، حُملت باسمٍ سياسي بامتياز: عبدالفتاح، تيمّنًا بعبدالفتاح إسماعيل، القيادي اليساري ورمز الحزب الاشتراكي الجنوبي، وضحية مجزرة 1986 الشهيرة. كان اسمًا ثقيلاً، مشبعًا بالرمزية، لا يشبه أسماء الأطفال، ولا يسمح لحامله بأن يبقى محايدًا.
ومع ذلك، لم أره عبئًا. على العكس، وجدت فيه نافذةً لفهم الذات، ومرآة أتأمل بها التناقضات التي نشأت في قلبها. كثيرون حملوا الاسم نفسه، لكن ما ميّزني هو ذلك التوافق النادر بين اسمي واسم والدي، ما منحه وقعًا خاصًا، وأحيانًا… وقعًا مريبًا في بيئة محافظة.
وعيت على قرية تشبه ثكنة عسكرية، لا في شكلها فقط، بل في روحها. حطام الطائرات المنفجرة، وبقايا الدبابات والمدرعات، تحوّلت إلى أسقف منازل، وأدوات للمطبخ. الحرب لم تكن عابرة، بل مقيمة، تحاصرنا في تفاصيل الحياة اليومية. حتى باطن الأرض لم يسلم، فقد ظلت الألغام المدفونة تتربص بنا، تنفجر فجأة لتذكّرنا أن الهدوء، في اليمن، ليس إلا استراحة قصيرة بين موتين.
وكان الفكر المتطرف، لا يقل فتكًا. زُرع في العقول كما زُرعت الألغام في الأرض. كانت قريتي مسرحًا لصراعات متوالية، الجيش دخلها بالطائرات والمجنزرات، والشباب سُحبوا قسرًا إلى المعسكرات. أبي كان أحدهم، وجدي، شيخٌ تقليدي بسيط، وجد نفسه متعاونًا مع السلطة في صنعاء رغم عدم إلمامه بخيوط السياسة. تقول الروايات إن من اختار اسمي كان عمي غير الشقيق "شايف"، المتأثر باليسار والجبهة الوطنية، وكأن الاسم كان في حد ذاته موقفًا، أو صرخة تحدٍّ ضد القتلة.
كبرتُ وسط هذا الخليط المتفجر. أدركت مبكرًا أن الاسم في اليمن ليس تعريفًا، بل ساحة معركة. ولأني نشأت بين بيئة محافظة، ثم لاحقًا بيئة "متدينة"، شعرتُ دائمًا بالتناقض بين اسمي ومحيطي. اقتربت من الفكر اليساري في شبابي، لكني لم أستسلم له. شغفي لم يكن بالانتماء، بل بالفهم. وكنت أوقّع مقالاتي دائمًا ب"عبدالفتاح الصناعي"، متجنبًا اسم أبي "إسماعيل" لتفادي إسقاطات أيديولوجية جاهزة، خصوصًا حين أكتب آراء مستقلة.
قرأت كثيرًا عن عبدالفتاح إسماعيل. تأملت مقتله، شخصيته، إرثه السياسي. لكن انحيازي الحقيقي كان للرئيس سالمين، الزعيم الذي حاول أن يخرج من عباءة الأيديولوجيا ويصنع وطنًا برفقة الحمدي شمالًا. كنت أرى فيه مشروعًا وطنيًا جادًا تم اغتياله قبل أن يرى النور. كتبت عنهما كثيرًا، لا لأُصنّف نفسي، بل لأفهم: لماذا قُتل كل من أراد الخير لليمن؟
في طفولتي، كنت أرى الجبل القريب من قريتنا، "جبل العود"، مسرحًا لمعارك قديمة، لكني لم أكن أعلم أنه يخفي تحته تاريخًا أعمق. في بداية الألفينات، جاءت بعثة ألمانية للتنقيب، فاكتشفت مدينة حميرية بأكملها. قصور، تماثيل، نقوشٌ لملكة تُدعى "شمس". كنت وقتها طفلًا، أرقب الحدث من بعيد، وأشعر أن تحت كل صراع، هناك حضارة تنتظر أن نرفع عنها الركام.
بدأت أتمرد على فخرنا "بأننا أبناء منطقة اشتباك". صار يؤلمني هذا المجد الملوّث بالدم. وبدأت أنقد الجميع: اليسار واليمين، التقليد والحداثة، كل ما لم يوقف نزيف الحرب.
أنا عبدالفتاح، لم أكن يومًا مجرد اسم. أنا ابن الحرب والسلام المؤجل. أنا الباحث عن معنى يعيد لتراب هذا الوطن روحه، ولذاكرته حضارتها… لا حروبها.
في تلك الأجواء، ولدت كابن ثالث لعائلة متواضعة، وسُميت باسم زعيم سقط قتيلًا في صراعٍ داخلي. في منطقة كانت تمثل نقطة تماسٍ مشتعلة، كان مجرد اسمٍ كاسمي كفيلًا بأن يرسم ملامح قدرٍ لم أختره. واليوم، وقد أحرقت الحرب زهرة عمري، كما أحرقت أعمار الملايين، أدركت أن السلام ليس ترفًا، بل معركة مصيرية.
ولذلك، قررت ألا أكون ابن الحرب فقط… بل أن أعيش من أجل السلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.