يتجولُ المحافظ (( شوقي هائل )) في شوارع تعز بلا مرافقين و لا سلاح ، إذاً تعز آمنة للغاية و (( شوقي )) متمدن و حضاري بلا حدود .. لا يجرؤ كاتب هذه السطور على التجوال في شوارع تعز إلا بسلاح شخصي و على نطاق مكاني ضيِّق للغاية و تحت إلحاح الحاجة للبقاء حياً ، إذاً كاتب هذه السطور قبيلي متخلف يهدد تمدُّن تعز و يشوِّه وجهها الحضاري الجميل و ينتهك سكينتها و أمنها .. "شوقي" يتناول ال"سيمون فيميه" ؛ إذاً "الحالمة" متخمة و لا يعوزها "الخبز".... ياله من منطق بالغ الخفة و الهُزء بعقل القارئ و حقائق الواقع ؛ و يالظرف و بهلوانية و ابتذال أولئك النفر من الكتاب الذين يمتهنون (( مؤازرة شوقي )) على هذا المنوال من الشقلبة و التنطيط و الطبطبة على جراب الألاعيب و المياومة الفكرية الرخيصة .. لكن ما الوضع العصيب الذي يمر به (( شوقي هائل )) بحيث يحتاج معه إلى المؤازرة ؟! وفي مواجهة من ؟! وماذا ؟! تقول جوقة البهلوانات إن كائنات لحومية مفترسة من عصور ما قبل الإنسان ، تزحف على مضجع المحافظ ذي الدم الآري الأزرق لتلتهمه و تلتهم معه كل حضارة و تمدن و رقي .. و يقول الواقع إن ثلاثة ملايين كائن يرزحون تحت خط الآدمية ، هم قوام نزلاء هذا الحضيض الاجتماعي الجغرافي المسمى (( عاصمة ثقافية )) ، يستغيثون طيلة حوالي أربعة أعوام ، بالمحافظ (( الفلتة )) لينجدهم من أشداق النافذين و لصوص الأرواح و العقارات و عصابات الجريمة المنظمة ، بيد أن (( المحافظ )) لا يفعل شيئاً يبرهن به على جدِّية انتمائه لمدينة لايكف عن التغني بفرادتها و مغايرتها .. و فضلاً عن ذلك فإنه مستمر في توثيق صلته ببؤر و رموز الجريمة و الفوضى و النفوذ و إجزال العطايا و الترضيات لهم ، بهدف تأمين نطاق مصالحه الخاصة ، و لتذهب المدينة وبشرها و أمنها العام إلى الجحيم .. يقول الواقع إن (( تعز )) و ليس محافظها هي من يمر بظرف عصيب ، وهي لا (( شوقي )) من يستحق المؤازرة و النجدة ، وهذه النجدة و المؤازرة يقتضي المنطق أن تستهدف خلاص المدينة من خطر قائم لا محتمل ، و أن تتوجه ضد منظومة غيلان مخضرمين تعرفهم المدينة وسلطتها المحلية بأسمائهم ، لا طواحين هواء و كائنات قادمة من (( العصر الكمبري )) .. حظي (( شوقي )) مطلع توليِّه القيادة بإسناد شعبي كبير . راهن الغالبية على قدرته في ترجمة أحلامهم بالحد الأدنى على مصاف تثبيت الأمن و عدم ممالئة رموز النفوذ و الجريمة ، فبدد الفرصة تلو الأخرى ، وذهب دائماً في الاتجاه المعاكس للشعارات و الوعود التي كانت ولا تزال تكتظ بها خطاباته . تجاوز نظرياً قوائم المحاصصة التي حاولت قوى السيطرة التقليدية فرضها على سدة المكاتب الحكومية في المحافظة ، عبر انتهاج مبدأ المفاضلة المفتوحة بين متنافسين غير حصريين ، وفقاً لحزمة معايير و اختبار جدارة .. وعندما أفضت النتيجة الى غير ما تشتهي قوى السيطرة ، ضرب (( المحافظ )) عرض الحائط بمبدأ المفاضلة و مخرجاته ، و انخرط في مقايضات مشبوهة تمخضت في إحدى صورها على سبيل المثال عن تعيين شخصية متحفية إخوانية في سدة مكتب التربية ، و خذلان الفائز في المفاضلة (( الدكتور / عبدالعزيز المخلافي )) .. أما ثمن ذلك فكان على الأرجح اطلاق سراح نجل أخيه رجل الأعمال (( محمد منير هائل )) المختطف لدى نافذين في مأرب ، بعون و تسهيلات من نافذين في تعز جميعهم معروفون و ينتمون (( للإصلاح )) .. اعتقدنا أن (( مدير أمن )) صلباً و مخلصاً هو ما يفتقر اليه (( شوقي )) ليفعل ما يتوجب عليه فعله ، فكان (( العميد / مطهر الشعيبي )) هبة الصدفة التي تسد بجدارة هذا الفراغ في كتيبة المحارب الافتراضي الوحيد على جبهة المواجهة .. فتبين بالنتيجة أن (( المحارب المزعوم )) لم يكن يعوزه كمحافظ ؛ مديرُ أمن للمحافظة و لملايينها الثلاثة المغلوبين على أمرهم ، وإنما يعوزه (( ضابط أمن )) ل(( المجموعة التجارية )) بوصفه أحد أبرز أقطاب العائلة المالكة لها .. لقد أخفق (( محافظ المجموعة )) بطبيعة الحال في تطويع (( العميد العشيبي )) ك(( حارس شخصي بودي جارد )) ، لديه فعمل على تجريده بصورة ناعمة من صلاحياته و تقليص فاعليته الميدانية ، عبر توجيه الاهتمام و الدعم صوب قوة أمنية عسكرية مستحدثة مرتبطة به مباشرة و تحظى بوضع مالي خاص مريح و باذخ ، يجعلها أشبه ب(( قوة الحماية الرئاسية )) التابعة ل(( هادي )) .. انظروا إزاء ذلك إلى بؤس المرافق الأمنية الرئيسة المنوطة بالبحث و التحري و الضبط و أدوار تنفيذية تفتقر الى الحد الأدنى من الإمكانات المادية للنهوض بها ، الأمر الذي تبدو معه مجرد مكاتب لاستقبال الشكاوى ، عديمة الحيلة .. أجل ثمة أسباب تتعلق بالمركز و بالوضع العام الخائر للمؤسسة الأمنية على مصاف الدولة ، لكن إدارة البلد بوصفه مجموعة ضِيَعٍ و مناطق نفوذ مقتطعة و موقوفة حصرياً على عصبة من (( الأقيال )) ، لا تتيح الفرصة للتذرع بمركزية الدولة و إلقاء اللائمة عليه في تردي أوضاع الأطراف .. إذ أن كل طرف يغدو حينها مركزاً ضمن مجموعة مراكز تؤلف في المحصلة قوام سلطة القوى المسيطرة و يغدو (( المركز )) (( مركز السلطة )) لا (( مركز الدولة )) التي يقر الجميع بأنها غائبة أو مغيبة في أحسن الأحوال .. في ظل هذه المعادلة السلطوية المليشياوية المتذرعة بالبزات الرسمية و المتلطية خلف (( أكذوبة هيبة الدولة المتوهمة )) ، يصبح الأمن الخاص لمراكز السيطرة لاغياً للأمن العام للشعب ؛ وليس مقدماً فحسب ، و يختزل (( الوطن المتوهم )) في مجموعة العقارات المملوكة لتلك المراكز و المصالح التجارية الخاصة بها و المكتسبة عموماً عن طريق الاستحواذ و السطو المباشر وغير المباشر ، في مناخ من الغلبة و انعدام تكافؤ الفرص .. إن (( شوقي هائل )) يستثمر هنا تحديداً ، في هذه المنطقة الملتبسة بين (( وهم الدولة )) و (( حقيقة سلطة قوى السيطرة )) ، و بين (( المواطنة المعدومة )) و (( القنانة المقنعة القائمة )) و قطعانها المنوَّمة بسحر الشعور (( بالفرادة و المغايرة )) و (( رومانسية الخطاب المشحون بالتشبيب و الغزل الذي يسوِّق لها (( برصها و جذامها و بؤسها )) بوصفها مفاتن ينبغي أن تباهي بها ، لا أن تتحرج منها .. فيما تحضر (( الحالمة )) هنا بوصفها قيمة هامشية مضافة ضمن أرقام حساب (( المجموعة التجارية )) التي لا تحب ولا تكره محافظة دون أخرى ، إلا بمقدار ما تكسب هنا أو هناك .. وهي لا تكسب إلا (( بسلطة السيطرة الكمبرادورية الراهنة )) و لا تناضل إلا لاستمرارها على النقيض لمصالح و وجهة نضال الشعب الخاسر على الدوام مالم يجر تقويض تلك السلطة و انجاز قطيعة معها بإنتاج نقيضها ...
إن سبعين عاماً من عمر (( العائلة التجارية الكبرى )) لم يكن كافياً لبناء (( مسرح 20 x 20 متر )) يتيح ل(( شوقي )) أن يقف على خشبته اليوم و يصرخ مساجلاً منازل (( صعدة )) المهدمة و جثث أطفالها المتفحمين : (( نحن المدنية والحضارة فمن أنتم )) ... ولو أن (( شوقي )) وسواه كان متمدناً و حضارياً حقاً لما احتاج الى أن يساجل المحرومين و البؤساء من ضحايا الجنازير المشحمة بدولارات العائلة و غزوات السكاكين الهمجية التي تنتجها الآف الفقاسات الخيرية التابعة للمجموعة بوفرة في سوق (( الجهاد )) ضد كل تمدن و حضارة و إنسانية .. لقد كانت معضلات (( تعز )) دائماً ، معضلات وطنية طبقية معقدة هي نتاج لسياسة الحكم بالوكالة و تقويض فرص وإمكانات استقلال الأفراد و البنى الاجتماعية و البلد عموماً من ربقة العصبيات الانعزالية و أطواق مراكز قوى السيطرة المحلية الاقليمية الدولية المتضافرة ضدها .. وكان نضال أبناء (( تعز )) الشرفاء موجَّهاً ضد سلطة مراكز الحكم بالوكالة تلك ، لا ضد ولا لمصلحة فئة أو سلالة أو عرق أو قبيلة أو مذهب .. كان نضالاً وطنياً استهدف خلاص المحافظة من معضلاتها المعقدة في إطار خلاص البلد ، و رأى في انجاز الهوية الوطنية الجامعة على أساس المواطنة الفاعلة المنتجة ، سبيلاً و غاية مشتركة لقوى الشعب الحية التي عانت و لاتزال تعاني من التهميش و الإقصاء و ابتخاس القيمة الاجتماعية لأفرادها و جماعاتها ، من قبل سلطة السيطرة الكمبرادورية .. إن استدعاء (( تعز )) كعصبية مناطقية مغلقة وفي تضاد حتمي مع سواها من محافظات البلد ، هو سبيل (( شوقي و جوقة النافذين )) للإفلات من خناق الاستحقاقات المفروضة عليه كمحافظ تجاه المدينة و مديرياتها ، عن طريق حشد أبنائها في خندق مصالحة الخاصة ، بالضد لمصالح المحافظة و أبنائها .. إنه استثمار ليست أقل منه قبحاً محاولات (( فريق جهوي موازٍ بقيادة صادق أبو شوارب )) استدعاء عصبيات قبلية افتراضية في مديريات ريف المحافظة ، بدعوى (( العمل الثوري )) في مجابهة (( الفساد و الاختلالات الأمنية )).. كلا الاستثمارين لا يشرع أبواب المدينة مجازاً ، أمام شيء و لا يوصدها أمام شيء ، قدر ما يضرُّ بنسيجها الاجتماعي المستهدف باستقطابات مغالبةٍ و ترويضٍ متطابقةٍ من حيث وسائلها و متنافرة من حيث الغايات. كلاهما لا يمتلك مفاتيح المدينة و لا أقفالها. بيد أننا ينبغي ألا ننسى أن ما ثارت المدينة في سبيل أن تحققه لم يتحقق بعد ، ولا حتى بالحد الأدنى الذي يتيح لنا الزعم بأن (( الحالمة )) باتت تعيش وضعاً آدمياً ، فضلاً عن مباهاة الآخرين ب(( عاصمة ثقافية )) ليس كمثلها شيء بزعم أن (( مئذنة السعيد )) هي (( أوبرا عايدة )). إن رحلة الألف ميل نحو هذا الحلم النائي ، تبدأ بخطوة واحدة .. واحدة فقط : أن نكف عن الغطرسة الفارغة ..