اليوم تحل علينا الذكرى الثالثة لجمعة الكرامة، ذلك اليوم الذي شكل فارقاً في تاريخ اليمن الحديث ونقطة تحول في مسار الثورة الشبابية الشعبية السلمية التي خرجت لتسقط الظلم والفساد والفوضى والقهر والتجهيل والاستئثار بالمال والسلطة، ثورةٌ انفجرت لتنتصر لأنها مثلت إرادة الشعب اليمني الحر الأبي الحليم الصبور الذي إن غضب صار بركاناً لا يقف في وجهه شيء . بكل الحزن أقول كان يوماً دامياً حزيناً صور ملحمةًً تعجز عن وصفها أقلام الكُتاب وقرائح الأدباء، ملحمةً بحق جسدت تراجيديا الصراع الأبدي المحتدم بين الخير والشر بين الظلم والعدل بين الظالم والمظلوم ، قدم فيه أفضلنا أغلى ما لديهم ، أرواحهم ، دماءهم ، ثمناً للحرية والكرامة التي شروها لنا ورحلوا عنا مرتقين إلى جنان الخلد بإذن الله العلي القدير . أتذكر يومها ونحن في ساحة الجامعة وقوافل الشهداء والجرحى على الأكتاف محمولة من جولة المركز الطبي الإيراني وجولة السيتي مارت إلى المستشفى الميداني ، يومٌ اختلطت فيه دموعُنا بدماء الشهداء والجرحى المحمولين على أكتافنا سائرين بهم على عجلٍ إلى المسعفين ، يومٌ ارتفعت فيه أصواتنا بالتهليل والتكبير والدعاء على الظالمٍ الذي استباح دماء شبابٍ يمنيين لا ذنب لهم سوى أنهم أرادوا الحرية والكرامة، سلاحهم الإرادة والتصميم والعزم على العودة أحراراً مكرمين أو اللاعودة . أتذكر أني يومها صعدت على منصة الجامعة لألقي بياناً صادراً عن اللجنة القانونية للثورة الشبابية الشعبية السلمية تضمن عبارات الصمود والتحدي للقتلة السفاحين ، والتوعد لهم بأن يوم العدالة والإنصاف قريبً ولابد أن تطالهم يد القانون الذي لابد وأن يقول فيهم قولته ويشفي الله به صدور قومٍ مؤمنين ، مذكراً في البيان بأن ثورتنا ستظل سلميةً سلميةً سلميةً مهما فعلوا بنا قتلاً وجرحاً وتنكيلاً وأننا لن ننجر إلى مربع العنف المتبادل مهما كانت التضحيات وبذلك انتصرت الثورة لأنها سلمية في وقتٍ كان الطرف الآخريحلم بشدة أن يتخلى الثائرون عن سلمية ثورتهم ولكن هيهات هيهات ، وانتصرت الثورة بسلميتها لتضع اليمن على مسار صناعة الدولة المدنية الحديثة دولة النظام والقانون دولة الحريات دولة المواطنة المتساوية التي أرادها الشهداء ودفعوا في سبيلها أرواحهم الطاهرة . نعم لابد وأن ينال القتلة والمعتدون العقاب الذي يستحقونه جراء جرائمهم التي ارتكبوها بعد محاكماتٍ عادلة ينالون فيها حقهم من الضمانات المكفولة دستوراً وقانوناً ، محاكماتٌ تُوفر فيها كل الحقوق المكفولة للمتهمين لتتوج بأحكامٍ عادلة يرضى عنها الله وأرواح الشهداء وأهاليهم وكل الشرفاء . وأجد من الواجب الذي لا يسقط عني إلا بأدائه أن أخاطب بعض إخوتي الثوار الذين أراهم اليوم يستعجلون إجراءات المحاكمة للوصول إلى الإنصاف والاقتصاص من القتلة والمعتدين ولهم في ذلك كل العذر بل هذا هو عين الوفاء للشهداء والجرحى أقول لهم : إن العدالة ولا شك آتيةٌ ولكن يجب أن نثبت لأنفسنا قبل الآخرين أننا دعاةُ نظامٍ وقانون وأول من يحترم القانون ويلتزم به ويكرس استقلال القضاء . إن القضاء هو مرجعيتنا جميعاً وهو ينظر اليوم قضية جمعة الكرامة وهنا فلابد أن نكون القدوة في احترام القضاء وإعطائه حقه ومتابعة القضية بعيداً عن أي تجريح أو إساءة أو تلويحٍ بتصرفاتٍ لا تسيئ لأحدٍ بقدر إساءتها للثورة الشبابية الشعبية السلمية . لقد قررت المحكمة الابتدائية التصدي لمتهمين لم يشملهم قرار الاتهام وإعادة ملف القضية إلى النيابة العامة للتحقيق معهم وتقديمهم كمتهمين وقد استأنفت النيابة العامة القرار انطلاقاً من مصلحتها في الدفاع عن رأيها في القضية المتمثل في قرار الاتهام وحمايتها للدعوى العامة التي رفعتها أمام المحكمة ، وبعيداً عن صحة الاستئناف من عدمه فإن محكمة الاستئناف هي المعنية بالفصل في هذا الأمر بالقبول أو الرفض وهي المخولة بذلك دستوراً وقانوناً وملف القضية أمامها الآن فلماذا يهدر البعض طاقته في توجيه الإساءات وكيل الاتهامات للنيابة العامة ممثلة بالنائب العام الدكتور / علي الأعوش بدلاً من توجيه الجهود لمتابعة القضية أمام محكمة الاستئناف ومواجهة الإجراء المرفوض قضائياً بعيداً عن الشخصنة والتجريح والتلويح بما لا يصح أن يُلَوَحَ به في وجه القضاء الذي نقف أمامه أصحاب مظلمةٍ يريدون الإنصاف. موقف اللجنة التنظيمية للثورة الشبابية من النائب العام والذي عبرت عنه في البيان الصادر الخميس الفائت أراه ومعي الكثيرون غير موفقٍ لأسبابٍ كثيرة أذكر منها ما يلي : 1- هذا الموقف لا يتفق مع أحد أهم أهداف الثورة الشبابية الشعبية السلمية وهو إقامة دولة النظام والقانون ، إذ كيف يستقيم قيام دولة النظام والقانون دون وجود قضاء قوي مستقل يحترمه الجميع ولا يخضع لإرادة احدٍ إلا القانون؟ . 2- هذا الموقف يتعارض مع مبدأ استقلال القضاء الذي لا يمكن ان يتحقق مع وقوع قياداته وقضاته في موضعٍ الارتهان لمشيئة هذه الفريق أو ذاك بمعنى أنه لو حقق المطالبون بإقالة النائب العام أمنيتهم - وهم جزءٌ من الشعب اليمني وليسوا كله - وتم إقالته فإن النائب العام القادم الذي سيتم تعيينه بدلاً عنه لن يكون ملتزماً بالقانون بل سيكون ملتزماً بإرادة من أسقطوا سلفه ، لن يكون تحت سلطة القانون بل تحت سلطة من يستطيعون الخروج للمطالبة بإقالته كسابقه ، لن يكون مستقلاً بل مرتهَناً ، لن يكون نائباً عاماً لكل اليمنيين بل نائباً خاصاً لجزءٍ من اليمنيين !! وعلى ذلك قِسْ كل القُضاة ورؤساء ووكلاء وأعضاء النيابة العامة وعندها فلنقل على القضاء السلام وبالتالي فلنقم مأتماً وعويلاً على الدولة المدنية الحديثة دولة النظام والقانون. 3- إن من مصلحة المجني عليهم في قضية جمعة الكرامة أن تتوفر فيها للمتهمين كل الضمانات التي تكفل حقوقهم المكفولة شرعاً وقانوناً لتصل في آخر الأمر إلى حكمٍ محصنٍ قويٍ عادلٍ ومنصف لا تشوبه شائبة ولا يستطيع أحدٌ اليوم أو غداً أن يقول عنه شيئاً ، وحتى لا تُستغلَ ثغرةٌ في المحاكمة فيأتي غداً من يقول : إن الثورة الشبابية حين انتصرت انتقمت من خصومها وفتكت بهم . كما أن وجود ملف القضية اليوم أمام محكمة الاستئناف ينزع ولاية النيابة العامة عن اتخاذ أي إجراء في القضية حتى صدور حكم محكمة الاستئناف وبما لا يصح معه أن نطالب النائب العام اليوم بتنفيذ قرار المحكمة الابتدائية والتحقيق مع المتهمين المُتصدى لهم لأن إجراءً كهذا لو اتخذه النائب العام محكومٌ بالانعدام لعدم الولاية وهذه أمور يدركها رجال القانون جيداً إذاً فلنركز جهودنا أمام محكمة الاستئناف لسرعة الفصل في الاستئناف . وختاماً لا بد وأن أذكر صديقي وزميلي العزيز الأستاذ / حزام المريسي المحامي الذي عهدته دائماً مثالاً للاعتدال والتفكير المنطقي وقول الحق ولو على نفسه ومعه كل الزملاء والإخوة بأن من واجبنا العمل على دعم استقلال القضاء وأن هذا لا يمكن أن يتأتى بمثل هذه المواقف وأكرر ما كتبته في مقالٍ سابق " إن من الديمقراطية أن يخرج الشعب إلى الشارع لإسقاط أي سياسي كان مهما بلغ حجمه ، ولكن ليس من الديمقراطية وليس من مصلحة الدولة إطلاقاً أن يتدخل الشارع في تعيين أو استبدال أو نقل أو عزل قاضي " . حفظ الله اليمن قويةً موحدةً ...المجد والخلود للشهداء ، ....وإلى لقاء بإذن الله.