من المؤكد أن ضحايا الخطاب الجهادي المنحرف والإرهابيين والمرتزقة الذين يحصلون على كل التسهيلات ليتسربوا إلى التراب السوري من كل أنحاء العالم، ليسوا رسل سلام ولا يحملون معهم الحرية لشعب سوريا ولا نذر التغيير الذي تقر قيادة الدولة السورية قبل معارضيها بالحاجة إليه.. قبل عامين من الآن تقريباً كانت لدينا دولة عربية وحيدة هي سوريا متعافية بنسبة 70% ؛ تتمتع باكتفاء ذاتي إلى حد كبير وغير مكبلة بديون صناديق الإقراض العالمي ولا مجروحة السيادة .. دولة تتعاطى مع محيطها الإقليمي والدولي وتقيم علاقاتها الخارجية بمنظور عربي صرف وإنساني واسع وعلى محك مصلحة القضايا المركزية الكبرى للعرب.. وكان ينقصها فقط أن تبرأ من 30% مما يعتريها من نقائص متمثلة في تغول بعض النافذين على المصاف الاقتصادي واستشراء الفساد في الجهاز العام للدولة وضيق مجال التعبير عن الرأي وممارسة الحريات السياسية، ولم تكن الدولة السورية لتبرأ من هذه النقائص إلا كنتيجة لمخاض وطني داخلي يراعي الحفاظ على مكتسباتها ويستهدف التغيير بالمراكمة عليها، ولا يضرب العمود الفقري للدولة بذريعة إجراء عملية تجميل لوجهها .. لا يمكن للحريات السياسية أن تنهض على رافعة من دولة هشة وهزيلة في مؤسساتها ومرتهنة اقتصادياً بصورة كاملة وتتلقى الأوامر والتعليمات من دائنيها في كل صغيرة وكبيرة من شئونها .. إن قوة الاقتصاد هي مؤشر على قوة المناخ السياسي والعكس؛ والاستهلاك الاقتصادي الكامل هو ارتهان سياسي كامل بالضرورة ، فالسياسة هي في خلاصة مفهومها ليست إلا خطاباً اقتصادياً مكثفاً.. إن دوران عجلة الاقتصاد الإنتاجي كفيل بإنضاج ثمار الحريات السياسية كنتيجة طبيعية لتحُّولات الظروف الاجتماعية للقوى المنخرطة كشريك في عملية الإنتاج ، في حين أن الاقتصاد الريعي ذا المعدة الخاوية إنتاجياً يستحيل أن ينجز حريات سياسية أياً كانت عائداته الريعية ضخمة، وعلى العكس فإن وفرة السيولة الريعية خارج عملية الإنتاج هي مدعاة لسرمدية التخلف السياسي والاستبداد مهما تسربلت الأنظمة المسيطرة على هذه الوفرة بلافتات ديمقراطية براقة.. لا شك أن إحراق سوق حلب القديم المؤلَّف من خمسة آلاف متجر ويُعدُّ أقدم سوق في التاريخ كما وإحراق صوامع الغلال واستهداف أربعين ألف منشأة ومعمل وتفكيك وسرقة المئات منها و تهريبها إلى تركيا على أيدي العصابات المسلحة؛ له دلالته الفاضحة على هذا المصاف! إن قوى الهيمنة العالمية بقيادة أمريكا النيوليبرالية تعي هذه الحقيقة تماماً، وتعي أن أولى الخطوات لإخضاع بلد ما سياسياً هي كبح دوران عجلة إنتاجه الاقتصادي عبر حزمة إجراءات تستهدف عزله وحرمانه من التبادل الحر لجديد المعرفة والتقانة ومن موطئ قدم لتسويق مخرجاته الاقتصادية في السوق العالمية وتركه فريسة لتناقضاته الداخلية الناجمة عن العزلة ومن ثم الانقضاض عليه بصورة فجة ومباشرة عبر الغزو العسكري كالحال مع العراق أو بصورة ناعمة عبر صناديق الإقراض كالحال مع معظم بلدان جنوب الكرة الأرضية .. وفي الحالة السورية فإنها تقوم بالاثنين معاً وإن بدا أن وسيطها العسكري يرتدي مسوحَ ثورة داخلية! لقد استخدمت الإدارة الأمريكية كل تلك الحزمة الناعمة من العقوبات ووسائل القرصنة ضد سوريا على امتداد أربعة عقود، وفي الأثناء كانت الدولة السورية قادرة على إحداث ثغرات واسعة في جدار الحصار وإظهار مزيد صلابة برغم كل الخدوش التي لحقت بها فأسعفتها انتفاضة الشارع التونسي والمصري في 2011بذريعة مثلى لإنجاز ما عجزت القرصنة والعقوبات الجائرة في إنجازه إزاء صمود سوريا.. وهكذا دفعت الإدارة الأمريكية بكل ثقلها لتقويض الدولة السورية تحت ستار ((الربيع العربي)) الذي أشعل - مشفوعاً بجرعات إعلامية كثيفة ولئيمة – جذوة حماس الشعوب العربية للتغيير وأطفأ وعيها النسبي حيال كيفية حدوث هذا التغيير بما يفضي لتحقيق مطالب الشعوب منه لا أن يفضي إلى تثبيت أقدام القرصنة الأمريكية المترنحة أكثر فأكثر على تراب المنطقة.. كان من السهل أن تفرض أمريكا تسوياتها المهينة لأحلام المحتجين وتتدخل مباشرة في بلدان مكبلة سلفاً ومرتهنة لها كتونس ومصر واليمن وليبيا نسبياً، لكن الأمر عسير مع الحالة السورية موفورة السيادة ويستوجب قبل ذلك دك مداميك القوة السورية المتمثلة في بنيتها التحتية الاقتصادية وفي جيشها العقائدي المهني المتماسك والوطني التكوين ومؤسسات الدولة الأخرى .. وهو ما شرعت فيه قبل عامين ولا يزال مستمراً في ظل حالة الخدر العام التي يعيشها الشارع العربي ويغذيها إعلام المؤامرة ودول البترودولار ويحرص على دوامها. هل علينا أن نصفق لكل هذا الإرهاب المعولم فقط لأنه يزاول الذبح وتقطيع أوصال المجتمع طائفياً تحت ستار ((الربيع)) الذي بات واضحاً أنه يعيد بناء المصالح الأمريكية على أنقاض شعوب المنطقة التواقة للخلاص من هيمنة الواحدية القطبية ومعادلة كوكب القلة المترفة والأغلبية المسحوقة والمستغلة.؟!