علي المقري شاعر وروائي يمني، يعمل منذ الثمانينات من القرن الماضي في الإشراف على الصفحات الثقافية في عدد من الصحف اليمنية، تعرض للتكفير بسبب قصيدته «تدليك»، وكتب دراسات حول الاسلام والخمر أحدثت سجالاً في الوسط الديني وهو الآن يطمح الى إبراز حضوره في كتابة الرواية العربية. يكتب المقري عن قضايا شائكة لأنه يكتب بحرية كما يقول. أنجز ثلاث مجموعات شعرية والرابعة تُنشر قريباً. كذلك أنجز ثلاث روايات، نُشرت واحدة منها فحسب والثانية في عهدة الناشر. ولا يدري إن كان سيتوقف عن كتابة الشعر مستقبلاً. وهو بات ككثير من المثقفين العرب، يعيش بين حب الشعر وطموح الكتابة الروائية، ولم يكن سهلاً عليه اجتياز مطبات الرقابة الدينية والاجتماعية ففي خلال سنوات قليلة، أثيرت حوله أكثر من {زوبعة} رقابة ودينية، نسأله: هل أفادتك الأصوات التكفيرية التي هبّت ضدك؟ يجيب: كلا، بل تسببت لي بأضرارا مادية مباشرة، وأخرى نفسية صعبة جداً. الكهنوت الديني يصدر فتواه ضدّك، يدعو إلى جلدك ويحرّض عليك الغوغاء صباحاً ومساء، وعلى رغم هذا يظن أنه أفادك ومنحك الشهرة. كيف تستمتع بالشهرة والكهنوت الديني يقاسمك غرفة نومك، بل يرقد معك في سريرك نفسه». في روايته الأولى «طعم أسود رائحة سوداء» التي لاقت نقاشاً واسعاً في الوسط الثقافي، يتطرق المقري الى عالم {الأخدام}، وهي الفئة المهمشة الأشد فقراً في اليمن، ومجتمعهم الخاص، و«الغيتو» الذي يعيشونه والتمرّد على القيم بممارسات جريئة. لم تحدث رواية المقري سجالاً في الوسط الديني بل في الوسط الثقافي، وكتب عنها الكثير خصوصاً لأن الروائي اختار الأخدام موضوعاً لروايته. فالأخدام قضية منسية لا نعرف عنها إلا النذر اليسير، وقد تناول المقري أفرادها كما هم أو باعتبارهم قضية اجتماعية. يعتبر المقري أن الأخدام يواجهون تمييزاً عنصرياً أشد قسوة من التمييز السابق في أفريقيا وأميركا، أو الهند. فالتمييز هناك تزامن مع الممارسات العبودية ضد السود والملونين، أمّا في اليمن فقد صاحبت التمييز العنصري بسبب اللون ممارسات اضطهادية وتهميشية، أسوأ من العبودية. وكذلك نُبذ الكثيرون بسبب مهنهم كالمزينين، والحلاّقين والحرفيين. تحكي روايه المقري «طعم أسود...» قصة «أمبو» الذي هرب إثر علاقة حميمة مع فتاة من فئة المزينين المهمشين تدعى «الدعلو»، الى محوى الأخدام. وهناك حيث الحب يتجاوز حدود التفرقة كافة، تتكشف العلاقات، لتثار عشرات الأسئلة عن الوطن والهوية والتاريخ. لماذا لا يجد رباش سوى الخيانة، خيانة كل شيء: الدين والوطن والتاريخ؟ فيما سرور، الذي يرفض الدمج في المجتمع، ظل يهمّش «الأخدام» طويلاً، ويقترح أن يحنطوا نموذجاً منهم، ويضعوه في زجاج في المتحف، ثم يتركوا من تبقى منهم ينقرضون؟ أوبئة وموت تدور أحداث رواية المقري بين عامي 1970 و1982، زمن تقسيم اليمن وقبل وحدته، في مدينة «تعز» قرب مستنقع «عصيفرة» حيث محوى من مجمعات عشش الأخدام المبنية من الكارتون والصفيح. يتعرف الراوي إلى الأخدام ليعرفنا إليهم بما تختزنه حياتهم من مرارة. يقول الراوي بلسان الشخصية الرئيسة «أمبو»: «ابن شموس مات بعد أن بقي يبوّل دماً لمدة أسبوعين، وكان في الثامنة من عمره تقريباً. كاذية بنت المسفوح في العشة المجاورة لعشة شموس كانت أكبر، ربما في العاشرة، ماتت بعد سعال دام لأشهر وقالو إنه السل. بدأت سنة حزينة كان الشتاء كعادته مليئاً بأخبار موت الأطفال المفزعة. الصيف جاء أيضاً ومعه البلهارسيا والملاريا». أضاف: «لم يكونوا في العش يرهبون الموت حين يعلمون موت رجل أو امرأة بلغا الثلاثين أو أقل من ذلك ببضع سنوات. يعتقدون أنها كافية لعمر الخادم وأفضل له من بقائه وهو يتعذب من الأمراض التي تهاجمه طوال عمره، وتصبح صعبة الاحتمال بعد الخامسة والعشرين وأصعب بعد الثلاثين». مثل أخر استهلّ به المقري الرواية: «في مدينة تعز أصدر الحكم على «رباش العبد» الذي تجرأ على أن يحب فتاة، فاتهم «بالخيانة وانتهاك حرمة إحدى الأسر الكريمة». والأخدام هؤلاء لا تسمح لهم المحكمة بدخولها، «حتى وإن كان لحضور جلسات تعقد لمحاكمة أهاليهم. يدخلونها فقط حين يقبلون كخدام فيها يكنسون القاعات والغرف من الأوراق التي يرمي بها الكتاب والمتقاضون وينظفون الأوساخ التي تتناثر من الأحذية والأفواه». آراء يورد المقري في الرواية آراء وأبحاثاً حول الأخدام وأصلهم. يتحوّل بعضهم الى مناصر لجماعات يسارية خاصة في عهد «سالمين» أو سالم ربيع علي. حصة هؤلاء المساكين من «التطور» اتخذت الشكل التالي: «زحف البيوت الإسمنتية نحو العشش يزيد من قلقنا. جرافات كثيرة سبقتها. لم يكونوا يستأذنون أحداً من الأخدام في هدم عششهم ومسح الأرض لتكون صالحة للبناء. قالوا إن تجاراً كباراً اشتروا الأرض من أصحابها الذين لم يعرفهم أحد...» يصوّر المقري فن الأخدام وألعابهم وأغانيهم وعاداتهم ويبوح بشكاواهم. وينفي أن تكون روايته بحثاً اجتماعياً، مشيراً إلى أن ثمة مداخلات سردية حول جوانب اجتماعية وسياسية لم يستطع تجاوزها وهو يكتب عن الأخدام، ليس من منطلق تأكيدها أو توثيقها كهدف أو غاية، بل باعتبارها ضرورة سردية غير منفصلة عن البناء الكلي. من الأسئلة التي تختصر أفكاراً كثيرة متوخاة في الرواية التي تدور أحداثها في سبعينات القرن العشرين المنصرم وثمانيناته، سؤال نقل من متنها إلى غلافها، وهو: «هل يمكن للطفل الأسود عبده عيشة أن يدخل المدرسة ويتعلم مع التلامذة، خصوصاً أن اللون الأسود في العلم يرمز إلى عهد الظلام البائد وإلى كل ما هو قبيح وبشع وسيئ...». يقول المقري في هذا الإطار: {للأسف ما زال الأخدام يعيشون في ظروف قهريّة ومستلبة لا مثيل لها فأغلب اليمنيين يتعاملون معهم من وجهة عنصرية بسبب سواد لونهم، يتفق بذلك السياسيون والمواطنون العاديون. إلى جانب ما يواجهه الأخدام من تهميش وفقر مدقع مصاحب للأوبئة والأمراض في التجمعات التي يمكثون فيها موقتاً على أطراف المدن، والتي تتعرض للإزالة والاستيلاء دائماً، فتصبح حياتهم في مهب الّريح». هل قرأ بعض الأخدام روايتك؟ يجيب المقري: «نعم البعض قرأ الرواية، خصوصاً الشباب. الأخدام جميعهم من الشباب فهم لا يعمّرون كثيراً لأن الأمراض تفتك بهم وتميتهم قبل أن يصلوا إلى الثلاثين. الأخدام يعرفون أنني صديقهم. إذا كنت سأنسى الكثير من ذكريات حياتي، فلن أنسى أبداً، ذلك العناق الحميم الذي تلقيته من بعضهم قبل 16 عاماً، حين اطلع على الرواية في مسودتها الأولى، لقد شعر أنني جزء منهم، أمّا أنا فلم أشعر أبداً في يوم ما أنني بعيد عنهم».