أحمد سيف حاشد هبط الجوع على جسدي بغته.. داهمني كقدر متربص لي في كمين.. سيقاني خذله وتكاد أن تنهار من قوامها.. أتصبب عرقا.. يداي ترتعشان وافقد السيطرة على ثباتها.. جسدي كله يكاد أن ينهار ويقع على بعضه.. أكاد أن أتحول إلى كومة من حطام. لا يوجد مطعم قريب.. لم تعد قدماي قادره على حملي إلى أقرب مطعم، وأقرب مطعم بدى لي نائ وبعيد.. دخلت إلى بقالة قريبة بخطوات مرتعشة.. كان حالي كمن يحاول يستكشف أمرا وهو على عجل من أمره.. أقتربت من ذلك العامل الأجنبي في البقالة وكان يحشي الفطيرة بأشياء متنوعة لا أجيد اسمائها باللغة الإنجليزية، بل ولا اعرف أسماء بعضها حتى بالعربية.. حاولت التفاهم معه ولكنه لم يفهمني ولم أفهمه. *** حاولت ابحث عن برنامج الترجمة لعله يسعفني مما أنا فيه.. احسست أن يداي المرتعشة تخذلني، وذهني ينطفي.. أحسست بالتيه وعدم القدرة على التركيز.. صعب علي لملمة أشتاتي المبعثرة بين غائب ومفقود. حاول ما بقي مني الإنسحاب بخطوات كسيرة أجرها نحو الباب وإذ بصاحب البقالة يناديني أنت من أين؟ فأشرق وجهي حالما سمعته يتحدث العربية وأجبته: أنا يمني. ثم سألته: وأنت من أين؟! فأجاب: من حراز.. أحسست أن بابا من الفرح أنفتح وغمرني بلطفه.. *** أكلت قطعة شكلاته.. أحسست بالانتعاش والتوازن بعد نوبة بدت لي وشيكة.. صحتي غدت أفضل.. تجاذبنا أطراف الحديث.. أحسست أنه يعرفني، ولكن هذا لم يمنع من السؤال: – هل تعرفني من قبل؟! فأجاب: لا .. ثم سألته: هل تعرف ماجد زايد.. أجاب: لا.. أدركت ان غربة الرجل طويلة؛ ثم سألته: -هل تعرف عبده بشر؟! فأجاب: نعم ولكن معرفة محدودة.. لقد كانت لقاءات قليلة وقيلات أقل في عهد تقادم، دون أن يخفي اعجابه بالرجل مكثفا إياه بكلمة "طحطوح". احسست من لطفه ووده نحوي بألفة عجيبة.. أحسست وكأني أعرفه من فترة طويلة.. وجهه سموح وحبه جم وطيبته غامرة.. طلب باللغة الإنجليزية من العامل أن يعد لي ما هو أكثر من رغبتي بكرم سخي.. *** وحالما سألت الحرازي عن قيمة ما أخذت رفض وحلف أن لا يأخذ سنتا واحدا.. ظننت أن ماحدث سيكون لمرة واحدة.. هنا احيانا يحدث مثل هذا لاسيما إن كنت يمنيا حديث عهد بأمريكا. في المنطقة التي أقيم فيها يسميها البعض ب"اليمن الصغرى" وعدد اليمنيين فيها يزيدون عن الخمسين ألف نسمة.. هنا بعض البقالات والمطاعم ومحلات البيع بالتجزئه وصوالين حلاقة ليمنيين؛ وحتى اسمائها في لوحاتها مكتوبة باللغة العربية.. هنا يوجد شارع باسم إبراهيم الحمدي، وهنا أيضا تجد بعض السلع اليمنية في بعض البقالات بما فيها ماء شملان وبسكويت أبو ولد. في اليوم الثاني تكرر نفس المشهد وزدنا عليه بعض التفاصيل، وعندما سألته عن المبلغ أقسم بيمين آخر أن لا ادفع سنتا واحدا.. عرفته بنفسي أنني عضو في البرلمان اليمني حتى أوصل له رسالة أنني مقتدر والحقيقة أن الحال لا يشي بذلك ومع هذا أحسست أنه يعرف طباعي أكثر من نفسي. كان يعرض علي بإلحاح ورجاء أن أخذ قهوة أو ماء أو أي مشروب مع فطيرة "السندوتش" فيما كنت ارفض بعزة نفس ومكابرة موجعة وأدعي أنه يوجد لدي كل شيء. مع التكرار والخجل الذي يبتلعني كنت أشعر أنني قد صرت عاريا أمامه، ولأنه قد صار حافظا لوضعي وطباعي عن ظهر قلب كان هو الأخر يشعر بالخجل ويحرص أن لا يؤذي مشاعري.. لقد أحسست أكثر من مرة أنه أكثر خجلا مني ولكن صعب علي مقاطعته لأنني أحسست نحوه بحميمية نادرة. كنت أقول له انت تعرفني كثيرا.. أنت تعرف تفاصيلي دون أن تخبرني بذلك.. ولكنه كان يرد أنه لا يعرف عني شيئا ولم يسمع باسمي من قبل.. لقد نجح الرجل في وضعي بحيرة عميقة. قلت له: – ارجوك.. اريد أن أكون زبونا لديك وبهذه الطريقة سأنقطع عنك، ولن تراني مرة أخرى ويعز علي أن أفارقك.. لقد فعلها معي في رأس الشارع صاحب بقالة نبيل وكريم وأضطريت إلى مقاطعته ولا اريد الحال يتكرر معي هنا؛ فأطلق يمينا في الحال إن فعلت وشاهدني في الشارع لن يقل لي "السلام عليكم".. فباع لي بخصم أكثر من النصف ربما بمبرر "برأسماله دون خسارة" ليرفق بروحي ويخفف وقع ذلك على نفسيتي ووطأة خجلي.. قبلت هذا التعايش وصرت زبونا لديه وصرت آكل باليوم وجبتين بدلا من وجبة واحدة.. واحدة من لديه وأخرى من مطعم ليس بعيد. ولا أسوأ ما أعيشه من تحدي ووضع بائس إلا تافه في سلطة صنعاء يتهمني أنني صرت عميلا سريا، ومتورمة بالتفاهة في "الشرعية" تشمت بي دون أن أعلم أنه قد بلغها ما أعيشه من ظروف وما أخوضه من معركة تكاد تكون وجودية بين المرض المضاعف وضيق العيش وسوء النكد والأقلام الموحلة. ***