لم يعد بنا طاقة لاحتمال المزيد من الخيبات. الثوار خرجوا البارحة للمطالبة بقرارات حاسمة، فمنحهم الرئيس قراراً بتعيين نجل صالح الضنين قائداً لمحور المخا وباب المندب، أحد أهم المنافذ في بلادنا، وهو كما يبدو منفذ لعلي محسن يهرّب منه ما يريد. لم أكن أريد تفسير الغرض من قرار حاسم كهذا بقدر ما هو رثاء سئمته، ولقد أثقل كاهل حياتنا هذا الحال المحبط. كم يكون هذا القلب ليحتمل؟ وبدلاً من مطالبتنا بالعدالة لهذا الشعب، أصبح علينا المطالبة بالعدالة لسنحان، ومساواة رجالها، وإعادة الاعتبار لكل سنحاني كان على سوء فهم مع علي عبدالله صالح في سنواته الأخيرة. عندما وصلت ناديا (زوجة ستالين) إلى حيث يحتفل الزعيم، يدخن سيجاراً كوبياً، ويحتسي النبيذ الفاخر، بينما ترقص له زوجة رئيس جهاز الاستخبارات، وكانت ناديا في طريق عودتها من البيت، قد صادفت في محطة القطار مجاميع من الفلاحين الروس يساقون إلى أرخبيل الغولاغ، وصرخوا مستغيثين عندما عرفوها: "أخبري الزعيم بما نتعرض له"، فوصلت لتجد زعيم دولة العدالة يحتفل مثل قيصر روسي، لتصرخ ناديا في الزعيم وليس في زوجها: "أهذه هي عدالة الاشتراكية؟ الفلاحون يهلكون في جليد الغولاغ، وأنت تحتفل ببذخ! أهذه مبادئ لينين؟". ينتحر الحالمون عندما لا يعود بوسعهم احتمال المزيد من الخيانات. خيانة الحلم العظيم، وليس لأجل أن زوجها أطفأ سيجاره الفاخر في صدرها بعدما صرخت، ولا لأن زوجة رجل الاستخبارات ترقص له. انتحرت ناديا بوصفها ابنة الحلم، وليس بوصفها زوجة الزعيم. يحضرني مثال حلم العدالة السوفيتي ومآله دائماً، ذلك أنك بحاجة لأعظم الخيبات تستحضرها لتشهد على خيبتك في جو من التشويش والمغالطة. غير أن فارقاً بسيطاً هنا يمكن تبينه، وهو أن الحالمين السوفيت كانوا أيامها قد أدركوا هول ما صار إليه حلمهم، وكان ستالين منهمكاً في التخلص من بقيتهم، وليس في استخدامهم، وكان ذهن السوفيت قد بدأ الفصل بين حزب ستالين الشيوعي، وبين الشيوعية. ذهن النخبة السوفيتية والمثقفين المتحمسين للتجربة الاشتراكية من أوروبا وبقية العالم. المؤلم أننا دخلنا التغيير بنسبة كبيرة من المتابعين لتقلبات الدهر وتداول الأيام، وهم الآن قد عمموا مزاجهم المساير على الحالة اليمنية برمتها. نصرخ دائماً، وبودنا لو نحلم بدون عسكر ولا انتهازيين، لكنهم يسبقوننا بخطوة، وكأن هذا العالم ليس مكاناً للعدالة. أسأل عن شباب كنت أعرفهم أيام الساحة، ولا أحد يدري أين ذهبت بهم الأيام. والذين دخلوها مسألة عمل موش أحلام، كافأهم الواقع بعقود استثمارات الثورة، وكانوا جاهزين، فاستثمروها. أنا لا أعني الكبار الذين هم من وزن علي محسن أو حميد. أعني المستثمرين الشباب في مجال حقوق أسر الشهداء وإعلام الثورة ومنظمات المجتمع المدني باسم الساحة والثورة أبرموا اتفاقيات، وحصلوا على الدولارات وتذاكر السفر والحجز الطويل في أجنحة فنادق الماريوت وحياة رجنسي. جيل جديد من الوصوليين، ونحتاج لعقود من عمرنا المقصوف لنصل بهم إلى بوابة محكمة الشعب، نمنحهم هناك حصانة، ولا يعود في العمر بقية لإنجاز خيبة جديدة. التواطؤ واسع النطاق، وتجده حيث ذهبت حالة من الترقب لعدالة تقسيم النفوذ على كل المستويات. ولقد تخلى كثيرون عن التمسك أو إظهار طهرهم الثوري، مفصحين عن حاجتهم وحقهم بجزء من مغانم الزمن الجديد. وبدأت لهجة لا تشبه لهجة ناديا الحالمة وهي تقف وحيدة بوجه الانجراف الهائل، متسائلة عن عدالة الحلم. ذلك أن لهجة هؤلاء لا تتساءل عن عدالة المكافأة. وتسمع أشياء من قبيل أنا أول من.. ونحن الذين نادينا قبل الآخرين. لا أحد يمكنه الحؤول دون أن يحصل أبناء جيلنا على فرصتهم، لكن فكرة المكافأة ستدخل هي الأخرى ضمن رضا العاجز الذي عليه أن يختار بين مكافأة شاب من الساحة أو تعيين شاب من سنحان. أنت بالطبع سترضاها للشاب الذي في الساحة، راضخاً لمعيار لا علاقة به بالطهر الثوري، ولا بالحلم العظيم، بقدر ما هو اختيار لأقل الضررين. وحتى هذه لم تعد متاحة.. علينا تلقي طاقم جديد متكامل بعدة مستويات وأحجام للفاسدين الجدد. حصص تقل أو تكثر من قيمة الحلم الذي تم تفكيكه وبيعه في سوق الخردة.